كنّا مجموعة مبتعثة من الطلاب الأردنيين، ندرس اللغة الفرنسية في مدينة ليون الفرنسية، حين زارنا والد إحدى زميلاتنا. كان أستاذا جامعيا قرّر البقاء في السكن نفسه الذي كنّا فيه.. بقي أسبوعا واحدا وتعرّف إلى حياتنا الطلابية، وقبل مغادرته، سألنا: لماذا لا أرى معكم صحفا ورقية عربية؟ لماذا لم يسألني أحد منكم إن كان معي صحيفة؟ تحوّلت زيارتنا الأخيرة له لمحاضرة عن الفرق في الأجيال، فحين كان وزملاؤه طلّابا في الخارج، كانوا يوصون القادمين بجلب صحف ورقية عربية معهم، للاطلاع على أخبار العالم العربي.. كان ذلك اللقاء في العام 2002، وتحجّجنا بأن الإنترنت توفّر الأخبار، رغم أن الكثير من الصحف العربية لم يكن لها نسخٌ رقمية.
تذكّرتُ ذلك وأنا أشاهد فيلم "ذا بوست" الهوليوودي، من بطولة ميريل ستريب في دور كاثرين غراهام مالكة صحيفة "الواشنطن بوست"، وتوم هانكس بدور رئيس تحرير الصحيفة، ومن إخراج ستيفن سبيلرج.
فمشاهد الحبر وحروف الطباعة وآليتها وتوزيع الصحف، ثم دور الصحيفة نفسها في هزّ أعلى سلطة في البلاد، تستثير حنينا و"نوستالجيا" نحو الصحف المطبوعة، التي تراجعت مؤخرا.. هو فيلم "تحفيزي" بوصف الصحفي عنان العجاوي، الذي رأى في مشاهد الطباعة نفسها وخروج الصحيفة الورقية بعناوين مؤثرة، تشجيعا على العمل.
يبدأ الفيلم الذي دارت أحداثه الواقعية عام 1971 (1) بمشاهد الحرب في فيتنام (2)، والتي استمرت ما يقارب من عشرين عاما ووضعت أوزارها عام 1975. بيد أن الحرب الحقيقة التي عالجها الفيلم، هي تلك الدائرة ما بين البيت الأبيض برئاسة ريتشارد نيكسون والصحف الأميركية وعلى رأسها "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز".
ستصل وثائق مسرّبة من موظّفٍ في وزارة الدفاع الأميركية لصحيفة النيويورك تايمز، وبالتحديد لمراسل في الصحيفة مختص بالحرب الفيتنامية هو "نيل شيهان". تحمل الوثائق دراسة عن جدوى الحرب تشير إلى أن كفّة الحرب لا ترجح لصالح الولايات المتحدة، وهو عكس ما تروجّه الحكومة الأميركية، ما يعني أنها تضلل شعبها وترسل أبناءه لحربٍ تعرف سلفا أنها خاسرة فيها.
لا تكفي الوثائق لإثبات ذلك، بل العمل عليها، وهو عمود هام من أركان الصحافة الاستقصائية، إذ يدور حديث في أروقة الواشنطن بوست، الصحيفة المنافسة، عما يفعله الكاتب المختص بالحرب الفيتنامية في التايمز، فيأتي الرد أنه لم ينشر شيئا منذ 3 أشهر. أمرٌ ينبّه بن برادلي رئيس تحرير الواشنطن بوست، بأن شيهان لديه أمر خطير يبحث فيه، فالصحفي الاستقصائي لن ينشر موضوعا كل يوم، بل يتطلّب عمله وقتا. إزاء ذلك، يتحرك برادلي لمعرفة ما وصلت إليه النيويورك تايمز التي ستنشر الوثائق وتتعرض للمساءلة القانونية لمساسها بـ"الأمن الوطني".
تتحرك الواشنطون بوست بواسطة فريق عمل مختص بالحرب الفيتنامية منذ 10 سنوات للوصول إلى المصدر ومعرفته ودراسة الوثائق، وتتجلى لحظة التوتر في الوقت الذي يتردد فيه المستشارون القانونيون لنشرها أم لا، حتى تقرر مالكة الصحيفة كاثرين غراهام ذلك، فتنشر المقالات المعتمدة على الدراسة، وتتعرض الصحيفة للمساءلة القانونية، لكن مساندة الصحف الأخرى بنشر الدراسة في صفحاتها ودعم الرأي العام يجنبها التوقيف إلى جانب النيويورك تايمز.
دروس في المهنة..
