منذ ظهور الصحافة بمعناها الحديث مع بدايات القرن السابع عشر، لم يشهد هذا المجال تطوّرا كالذي عرفه منذ بدء ثورة الإنترنت. صحيح أن اختراع الراديو قد أثّر على المجال، وتبعه بعد ذلك اختراع جهاز التلفاز، لكن ميلاد الشبكة العنكبوتية قلب الكثير من الأساسيات، ليس فقط لأن التقنيات الحديثة تُتيح تجميع الوسائط المتعددة من نص وصوت وصورة وفيديو وبيانات بشكل يُدمج كل أشكال الصحافة في شكل واحد، بل لأن هذه التقنيات تتطوّر باستمرار ممّا يجعلها ثورة تقنية ممتدة في الزمن.
أكثر من أيّ وقت مضى، أضحت أساسيات وقواعد الصحافة على المحك في مواجهة هذه الثورة التقنية، لدرجة أن هناك من يتنبأ بموت الصحافة ما دام قراؤها ومشاهدوها بات بإمكانهم الوصول إلى مصدر المعلومة دون الحاجة إلى وسيط، لا سيما مع عصر مواقع التواصل الاجتماعي التي أتاحت لكل المؤسسات وكل الشخصيات تقديم المعلومات والتعبير عن الآراء دون الحاجة إلى الاتصال بالصحفي، إذ يتساءل مناصرو هذه الفكرة: إذا بات القارئ/المشاهد قادرا على الوصول إلى المعلومة من مصدرها، بل إذا صار بدوره قادرا على كتابة المعلومة وإيصالها عبر المواقع الاجتماعية، فما الداعي لوجود الصحفي؟ سؤال يحمل بعض جوانب سؤال مرير -لكنه واقعي- طرحه رجل الأعمال الفرنسي برنار تابي "لماذا تشتري جريدة إذا كان بمقدورك شراء صحفي؟".
قد يبقى هذا التنبؤ بعيد التحقق بما أن وسائل الإعلام لا تزال في ازدياد رغم التطوّر المستمر لوسائل التواصل الاجتماعي، خاصة أن الحاجة إلى الصحافة أضحت متزايدة في العصر الحالي، بل اكتسبت دورا إضافيا بعيدا عن نقل ما هو موجود أصلا ومتوفر للجميع دون عناء (رغم أن نقله لا يشكّل أيّ تنقيص للصحافة، بل هو أمر ضروري طالما يتعلّق الأمر بخبر مهم للرأي العام). وهكذا عزّزت الصحافة من دورها في التثبت من المعلومة والتحقيق فيها وكشف زوايا جديدة، وإن كان هذا النوع من الصحافة، أي صحافة التحقق (وليس بالضرورة التحقيق) قد ضاعت وسط اللهاث وراء النقرات، لدرجة أن الأخبار الكاذبة أضحت وسيلة مثلى لجلب الزوار، فمن ينسى أن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة قُرئت عليه الفاتحة ترحما أكثر من مرة في عدة مواقع وهو لا يزال حيا يرزق؟
وقد استفادت الصحافة كثيرا من التقنيات في عدة جوانب، لكنها تأثرت سلبا في جوانب أخرى.
الثورة التقنية في خدمة الصحافة
أتاحت شبكة الإنترنت والتقنيات الحديثة أدوات كثيرة للصحفيين سهّلت عملهم بشكل كبير، منها: سهولة الولوج من أي مكان، وآنية الخبر، وإدماج الوسائط المتعددة، وغير ذلك. ومن المكاسب المتحققة:
- مصادر عامة متعددة لإيجاد الأخبار: غداة تغطية صحفية لمؤتمر الأمم المتحدة للمناخ الذي احتضنته مدينة مراكش المغربية العام الماضي، وفَّر موقع الأمم المتحدة للصحفيين تغطية مباشرة لكل الجلسات التي كانت تقام في آن واحد.. كمثال قوي لما أضحت التقنية توفره اليوم من مصادر متعددة للأخبار. بل بات بإمكانك اليوم أن تغطي ندوة صحفية دون أن تغادر مكتبك لأنها تبث على الفيسبوك مباشرة. صحيح أنك ستغفل تفاصيل لا تظهر في الكاميرا، لكن للضرورة أحكام، خاصة في أيام الضغط المهني.
- صحافة المواطن: قبل أشهر، نشر شاب مغربي على حسابه بموقع الفيسبوك فيديو من داخل مدرسة عمومية يُظهر شخصا يعنّف طفلة تَبيّن فيما بعد أنها مصابة بالتوحد. بعد اتصالي بالشاب مكّنني من رقم هاتفي من داخل المدرسة، وقادني المصدر إلى مصادر أخرى فنشرت خبرا (1) بمعلومات تفصيلية أكدتها وزارة التعليم في بلاغ أصدرته لاحقا.
