يعي موقع فيسبوك دوره الكبير في الصحافة الرقمية، فهذه الشبكة الاجتماعية التي أنشئت في البداية لأجل الربط بين الناس وخلق مجتمعات افتراضية، أضحت اليوم أكبر مصادر جلب الزوار بالنسبة للكثير من المواقع الإعلامية، زيادة على المنافسة الشديدة التي يقوم بها مستخدمو هذه الشبكة، بقصد أو بغير قصد، للصحفيين وللمواقع الإخبارية، فيما يتعلّق بكتابة الأخبار ونقلها ومشاركتها.
هذا الوعي ظهر جليا هذا العام في مشروع يحمل اسم "صحافة فيسبوك"، أعلن عنه عملاق التواصل الاجتماعي شهر يناير/كانون الثاني، ويعمل هذا المشروع بثلاث طرق، حسب ما نشره الموقع (1)، الأولى هي تطوير مشترك لمنتجات جديدة، الثانية تدريب الصحفيين وتقديم أدوات لهم، والثالثة تتيح تدريبا للجميع.
نظرة عامة على المشروع
بخصوص الطريقة الأولى، أكد الموقع أنه سيبدأ تعاونا عميقا مع مؤسسات الأخبار، عبر عدة أشكال جديدة، ومن ذلك المقالات الفورية، الخدمة التي تتيح لمستخدمي فيسبوك ولوجا سريعا للقصص التي تنشرها المؤسسات الإعلامية في صفحاتها، وهي خدمة بدأت قبل مدة، لكن فيسبوك عمّمها هذا العام على كل المؤسسات الإعلامية الراغبة في ذلك.
ومن الأشكال الأخرى، تشجيع الصحافة المحلية والمستقلة وتطوير النموذج الاقتصادي، ومن ذلك العمل على تمكين المؤسسات الإعلامية من الربح المادي، وحلّ المشاكل التقنية، وتنظيم لقاءات مع الصحفيين.
أما فيما يتعلّق بالطريقة الثانية، فقد أعلن فيسبوك أنه سيوفر تدريبات على الإنترنت بتسع لغات للصحفيين حول منتجاته وأدوات العمل التي يوفرها، وتدريبات خاصة لمؤسسات الإعلام المحلية بشراكة مع مؤسسات للتدريب الصحفي.
كما سيعمل فيسبوك على تطوير أدوات خاصة بالصحفيين، ومنها أداة "CrowdTangle" التي تتيح معرفة مدى قوة حضور المؤسسات الصحفية في المواقع الاجتماعية، زيادة على تمكين صفحات هذه المؤسسات على فيسبوك من إدخال صحفيين إلى طاقم النشر في الصفحة ليقوموا بالبث المباشر داخلها لأنشطة معينة، فضلا عن استفادة المواقع الإخبارية من تقنيات خاصة للتأكد من صحة الصور والفيديو المُنتشر في فيسبوك.
وفيما يتعلق بتدريب الجميع، فقد أعلن فيسبوك عن دعم طرق جديدة للمستخدِمين في قراءة ومشاهدة المواد الإعلامية، بشراكة مع مؤسسات الإعلام والباحثين وخبراء التربية، وذلك لأجل التركيز على أمرين اثنين، أولا ما يعرف بـ"ثقافة المعلومة"، التي تتيح للمستخدمين جرد المؤسسات الإعلامية التي يثقون بها وتقوية الطرق التي يتحققون بها من صدق المعلومة، وسيعمل فيسبوك على دعم المؤسسات الصحفية في تقوية هذه الثقافة عبر مشاريع وأفكار ودورات تدريبية ومنح مادية.
أما الأمر الثاني في هذه الطريقة، فهو محاصرة الإشاعات، فزيادة على إمكانية إشعار فيسبوك بوجود روابط لإشاعات أو روابط للسبام، فقد أطلق فيسبوك مشروعا مع عدة مؤسسات إعلامية وقعت على ميثاق قواعد الشبكة الدولية للتحقق من الأخبار، لأجل رصد الإشاعات على صفحاته.
وبدأ فيسبوك في تنظيم أنشطة هذا المشروع، فقد احتضنت باريس حدث الـ"hackathon" في أولى نسخه الخاصة بوسائل الإعلام، وهو حدث التقى من خلاله مهندسو فيسبوك بصحفيين ومدونين ونشطاء إعلام وتقنيين ومهتمين لغرض الحديث عن الخصائص أعلاه، خاصة مكافحة الأخبار الكاذبة وخلق أشكال جديدة للنشر، كما جرى تنظيم حدث من لدن "مجموعة ثقافة المعلومة في آسيا والمحيط الهادي" في سيدني بأستراليا.
