"الإنسان الاستهلاكي الحديث يفضل ما هو سهل وبسيط على ما هو جميل ومركب". ربما نجد في مقولة المفكر عبد الوهاب المسيري ما يفسر كثرة الاهتمام بالأخبار العاجلة وسرعة تداولها بين المواقع وصفحات التواصل الاجتماعي للدرجة التي تُفقد الحدث قيمته، نظراً لخلوها من تقديم المعلومة الجديدة حول الخبر الذي أصبح مستهلكاً، وأصبح الجمهور في "عصر السرعة" أكثر قبولاً لخبر خفيف مغلّف بغلاف مُبهر اسمه "العاجل".
لعل هذا ما دعا بعض الصحفيين إلى البحث عن صحافة أكثر عمقاً سعياً لتسليط الضوء على حيثيات الخبر وأسبابه وتبعاته، معتبرين أن هذا ما يعطي الخبر قيمته الحقيقية، ويقدم خدمة فعلية للجمهور تمكّنهم من المشاركة في الحياة الاجتماعية بشكل فاعل أكثر. وقد اصطلح هؤلاء الصحفيون على تسمية هذا النوع باسم "الصحافة المتأنية". وكان أول ظهور لهذا المصطلح العام 2007 في مجلة "بروسبيكت" البريطانية.
ترتبط الصحافة المتأنية ارتباطاً وثيقاً بالإنسان، فهو محور البحث والاهتمام في ما وراء الحدث الأولي. فخلف كل خبر هناك قصة بل قصص تغفلّها نشرات الأخبار والتغطيات الفورية، لذا فقدت كثير من النشرات إنسانيتها وجنحت للتركيز على الجانب السياسي للخبر ومآلاته، من أجل الفوز بالأسبقية في نقل ذلك الخبر، مغفلين أن قبل كل حدث وبعد كل مشهد سياسي ثمة قصة إنسان.
مشاريع متأنيّة
أليجرا ألاي (1) صحفية ومصورة لدى موقع مابتيا (2) (Maptia) لسرد القصص الإنسانية حول العالم، لم تسعَ لنقل أخبار ما خلّفه الاحتباس الحراري من آثار مدمرة نتيجة ذوبان الكتل الجليدية في القطب الشمالي كخبر عابر اعتاد الناس عليه في النشرات المقروءة والمسموعة والمرئية، بل ذهبت إلى حياة الإنسان في تلك البقعة من الأرض وما يواجهه كل يوم جراء ما يسببه الاحتباس الحراري من تأثير على حياة الناس بشكل مباشر، فبنت تقريرها على واحدة من قصص قبائل النينيتس الرحل (Nenets) التي تعيش في سيبيريا، ورصدت معاناتهم جرّاء التغيرات المناخية في واحدة من أكثر مناطق العالم صعوبة للعيش.
لم تعتمد أليجرا في قصتها "نساء في آخر الأرض"(3) على ما يقوم به الصحفيون من توجيه عدد محدود من الأسئلة ونقل إجاباتها عبر مقابلة صحفية أو تقرير قصير، لا يحتاج في العادة إلا لساعات قليلة فتنتهي المقابلات وينتهي التقرير، بل اعتمدت على المعايشة المباشرة لتلك القبيلة بالسكن مع عائلة "كودي" في كوخهم القطبي لأشهر متتالية، حتى ترصد بنفسها عملية الهجرة الموسمية التي يلجؤون إليها حماية لأنفسهم وحفاظا على قطيع غزلان الرنة الذي يعتاشون عليه، وما يعتري هذه الفترة من تفاصيل.
لم تعلم الصحفية أن مجرى الأحداث سيأخذها إلى أحداث أخرى ربما أكثر عمقاً، فهي أرادت رصد خط سير موسم الهجرة وما يتبعه من صعوبات وتفاصيل اليوم والليلة، فتحدثت عن مهام العائلة وكيف تتوزع منذ ساعات الصباح الأولى استجابة لغريزة البقاء. فهذا ربّ البيت "ليونيا" يخرج باكراً لإعداد المزاليج ويعتني بالكلاب التي تعينه في رعاية القطيع، وتساعده زوجته "لينا" الحامل في شهرها التاسع، إذ تخرج لجمع الحطب وتكسيره كي تحافظ على الكوخ دافئاً لعائلتها، إلى جانب إعداد الطعام والعناية بالأطفال.