يطرح الفيلم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أكثر درس متعلق بالمهنة، مثل علاقة الصحافة برأس المال، وأثر ذلك على قرارات النشر؛ إذ نرى كاثرين متوترة بشأن تمويل الصحيفة التي ورثتها عن والدها، وقبل أن يكون قرارها صارما بشأن نشر الدراسة، فقد نبّهها مستشاروها لإمكانية سحب المستثمرين أسهما من صحيفتها إذا ما أوقفها القضاء. كما يطرح الفيلم العلاقة بين الربح والجودة والتي أصرت كاثرين على أن الاستثمار الحقيقي يكون بتوظيف صحفيين كفؤين أكثر من أي أمر آخر، قد يسبب ربحا سريعا لكن غير مستمر، وقد أثبتت نظريتها صحتها بتفوق الواشنطن بوست حتى اليوم.
عرض الفيلم أيضا علاقة الصحافة بالسلطة؛ فالوزير الذي أنجز الدراسة هو صديق شخصي لكاثرين، وكان على المحرر برادلي أن يناقش معها تلك العلاقة وأبعادها وكيف يستغل أصحاب المناصب الصحفيين، ما يؤثر سلبا على عملية النشر.
أما الدرس الأهم فهو ما كرّره برادلي أكثر من مرة في أن "الطريقة الوحيدة لحماية حقوق النشر، هي النشر".
هناك درس أخلاقي آخر يعطيه المراسل الذي تواصل مع المصدر، إذ رفض كشف المصدر، مع هذا لم يكذب في شأن احتمالية أن يكون هو نفس مصدر النيويورك تايمز.
وفي نهاية الفيلم، تبدو كاثرين أقل توترا وحيرة، خصوصا وهي تقف وسط صحيفتها وتستذكر ما كان يقول زوجها الذي سلّمها زمام الأمور بوفاته: "الأخبار هي أول مسودة تاريخية"، إذ أن تزوير الصحفي للخبر أو المساهمة في ذلك بعدم نقل الصورة الصحيحة، هو خيانة للتاريخ.
كل رجال الصحيفة..
دعاية لا بأس بها سبقت الفيلم، تتحدث عنه في سياق مواجهة الكثير من فناني هوليوود للرئيس الأميركي دونالد ترامب، جعلتني لا أتوتّر كثيرا خلال مشاهدته لتوقّعي الأحداث، وإن حدث توتّرٌ طفيف خلال مشهد محاولات إقناع كاثرين غراهام بالنشر أو عدمه، إضافة للمشهد الأخير الذي سيشكّل قضية أخرى هي فضيحة ووتر غيت، التي ستحمل نيكسون على الاستقالة بفضل صحفيَّين مجتهدين من الصحيفة اللدودة ذاتها الـواشنطن بوست، وقد تناول فيلم "كل رجال الرئيس" تفاصيل تلك الفضيحة وعمل الصحفيَّين (2). أما المقارنة بين الفيلمين، فلن تصب في صالح "ذا بوست"، فقد ذهب "كل رجال الرئيس" أكثر في تفاصيل العمل الصحفي، متتبعا خطوات الصحفيَّين وجهدهما أكثر من جهد المدراء أنفسهم.
وعلى ذكر "الرجال"، فلا يمكن إغفال تركيز الفيلم، بشكل مباشر على الأرجح، على عمل المرأة، إذ يتحدث عن أول امرأة تدير صحيفة أميركية، هي كاثرين غراهام، وأنها لم تصل لذلك إلا بعد وفاة زوجها. فرغم أن والدها هو مالك الصحيفة فقد سلّم إدارتها لزوجها بينما كانت هي ربّة منزل لم تتخيّل أن تتولّى يوما تلك المهمة الصعبة. مع هذا، نراها حازمة في قرارها، عقلانية، تلقّن ناصحيها درسا في ماهيّة الصحافة وتذكّرهم أنها أولى منهم بالحرص على صحيفتها.
في مشاهد كثيرة، تظهر كاثرين وسط حشد من الرجال، ليقول الفيلم إنها أثبتت مهنيّتها بينهم، وحين تمرّ بحشد من النساء، فإنهن ينظرن إليها بأعين الإعجاب والتمجيد، ربّما بطريقة مبالغ بها!
زوايا أخرى..