لماذا اتجه فيسبوك نحو الصحافة؟
لم يأتِ قرار فيسبوك بإطلاق هذا المشروع لسواد عيون المؤسسات الإعلامية، فأيّ خطوة يقوم بها عملاق التواصل الاجتماعي تأتي بعد دراسات عميقة تبيّن له مدى استفادته من هذه الخطوة في المستقبل. ويمكن أن نعدّد الأسباب كالتالي:
تحقيق نسبة عالية من الزوار: تستفيد الصحف والمواقع الإلكترونية من فيسبوك في جلب الزوار، ويمكن أن نشير، حسب بيانات أليكسا، أن فيسبوك وتويتر مثلا يساهمان بـ80% من نسبة زوار مجموعة من المواقع الإخبارية، حتى وإن كان ذلك دون دفع مال لترويج روابط هذه المواقع على صفحات التواصل الاجتماعي. لذلك ففيسبوك يرغب بعلاقة "ربح-ربح"، أي أن يتحوّل إلى شريك أساسي لوسائل الإعلام بدل أن يبقى مجرّد وسيلة لها لضمان الانتشار.
المساهمة في تقليل روابط اصطياد النقرات: سبق لفيسبوك أن أعلن عام 2016 أنه سيحارب ما يُعرف بروابط اصطياد النقرات، أي تلك الروابط التي تستخدم عناوين تقديمية تُخفي المعلومة وتجبر الزائر على النقر عليها ليفاجأ بأن مضمونها ضعيف للغاية ولم يكن يستحق الزيارة. لكن ولحدود اللحظة، لا تزال هذه الروابط منتشرة، ممّا يحتم على فيسبوك تطوير آلياته لمحاربتها.
سلبيات هذه الراوبط لا تتوقف فقط في إضاعة وقت المستخدم، ولكن كذلك في تحويل فيسبوك إلى واجهة لعرضها ممّا يجعل المستخدم يتيه في فيسبوك بين هذه الروابط التي يتم نشرها بطرق ملتوية، كتعميمها على مجموعات فيسبوك التي يُدخل فيها المستخدمون عنوة ودون موافقتهم، لذلك ففيسبوك، وعندما يقرّر محاربة هذه الروابط، يقوم بذلك لأجل مستخدميه، ولأجل استمرار ثقتهم فيه كالموقع الاجتماعي الأول عبر العالم.
محاربة الأخبار الكاذبة: مع تراجع مستوى احترام أخلاقيات المهنة إلى درجة أن عددا من المواقع الإخبارية المعروفة باتت لا تتحقق بالأمر المطلوب قبل نشر الأخبار، ومع سهولة إنشاء المواقع الإخبارية وفتح المجال أمام من يرغبون بالربح المادي فقط دون احترام قواعد الصحافة، صارت الأخبار الكاذبة جزءا أساسيا ممّا هو منشور في فيسبوك.
لذلك فمحاربة هذه الأخبار تمثل لفيسبوك هدفا أساسيا، إذْ لم يكن أصحابها ليتشجعون على القيام بتداولها لولا علمهم أنها تحصد متابعة كبيرة على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي.
تخفيف التوتر مع الصحافة وبناء علاقة تكاملية معها: اتُهم فيسبوك كثيرا بتوجيه العديد من الضربات للصحافة، فمثلا إعطاء فيسبوك الأولوية للفيديو والصور والنص المنشورة في صفحاته على الروابط، والأهمية الكبيرة التي يعطيها للبث المباشر، بحيث يكون التفاعل كبيرا مع هذا البث مقارنة بالأنشطة الأخرى، زيادة على تخفيضه نسبة وصول الرابط إلى الجمهور (لا تتجاوز في أفضل الحالات المجانية 5% من مجموع المعجبين)، كلها أمور ساهمت في النظر لفيسبوك على أساس أنه منافس لوسائل الإعلام حتى وإن كانت تستفيد من خدماته.
والواقع أن التطوّر التكنولوجي هو من يوجه الضربات للصحافة التقليدية وليس فيسبوك، لأن الشبكات الاجتماعية عموما مكَّنت الزائر من معرفة الكثير من الأخبار دون المرور عبر المواقع الإخبارية، لذلك ففيسبوك يسعى إلى تخفيف هذا التوتر وطمأنة وسائل الإعلام أنه يمكن أن يكون شريكا فعالا لها.
الدور الكبير للشبكات الاجتماعية في بناء الأخبار: بناء على الفقرة السابقة، ففيسبوك صار مدارا لمستخدميه من أجل نشر الأخبار التي ترد عليهم دون الحاجة إلى وسائل الإعلام، وهو ما يصطلح عليه بـ"صحافة المواطن"، عندما يكون المستخدم هو مصدر الخبر بصورة يلتقطها أو فيديو يصوّره أو نص إخباري ينشره أو بث مباشر ينقله، وكثيرا ما تتحوَّل هذه المنشورات إلى ضجة حقيقية، تتجاوز بكثير التفاعل الحاصل في صفحات وسائل الإعلام.