وأثناء معايشتها لتفاصيل حياتهم، وجدت الصحفية نفسها أمام تحدٍ جديد لم يكن في حسبانها، وهو أن موعد ولادة "لينا" قد حان، ولن تكون رحلة الهجرة في موعدها كما هو مخطط، لتبدأ أحداث رحلة جديدة لم تكن لتعرفها لولا وجودها معهم لحظة بلحظة؛ رحلة نداء الولادة الذي قد يستغرق أحياناً يوماً وليلة لنقل الأم إلى أقرب مستشفى.
وبهذا انتهت قصة المصورة الصحفية أليجرا بالحديث عن تجربة الولادة في الظروف الجوية القاسية في سيبيريا، بدلاً من تتبع رحلة الهجرة إلى المناطق الآمنة من الثلج والصقيع. فيظهر هنا عنصر جديد في الصحافة المتأنية وهو السماح لجريان الأحداث عبر الوقت بأن تفرض نفسها بعيداً عن تطويعها من أجل رغبة الصحفي في نهاية محددة.
أن ترضى متأخراً..
في تجربة لمجلة "الإرضاء المتأخر"(4)Delayed Gratification المختصة بالصحافة المتأنية، اختار محررها ماركوس ويب أن يجري مقابلة مع أحد المصورين الذين عايشوا ثوران أكبر براكين الفلبين.
وفيالعدد 30(5) من المجلة، عرض ويب تجربة المصور جاك كورتيز الذي كان يعتزم تغطية ثورة بركان جبل أغونغ في بالي (إندونيسيا)، قبل أن يعرض عليه صديق إندونيسي تغطية ثورة بركان آخر في الفلبين. كانت وسائل الإعلام قد غطت بالفعل ثورة البركان الإندونيسي.
وصل كورتيز إلى مقاطعة ألباي، حيث بركان مايون الذي كان في مرحلته الثالثة قبل الانفجار،
فشرع بتصوير سكان المنطقة وهم خائفون يهمّون بمغادرتها، ثم شهد انتقال البركان إلى المستوى الرابع، ونقل تصاعد أعمدة الدخان، والتقط صوراً للمركبات المغادرة.
"الإرضاء المتأخر" عرضت بعض الصور من التغطية، إحداها لتلميذات فلبينيات صوَّرهنَّ كورتيز بعد يوم من الانفجار الكبير، وكنّ يرتدين أقنعة بيضاء للوقاية من الرماد المتناثر في الهواء.
لم تكن الصورة عابرة، كان كورتيز دقيقاً ومتعمقاً في تفاصيل الحدث، تطرق إلى هشاشة الأقنعة، وشكك في قدرتها على حماية الفتيات، وفي الطريقة التي كنّ يضعنها بها على وجوههن، وتوقع أن تؤثر على صحتهن في المستقبل.
عاد كورتيز إلى المدرسة في اليوم التالي، كانت الفتيات قد غادرن إلى مراكز الإجلاء، مما دفعه إلى زيارتها وتسليط الضوء على ظروف اللاجئين هناك.
كورتيز بقي في المنطقة، تابع هدوء البركان، ثم انخفاض مستواه إلى الثالث ثم إلى الثاني خلال شهر، وعودة السكان إلى منازلهم.
نقطة مهمة لفت كورتيز الانتباه إليها خلال المقابلة، وهي أن الصحفيين ووسائل الإعلام هرعوا إلى تغطية ثورة بركان بالي لأنه يقع في محيط يؤثر على التجار الأجانب، خلافاً للبركان الفلبيني -الأخطر- الذي لا يؤثر إلا على سكان المنطقة التي يقع فيها، ولأن مطار دنباسار الإندونيسي يستقبل خلال ساعات أكثر مما يستقبل مطار ليغازبي الفلبيني خلال أسبوع كامل.
وهذا يدفعنا هذا للتساؤل: هل تندرج هذه المادة في إطار الصحافة المتأنية لأنها بحثت في ما لم تتناوله وسائل الإعلام؟ أم لأنها أخذت وقتها الكافي للنضوج؟
مردود ماديّ متأخر
تواصلت "مجلة الصحافة" مع الشريك المؤسس لمجلة "الإرضاء المتأخر" روب أوركارد، لمعرفة كيفية حفاظ المجلة على مصدر لمواردها يمكّنها من مواصلة عملها. وقد أشار إلى أنه أسس المجلة برفقة زميله ماركوس ويب، وكان التمويل ذاتيا من خلال مدخراتهما الشخصية. ومع ارتفاع عدد جمهورها، تمكنت المجلة من تعزيز مواردها من رسوم الاشتراك التي يدفعها القراء للحصول على نسخة المجلة. "المشتركون في المجلة هم ترياق الحياة لها. وبما أننا لا ننشر أي إعلانات، فالمال الوحيد نحصل عليه من خلال عائدات بيع نسخ المجلة والفعاليات التي نقيمها. وعلى هذا نحن ملتزمون بتقديم تعويضات مالية مناسبة للصحفيين العاملين لدينا، بما في ذلك تمويل سفرهم ومهماتهم البحثية وكذلك رفع نسبة التعويضات كلما ارتفعت مواردنا، وبذلك نحافظ على جودة المحتوى المنشور".
