نقلت تفجيرات لندن في يوليو 2005 الصحافة والإعلام إلى عالم جديد، حيث لم يستطع الصحفيون الوصول إلى صورة الأحداث في المترو تحت الأرض وفوقها، لكن المواطنين كانوا أسرع إذ رصدت كاميرات الجوال مئات الصور ومقاطع الفيديو التي التقطت من أناس ليسوا محترفي تصوير أو صحفيين. وأمام شح الصورة الاحترافية اضطرت وسائل الإعلام والصحف بشتى أنواعها أن تتعامل مع صورة المواطن ومعلوماته الأولية لننتقل إلى عصر "صحافة المواطن".
انتبهت قناة "البي.بي.سي" إلى هذا التغير فاتجهت إلى صحافة الجماهير وبدأت تفعيل البرامج التي تدعم مشاركة الجماهير للفيديوهات التي يشاركونها مع أصحابهم لتكون القناة وجهتهم الجديدة.
وأتاح انتقال العالم من الشبكة العنكبوتية الأولى "wep1" إلى الشبكة العنكبوتية "wep2"، أي انتقال الجمهور من مستقبلين إلى مرسلين؛ كماً هائلاً من المعرفة والفيديو، تاه معه الجمهور نفسه، في تفضيلات الانتقاء بين مقاطع الفيديو.
بحثت كثيراً للوصول إلى أسباب تفضيل الناس للفيديو على النص، والفيديو الصغير على حساب الكبير، ولماذا الوقت هو العامل الأكثر أهمية للجمهور، وليس الجودة والوضوح ولا المحتوى؟
لكني لم أكن الوحيد الذي أصيب بحيرة الفيديو والنص. انظر كيف انتقل مُلاك الصحف والجرائد المطبوعة إلى المواقع الإلكترونية، ولم تكتف بنقل أخبارها المكتوبة في الجرائد عبر مواقع التواصل الاجتماعي فحسب، بل أنشأت أقساما خاصة لصناعة الفيديو والمحتوى، ومراقبة نشر المقاطع ومتابعتها، مثل جريدة "الغد" الأردنية التي باتت تقدم برامج فيديو خاصة على صفحتها الإلكترونية تتضمن إرشادات صحية أو غرائب كتجربة جديدة تخوضها الصحف لتواكب رغبة الجماهير.
ولعل سبب تفضيل الناس للفيديو على النص أن عين المستخدم أصبحت ماسحة وليست قارئة في عصر السرعة، وخضعت كثير من المؤسسات غير الرسمية لمطالب "السكنر آيز" الجديدة، وأصبح يروق لصانعي الفيديو أن ينقلوا الفيديو إلى المشاهد فوراً وبشكل سريع، فقد يروق المشاهد متابعة تقرير صغير عن فتيات الريف الروسي وهن يصنعن ثوباً تقليدياً للعروس، أو عن طريقة صناعة آلة عزف العود في المغرب العربي في أسرع وقت.. ألا تلاحظ أن الهواتف النقالة تحدِّث من إمكانيات التسريع لالتقاط الفيديو ETIME -LAPS؟
تياران في المواجهة
على كل حال هناك تياران اتفقا على ضرورة الإثارة في الفيديو واختلفا على الوقت والمعلومة، فقد أكد التيار الأول أن المعلومة هي ما يبحث عنه الجمهور، فصنع فيديو تصل مدته حتى 7 دقائق كما في موقع "ميدان" التابع للجزيرة، الذي وصلت مدة الفيديوهات فيه من 5-7 دقائق معتمداً على المعلومة التي يقدمها من خلال الصورة، وقد لاقى عددا كبيرا من المشاهدات وصلت حتى نصف مليون مشاهدة للمقطع الواحد.
شخصيا أجدني منجذبا لهذا النوع من مقاطع الفيديو حتى تلك التي تبلغ مدتها 15 دقيقة، ذلك لأنني بحاجة إلى تفسير المعلومة والوقوف على مصادرها وتحليلاتها. صحيح أن وقتها طويل نسبيا، لكنه أقصر من الفترة التي سأقضيها وأنا أبحث عن المصادر وتحليل الخبر.
غير أن التيار الثاني يرى أن الوقت مقدم على حساب المعلومة، نتيجة انشغال الناس وحجم المعلومات الكبير المتدفق من خلال الفيديو. ويوافق هذا الرأي إبراهيم صايمة خبير صناعة الفيديو حيث يقول "الفيديوهات الأكثر مشاهدة بالكامل هي التي لا تتجاوز الدقيقة، دقيقة واحدة فقط يجب أن تجمع بين المعلومة والإثارة والسرعة".
ويضيف صايمة: "الوقت أول ما ينظر إليه عموم الجماهير.. أكثر المقاطع إقبالاً أقلها وقتاً، وأكثرها متابعة التي لا تتجاوز الدقيقة، والهدف أن يبقى المشاهد متعطشا، فلا يشبع".