الصحفي عنان العجاوي
"عالج الفيلم موضوع النشر من منطلق المصلحة.. كان لدى نيويورك تايمز مبدأ في معارضة حرب فيتنام،
ولكن بن برادلي "توم هانكس"، رئيس تحرير الواشنطن بوست، فكان مبدأه في البداية هو شهرة صحيفته ومنافسة النيويورك تايمز.. تفكير أصحاب الصحف أيضا تفكير رأسمالي، ففي البداية أرادت مالكة الصحيفة كاثرين غراهام "ميريل ستريب"، توسيع النشاط التجاري لصحيفتها وعرضت الأسهم للبيع.. برادلي فكر بالطريقة نفسها عندما خاطر بنشر الوثائق، كي يُعلي من شأن الصحيفة. وفي الحالتين، الاقتصادية والمهنية، كان النضال من أجل الصحيفة، والدليل هو المضاربة بين الصحيفتين، لاسيما إرسال برادلي أحد الصحفيين المتدرِّبين للتلصص على نيويورك تايمز. الفيلم أيضا يوجه رسالة مباشرة لترامب تقول "تستطيع الصحافة إسقاطك كما فعلت بنيكسون". وقد صرّح هانكس للبي بي سي بأن فيلمه يحمل رسالة".
الناقد خليل حنون
"الفيلم يتقاطع مع موضوعين هامين يحتلان العناوين في الولايات المتحدة: الأول، ترامب وصراعه مع الصحافة، وقضية تمكين المرأة ودعم حقوقها وخاصة في هوليوود. ميريل ستريب جسدت باقتدار شخصية كاثرين غراهام، مالكة صحيفة واشنطن بوست والتي كانت الناشرة الأنثى الوحيدة يومها ويركز الفيلم على محاولتها إثبات نفسها في غابة من رجال الصحافة والسياسة والمال. بدأت شخصية مهمشة في منصبها المهم، بصوت خافت في الاجتماعات وصعوبة في إسماع وإيصال صوتها وترك المهمة لمستشارها، إلى صمتها أمام الكلام الذي تسمعه هنا وهناك والمشكك بقدرتها وقيادتها. لكنها تصل في نهاية الفيلم وهي مصممة على نفض كل هذه العوائق والتخلص منها وإثبات نفسها والثقة بصوتها وبأنه سيكون مسموعا. أما توم هانكس، فلعب دور بن برادلي رئيس تحرير الصحيفة والذي واجه بحسه الصحفي الرئيس نيكسون في ضوء نظريته التي تقول بأن محاربة منع النشر هي بالنشر وعدم الخوف، لأن الرضوخ مرة واحدة للقمع سيقضي على الحريات، وهو بهذا يبرز القوة الحقيقية للصحافة. عندما علم المخرج ستيفن سبيلبرغ بسيناريو الفيلم، ترك كل شيء بين يديه واهتم به ونفَّذه سريعاً؛ فهو يعكس المرحلة الحالية وجانباً من صراع أهل الصحافة والإعلام وهوليوود مع الرئيس ترامب. كان واضحاً التركيز على الجوانب التي يلتقي فيها عهد الرئيس نيكسون مع عهد ترامب الذي أصدر أمرا قانونيا يمنع صحيفتي نيويورك تايمز والواشنطن بوست من نشر وثائق تبرز تقاعس الحكومة الأميركية في إنهاء حرب فيتنام وترك أمدها يطول ويطول. يعرف سبيلبرغ كيف يتعامل مع هكذا مواضيع بأسلوب يعطي كل مشهد إيقاعه في التصوير والتقطيع بحسب الحالة، مع اهتمام قوي بعنصري التشويق والإثارة إضافة لفريق تمثيل قوي ليكونا النسيج الذي يشد المشاهد أمام قصة أحداثها معروفة، وليس هناك من كشف لأي شيء جديد أو مفاجئ. فيلم "ذا بوست" ليس فيلما تاريخيا دراميا يستعيد مرحلة تاريخية فقط، وإنما هو عمل يعكس الحالة الأميركية الحالية لأنه يمثل جوانب عديدة منها بامتياز وهو بذلك يجعل التاريخ صوتاً لأصداء اليوم".
هوامش:
(1)https://ara.reuters.com/article/entertainmentNews/idARAKBN1EA04J?sp=true
(2)http://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/5e657dea-6641-4aa9-9f19-f980f446cc4c
(3)http://institute.aljazeera.net/ar/ajr/article/صحفيّان-يوقعان-بـ”كل-رجال-الرئيس“
(4)صورة الغلاف مأخوذة من صفحة الفيسبوك الرسمية للفيلم (https://www.facebook.com/ThePostOfficial/photos/a.527322427628060.1073741828.499736137053356/539202969773339/?type=3&theater).