وحول الكيفية التي يمكن للمنصات الإعلامية الجديدة، التي تسعى إلى استدامة عملها، أن تحصّل من خلالها على تمويل دون أي تدخل في السياسات التحريرية من قبل الممول، قال أوركارد "نحن سعيدون بأنه لا يوجد أي تدخل في سياستنا التحريرية نظرا لأن رئيسنا الأول الوحيد هم جمهورنا الذي يمولنا بالاشتراكات، وعلى ذلك نحن ملزمون بالاستماع إليهم، وعدا ذلك فإنه لا أحد آخر لديه سلطة على سياستنا التحريرية.. هذا الأمر مكّن المجلة من السعي جاهدة كي لا تكون منحازة إلى طيف سياسي ما، واتخاذ سياسة العقلية المنفتحة تجاه كافة الاتجاهات السياسية".
وقدم أوركارد نصائح للمنصات الإعلامية التي ترغب في الحصول على تمويل، لكنها في الوقت نفسه لا تريد لطرف أن يتدخل في سياستها التحريرية، حيث نصحهم بوضع مبدأ الاستقلالية كأساس جوهري لعملهم، مما سيخلق لهم علامة تجارية مميزة، ومن ثم السعي وراء اختيار الممولين بشكل حكيم، سواء من خلال التمويل بالاشتراكات -كما تفعل المجلة- أو التعامل مع مجموعات صغيرة من الممولين الذين لا يسعون لفرض آرائهم على السياسة التحريرية.
الصور تعيد نفسها
المصورة الصحفية الأميركية سوزان ميسيلاس ذات السبعين عاما، والحاصلة على عدة جوائز في التصوير الصحفي، تعود إلى مسرح الصور بين فترة وأخرى. وكانت المدة ما بين المرة الأولى التي تغطي فيها أحداث ثورتين في نيكاراغوا هي 40 عاما. ففي سبعينيات القرن الماضي، غطّت ميسيلاس بكاميراتها أحداث الثورة الساندينية ضد الدكتاتور أناستاسيو سوموسا، وعادت عام 2018 لتغطية أحداث ثورة 18 أبريل/نيسان ضد الرئيس الحالي دانييل أورتيغا.
ذكرت سوزان في مقابلة أجرتها معها صحيفة إلباييس الإسبانية (6) يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 2017، أن لكل صورة حدوداً، ولهذا فهي لا تعرف إن كانت (الصور) تظهر الحقيقة كاملة. تتحدث سوزان عن الزمن في الصور، فتقول: "يتوقف الزمن في كل صورة، لكن الناس لا يرون ذلك؛ فالصورة بالنسبة لهم نقطة الانطلاق لبناء حكاية.. المهم أن نعرف ما تكشفه كل صورة في الحاضر وما ستكشفه في المستقبل عن الماضي".
في العام 1979، التقطت سوزان صورة اعتبرت من أيقونات الثورة، وهي صورة "رجل المولوتوف" (7)، التي تظهر متمردا من جبهة الساندينيستا يدعى بابلو آراوس، وهو على وشك إطلاق زجاجة حارقة. أصبحت تلك الصورة رمزا للثورة الساندينية والمقاومة، بجانب صور شباب يلقون القنابل على جيش سوموسا في مدينة مونيمبو. وكانت تلك من أوائل الصور التي تنشرها الصحف الأميركية.
لم تتوقف سوزان عند تصوير أحداث الثورة، بل عادت إلى نيكاراغوا وتتبعت مصائر أبطال صورها، وفي أحد معارضها عرضت مقاطع فيديو للمقابلات التي أجرتها مع أبطال الصور، وهم يتحدثون عن وقت التقاطها، لتظلَّ سوزان وفية لفكرة "إعادة توطين الصورة وإرجاعها إلى أبطالها"، بحسب مدير مؤسسة "تابيس" في برشلونة الإسبانية كارلوس غيرا.