لكن هذه الصحافة تخلق الكثير من التحديات لأنها لا تمرُّ عبر قواعد الصحافة المهنية وأخلاقياتها، وأحيانا لا تحترم حتى القوانين الدولية المتعلّقة بحقوق الإنسان (صور تنتهك الكرامة الإنسانية مثالا)، وهو ما يجعل فيسبوك يفكرّ في هذا المشروع لأجل تحسين دور مستخدميه في نشر الأخبار، وبناء ثقة ثلاثية، بينه كمستضيف لهذه المواد، وبين المستخدم الذي نشر المادة، ووسيلة الإعلام التي تودُّ الاستفادة منها في النشر، فمنشورات المستخدمين صارت اليوم أحد المصادر المهمة لوسائل الإعلام.
هل سيتمكن فيسبوك من تحقيق أهدافه من خلال هذا المشروع؟
يبقى هذا المشروع طموحا بالنظر إلى التفاصيل التي يحتضنها، لكن النجاح في الأهداف يبقى رهينا بعدة عوامل، فهناك العديد من المشاريع التي ظهرت في الإنترنت ولم تنجح رغم الهالة المادية والترويجية التي مُنحت لها، ومن ذلك مثلا مشروع "غوغل+" الذي فشل في إثبات ذاته، وداخل فيسبوك نفسه، عدّد موقع "techworld" 19 مشروعا (2)، فشل فيها عملاق التواصل الاجتماعي، منها مشاريع الصفقات والهدايا والعروض، والبريد الإلكتروني@facebook.
ومن العوامل التي نراها ضرورية لنجاح مشروع "صحافة فيسبوك"، يمكن أن نشير إلى ما يلي:
ضرورة توظيف صحفيين أو موظفين لديهم خبرة في الصحافة: لا يمكن للتقني، مهما بلغ حجم استيعابه للثقافة الإلكترونية أن يفهم لوحده طبيعة العمل الصحفي، والأمر ذاته للصحفي الراغب في فهم مجال الثقافة الإلكترونية، لذلك فالتكامل بين الاثنين أمر ضروري في المشروع، فالصحفي ينظر أكثر إلى مضمون المادة عكس التقني الذي يبحث في شكلها وفي طرق انتشارها وعرضها.
وضع حدٍ لتغيير العنوان في الصفحات: بقدر ما أتاحت هذه التقنية القدرة لوسائل الإعلام لأجل وضع عناوين أخرى لروابطها في صفحات فيسبوك بدل العناوين الأصلية، بقدر ما فتحت المجال أمام عناوين غير مهنية يتم تغييرها في كل صفحة على حدة، ممّا قد يحتّم على فيسبوك الانتباه لهذه الظاهرة إما بحذفها تماما، أو جعلها حكرا على المؤسسات الإعلامية ذات المصداقية.
تقوية حجم امتداد المنشورات: لتقوية شراكته مع مؤسسات الإعلام، على فيسبوك التفكير في رفع نسبة امتداد المنشورات "reach"، فالنسب الحالية جد متدنية ولا يرفعها فيسبوك إلّا في حالة كان الرابط مثيرا (غالبا ما تنجح المواد التي تنتهك أخلاقيات المهنة)، أو دفع مقابل مادي، كما أن فيسبوك يتيح لأيّ صفحة تابعة لموقع إخباري، بغض النظر عن مدى مصداقيته، أن ترفع امتداد منشوراتها مقابل ما ذُكر آنفا، ممّا يشجع على انتشار المواقع الإخبارية ضعيفة المحتوى.
تطوير البحث في الموقع: صار بإمكان مستخدمي فيسبوك البحث عن كلمات مفاتيح في خانة البحث، ممّا يتيح لهم الوصول إلى منشورات معينة دون الحاجة لاستخدام الهاشتاغ. لكن مع ذلك، لا تزال تقنيات البحث في فيسبوك ضعيفة مقارنة بغوغل مثلا، وجدير بالذكر أن فيسبوك يتوّفر على محتوى كبير للغاية يمكن أن يساعد الصحفيين في عملهم اليومي.
من كل ما سبق، يبقى مشروع صحافة فيسبوك مشروعا واعدا، يتيح تكاملا بين الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي، صحيح أن المشروع تأخر، وكان يمكن لفيسبوك البدء به قبل سنوات، خاصة عندما تبيّن مدى التأثير السلبي والإيجابي الذي لحق بالصحافة جرّاء ظهور الشبكات الاجتماعية، لكن، وكما يقال "أن تصل متأخرا خير من ألّا تصل أبدا"، وإذا استطاع فيسبوك تحقيق أهداف المشروع، فالصحافة ستربح كثيرا، بنسبة أقلّ على المستوى المادي، وبنسبة أكبر على مستوى احترام الأخلاقيات ومحاربة الرداءة الإعلامية التي تنتعش من استعداد الكثير من المستخدمين للنقر على أي رابط وتصديق أي خبر.
المصادر
(1) https://media.fb.com/2017/01/11/facebook-journalism-project/
(2) http://www.techworld.com/picture-gallery/social-media/17-failed-facebook-products-3605823/