لم يعد ممكنا اليوم لصحفي يعمل في موقع إلكتروني -إلا إذا كان هناك قرار تحريري صارم بتفادي ذلك- أن يتجاهل ما ينشره المواطنون على حسابات التواصل الاجتماعي، فكما يقول الباحث في صحافة الإنترنت دان جيلمور "قديما كان الصحفي هو من يكتب المسودة الأولى للتاريخ، اليوم بات المدون هو من يقوم بذلك"، إذ يكون المواطن شاهدا على وقائع تكون صالحة لإنجاز تغطيات صحفية.
- صحافة المحمول: انتقل الهاتف المحمول في العمل الصحفي من أداة تواصل إلى أداة عمل متكاملة.. لا جديد يقال إذا تحدثنا أن الهاتف يمكّن الصحفيين من التقاط الصور والفيديو وتسجيل الصوت وتدوين الأفكار والربط بالإنترنت وغير ذلك، لكن ربما يكون جديرا بالاهتمام معرفة كيف أن الهاتف مكّن من صحافة تحمل اسم MOJO (MOBILE JOURNALISM)، تقوم بتغطية متكاملة باستخدام الهاتف، فهي تستفيد من تقليل معدات العمل الصحفي ودمجها في مكان واحد، مع ما يتيحه ذلك من عدم جذب أنظار السلطة عندما يتعلق الأمر بتغطيات في مناطق لا تحابي الصحفيين.
- تقليل تكاليف الاستثمار في العمل الصحفي: هل كان يُمكن لشابين مغربيين بدون استثمار ضخم أن يُنشئا مؤسسة إعلامية يصل قراء موادها إلى الملايين شهريا منذ سنواتها الأولى؛ لو لم يستفيدا من التقنيات الحديثة التي قلّلت من ميزانية إنشاء شركات الإعلام؟ نتحدث هنا عن موقع "هسبريس" الذي لا يزال منذ نشأته يتربع على عرش الصحافة الرقمية بالمغرب.
في المقابل، تحتاج الجرائد المطبوعة لمبيعات تتجاوز سقف المئة ألف نسخة، أي مئات آلاف الدولارات لتغطية مصاريف الطبع. كما تحتاج قناة فضائية بالشكل التقليدي، إلى صندوق استثماري يتيح تغطية تكاليف البث والتصوير والاستوديوهات والطاقم وغير ذلك، ممّا يجعلنا نخلص إلى أن تخفيض تكاليف الاستثمار يعدّ من أكبر ما ربحته الصحافة مع التطوّر التقني، فحتى الاستثمار في الإعلان والترويج اللذين يعدّان حاليا من أكثر ما تصرفه مؤسسات الإعلام الرقمي، لا يصل أبدا إلى تلك التكاليف الباهظة في الإعلام التقليدي. ومن أكبر نتائج انخفاض هذه التكاليف هو انتشار صحف مستقلة أو معارضة، تستطيع الاستمرار في العمل بميزانيات بسيطة.
- سوق قراء/مشاهدين أكبر: في أحد الأيام، صادفت عمودا صحفيا جميلا في جريدة ورقية معدلات توزيعها ضعيفة إن لم تكن كارثية، وقارنت ما قرأته بعمود شعبوي غاية في السطحية شاركه الكثير من الناس على التواصل الاجتماعي، والمفارقة أن العمودين تحدثا عن الموضوع ذاته.. لقد أتاحت خاصية المشاركة والأخبار الممولة انتشارا أكثر للأخبار، وبالتالي معدلات قراءة متزايدة.
لا يتجاوز عدد النسخ الموزعة لأول جريدة مغربية 55,1 ألفا وفق إحصائيات نهاية العام الماضي (2)، بينما لا تتجاوز الجريدة الثانية 47.4 ألفا، مع ضرورة التنبيه إلى أن عدد النسخ لا يعني عدد القراء، بما أنه جرت العادة أن الجريدة الواحدة قد يقرؤها أكثر من شخص، كما أنه ليست كل النسخ تشترى بما أن بعضا منها يعاد إلى شركات التوزيع على الدوام.
لكن حتى لو ضاعفنا عدد النسخ لكل جريدة فلن تصل أبدا إلى أرقام زوار المواقع الإلكترونية الأولى في المغرب على سلم موقع أليكسا (المتخصص في ترتيب المواقع)، إذ يتجاوز كل موقع منها نصف مليون زائر يوميا، كما أن التطوّر التقني أتاح للمؤسسات الرقمية أدوات قوية تتيح إحصائيات دقيقة لعدد الزوار وعدد الزيارات والوقت الذي يقضيه الزائر ومن أين يأتي وما هي المواضيع التي يفضلها، بشكل لم يكن متاحا من قبل.
- استحالة الرقابة: عانت الصحافة في الدول التي لا تحترم حرية التعبير أو ترى في الإعلام أداة للدعاية فقط، من رقابة سلطوية وصلت حد منع طبع الصحف وتوزيعها، ومنع إنشاء القنوات الفضائية الخاصة، (أو العمل على توجيه الصحف والإذاعات والقنوات بما يخدم مصالح السلطة). بيدَ أن التطور التقني أتاح للصحافة المستقلة إمكانية تجاوز كل أشكال الحظر، فحتى حجب المواقع ليس حلا ناجعا للسلطة ما دامت هناك طرق عديدة تتيح فتح هذه المواقع (مثل VPN)، وحتى إن تعرّض الموقع لضربة اختراق، فيمكنه النشر في مواقع التواصل الاجتماعي.