ويرى أيضاً نموذج aj+ التابع للجزيرة الذي يعتمد الفيديو القصير من خلال محتوى المعلومة والإثارة بما لا يتجاوز الدقيقتين، فمثلا مقطع صغير مدته دقيقة وخمس ثواني فقط أنتجته AJ+ عن حلاق إسباني يستخدم السيوف والنار لتنفيذ أحدث قصات الشعر المثيرة للانتباه، حصد مشاهدات لم تكن متوقعة.
الوقت أولا
صانع ومحرر محتوى الفيديو في جريدة "ديلي صباح" التركية أحمد إسماعيل؛ من المنتمين إلى تيار الوقت على حساب المعلومة، يقول إن "الجيل الجديد لا يفضل الانتظار طويلا للحصول على المعلومات، ولا يحب استخلاصها أو البحث للوصول إلى نتائج مبنية على تحليلات معمَّقة، ولا يفضل قراءة ما حدث أو يحدث، بل السماع إليه ومشاهدته بعينه وبأسرع وقت ممكن".
ولأن الاستخدام الأكبر للشبكة العنكبوتية في العالم من خلال الهاتف المحمول، فلا يزال يوتيوب يتصدر المواقع الأكثر استخداماً في العالم، مما يدل على أهمية الفيديو. لكن لك أن تتخيل تأخر الفيديو أو الصورة عن التحميل لثوان معدودة عبر وسائل التواصل الاجتماعي في الهواتف المحمولة، مباشرة سينتقل المستخدم إلى مقطع آخر أسرع في التحميل.. وهذا تحدٍّ آخر تواجهه الفيديوهات لتحوز أكبر نسبة مشاهدة.
العالم في جيب الجمهور
يفسر المختص في رصد متابعي الفيديو القصير نفسيا واجتماعياً إسماعيل أبو شميس ظاهرة الاهتمام بـ"الوقت أولاً" بقوله إن "العالم ملخص في جيب الجمهور، فالهاتف معه في وسائل النقل، في العمل، في الشارع، في الساحات والمتنزهات، لذلك عدم التركيز الكامل يدفعه للمقاطع الصغيرة على حساب الكبيرة، حيث ينتقل مباشرة عن المقاطع التي تتجاوز 7 دقائق لأن المكان لا يوفر أجواء مناسبة للتركيز".
مكّنت التقنيات الحديثة المستخدمين من تجاوز الإعلام الرسمي إلى ما وراءه، وتحول معها الصحفي القادر على تقديم المعلومة أو الإثارة بأسرع وقت مصحوبة بالصورة إلى شخصية مؤثرة مشهورة في المجتمع. أبعد من ذلك، فقد منحت لشخصيات شبابية من خارج ميدان الصحافة مساحة للتعبير عن رؤيتهم في الأحداث الجارية، في عالم محدد ضمن مواقع التواصل الاجتماعي كالإنستغرام وتويتر وفيسبوك ويوتيوب.
تقطير الفيديو
من خلال الانتقال بين جمهوري المحتوى والوقت، كان لا بد من تقطير الفيديو بما يتناسب مع ساعات ركوب الحافلات، أو مع "البريك" داخل العمل، أو مع قصاصات الوقت داخل الاجتماعات المملة، كل ذلك جعله يقدَّم قصيراً. لكن من خلال تجوالي بين الناس في المطارات والأماكن العامة، وملاحظة ما يتابعون من فيديو، وجدت أن كثيراً منهم يتابعون الفيديو الصامت، ثم تساءلت: هل نحن بحاجة أيضاً لتقطير النص وتركيبه على الفيديو؟
نعم، لم تحرم الكتابة على الصورة الجمهور من معرفة القصة دون إزعاج الناس، ودون الحاجة إلى سماعات الأذن، وقد تتطور هذه الطريقة لإرشاد الناس في المطارات والمحلات التجارية والأماكن العامة دون الحاجة إلى سماع الصوت ومنعاً للإزعاج مستقبلاً، وهذا يساعد في انتشار أوسع حسب منهجية "العين الماسحة" في الفيديو.
ولعل التنافسية في التطبيقات بين فيسبوك وتويتر وإنستغرام وواتساب ويوتيوب، جعلت المستخدم يحاول المرور على كل المنصات بأسرع وقت ممكن، ولا يستطيع أن يمضي وقتاً طويلاً على منصة ويتجاهل المنصات الثانية، والجماهير تبحث عن الاختصار في الوقت على حساب المتعة أو المعرفة، وفق تجربة المختص في متابعة وتحرير الفيديو السياسي محمد منصور من غزة، مما يجعله بحاجة إلى التقطير سواء على صعيد الفيديو أو النص أو حتى التعليق.
ولكن ماذا عن خبراء إعداد البرامج الوثائقية أو صانعي الأفلام الوثائقية الطويلة، الذين يقدمون قصصاً شيقة ومعلومات قوية تغني عن كثير من الكتب، وتمنح الجمهور نقلة نوعية في تكوين المعرفة والثقافة البصرية؟ ربما سيجدر بهم التفكير مطولا لجمع المعلومة والفانتازيا في أعمالهم لضمان المتابعة.