تجاوز الرقابة لا تستفيد منه فقط المواقع الرقمية، بل حتى القنوات الفضائية، فمجموعة من الدول تحرم قنوات إخبارية من رخص العمل في ترابها الوطني، لكن هذه القنوات تستفيد من المواقع الإخبارية المحلية أو من صحافة المواطن أو من صحفيين مستقلين لأجل إيجاد الفيديو، ويمكن إعطاء المثال بالجزيرة التي تستفيد من فيديوهات محلية في إعداد تقارير عن أكثر من بلد مُنعت من العمل فيه، والأمر ذاته بالنسبة لقناة "فرانس 24".
قواعد المهنة في غمرة الثورة التقنية
في عالم تنافسي لا يسمح بالتأخر، تستخدم مواقع الصحافة الرقمية مجموعة من الأدوات المتطورة للبقاء ضمن دائرة الضوء. ولنأخذ مثال موقع "هسبريس الرياضية" (3) التابع لمؤسسة "هسبريس"، الذي اعتمد مؤخرا على تطوير أكبر لتطبيقه على الهواتف الذكية، من خلال التعاقد مع شركة أجنبية، بشكل يجعل الزائر وفيا للتطبيق في معرفة آخر الأخبار الرياضية، لا سيما مع تقنية "PUSH" التي ترسل الأخبار العاجلة، زيادة على تطوير خادم (سيرفر) التطبيق كي يتمكن الزائر من تصفح المواد بسرعة قياسية، مع جعل التطبيق متاحا على كل المنصات الإلكترونية بالمقاسات المناسبة. كما أضحى الموقع يستخدم صفحاته على التواصل الاجتماعي كمنصات إخبارية منفصلة، بدل أن تكون مجرّد بوابة لجلب النقرات إلى الموقع، وفق حديث لمجلة الصحافة مع مدير نشر الموقع خالد البرحلي.
لكن هل غيرت كل هذه الأدوات التقنية قواعد الصحافة، خاصة ما يتعلق منها بالصدق والتحري والتثبت والدقة؟ ينفي البرحلي ذلك، بل يؤكد أن تجربة العمل داخل مؤسسة هسبريس بيّنت أن الوصول إلى الزائر الوفي يبدأ أساسا من الخط التحريري الواضح غير الموجه، والمبني على صدق المعلومات المقدمة للزائر. ثم تزداد درجة الوفاء عندما تتحول الصحيفة إلى علامة مسجلة في ذهن القارئ عبر الاستمرار في نشر أخبار لها مصداقية مع متابعتها بالتحليل والشرح، دون الوصول إلى مستوى الوصاية على الزائر، بل المشاركة في تشكيل رأيه.
يتفق محمد لغروس مدير موقع "العمق" -أحد أنشط المواقع الإخبارية المغربية- في أن الصحافة الرقمية غيّرت بعض أساسيات الكتابة الصحفية، أو الطريقة التي كانت تُزاول بها المهنة سابقا، لدرجة أن تقنيات الصحافة الرقمية أثرت على نظيرتها الورقية كما يحدث في العنوان. إلا أن الصحافة كمهنة تنقل بشكل أساسي المعلومات وتعلّق عليها وتشرحها وتكشفها؛ لن تتغير.. صحيح أنها تتكيف مع التطور التقني وتتأثر به سلبا وإيجابا، لكن جوهر الصحافة يجب أن يبقى كما هو.
والواقع أنه يجب الإقرار بأن قواعد العمل الصحفي وأخلاقياته تشبه كثيرا "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، فهي مجموعة مبادئ أصيلة نفترض أنها ستبقى على الدوام مؤطرة للصحافة مهما تطوّر العالم ومهما شهدنا أشكالا جديدة من الصحافة.
لم تتغير مبادئ الميثاق الأخلاقي التي تتعامل به جمعية الصحفيين المحترفين في الولايات المتحدة (4) -أقدم جمعية من نوعها في البلاد- منذ اعتماده عام 1973. بيدَ أن ما يجري في عالم الإعلام الرقمي اليوم، يبيّن حقيقة مؤلمة يعترف بها الكثير من العاملين في الميدان، وهي أن التطور التقني بقدر ما أفاد الصحافة، مسّ بالقدر ذاته جوهرها بشكل سلبي، وسط تسابق محموم نحو الزيارات بأي ثمن. فإن كانت ظاهرة انتهاك قواعد المهنة وأخلاقياتها قد انتشرت في عهد الصحافة المطبوعة والقنوات الفضائية لجلب أكثر عدد من القراء/المشاهدين، فالظاهرة تفاقمت في زمن الإنترنت.
هوامش
(1) https://arabic.cnn.com/world/2016/12/03/child-violence-school-morocco
(2) http://www.hespress.com/medias/327827.html
(4) https://www.spj.org/pdf/ethicscode/spj-ethics-code-arabic.pdf