وكانت سوزان قد عادت إلى نيكاراغوا عام 2004 (8)، أي بعد 25 عاماً من تصويرها "رجل المولوتوف"، وعلقت صورا بأحجام كبيرة على الأماكن التي التُقطت فيها في زمن مضى.
تسمح الطبعة الأخيرة من كتابها "نيكاراغوا" بأن يضع القراء هواتفهم المحمولة على الصفحات لرؤية المقابلات التي أجرتها مع أبطال الصور، مواكبة بذلك التطور التقني الحاصل في "الواقع المعزز".
تجربة عربية
وكتجربة عربية رائدة، يسعى معهد الجزيرة للإعلام في شبكة الجزيرة الإعلامية لإطلاق منصة جديدة يمكن اعتبارها إحدى أولى المنصات العربية المتخصصة في الصحافة المتأنية التي تعنى بقصص الإنسان والمكان، ونقل هذه القصص وفق مقاربة أنثروبولوجية تستند إلى المعايشة والاحتكاك المباشر بواقع المجتمعات الإنسانية حول العالم.
ويمكن تلخيص مبدأ المنصة بأحد شعاراتها التي تأسست عليها وهو "رحلة في الاتجاه المعاكس.. الذهاب إلى موقع الحدث عندما يغادره الصحفيون"، حيث تهدف إلى الخروج من وطأة الأخبار اليومية والانتقال إلى الكتابة المتأنية المتأملة للأحداث، وبناء سردية قصصية واقعية بعيداً عن خيالات العوالم الافتراضية والصور النمطية التي تخلقها عن المجتمعات البشرية.
الكوبيون لا يدخنون السيجار ولا يقدرون على دفع ثمنه، فن الهيب هوب في ميديين الكولومبية له سحر يستطيع منع الشباب من الوقوع في وحل الجريمة والمخدرات هناك، أو أن هناك قدساً أخرى وبيت لحم ونهر أردن في إثيوبيا، وغيرها من القصص التي ما كان للإعلام أن ينتبه لها في ظل غوصه في تسارع الأحداث الآنية وانشغاله بها.
الصحفي عميد شحادة، أحد المساهمين مع فريق الجزيرة بالعمل على مشروع الصحافة المتأنية، قال لمجلة الصحافة "عندما بدأنا العمل على إنشاء منصة متخصصة في الصحافة المتأنية مع الزملاء في معهد الجزيرة للإعلام، كان التحدي الأكبر يتلخص بالعثور على صحفيين عرب يتقنون هذا النمط من العمل الصحفي الشاق، ويستمتعون بالعمل البطيء العميق البعيد كليا عما تعودوا عليه في عملهم اليومي السريع. تابعت بدوري صحفيين لعمل أول دفعة من المواد الصحافية المتأنية في تونس والعراق ولبنان والأردن وأندونيسيا والبرازيل وتركيا وسوريا وفلسطين ونيكاراغوا وليبيا واليمن والجزائر والمغرب، منهم من استسلم في منتصف الطريق الصعب، وبعضهم أكمل إلى النهاية لإنجاز مادة تحتاج لوقت لا يقاس بالساعات بل بالشهور".
ويرى شحادة أن هذه التجربة كانت "فريدة حقا".. "لمست إمكانية نجاحها رغم كل الصعوبات، لقد نجحت بالفعل في إعادة صحفي ثلاث مرات لمعايشة القصة كما عاشها أبطالها بالضبط، شعرت وقتها أن الصحفي فقد صوابه في البداية، لكن عندما انتهى من إنتاج قصته قال لي بالحرف: لأول مرة في حياتي أشعر بأنني صحفي حقيقي أقوم بعمل مدهش".
منصة الصحافة المتأنية ستنطلق قريباً، وستعمل على إنتاج 12 قصّة صحفية سنوياً بأسلوب الصحافة المتأنية، بشكل يحفّز الصحفيين على السفر والعيش مع المجتمعات وتأملها ومن ثم الكتابة عنها بطريقة منصفة بعيدة عن الاستشراق والتصورات النمطية.
تكمن خصوصية الصحافة المتأنية في سرد التفاصيل التي تقرب من الحدث، لتحل هذه التفاصيل محل الرأي المباشر الذي قد يقدمه محرر الخبر من حيث يدري أو لا يدري؛ فوصف الأحداث كما هي يعطي القارئ حرية تشكيل الرأي تجاه أي قضية، لتعود الصحافة إلى واحد من أصولها: الموضوعية.
ورغم أن أساسيات هذا النوع من الصحافة لم ترس أعمدتها بعد، فإن أهم ما يميزها هو عامل الوقت مضافاً إلى القيمة الخبرية للقصة. والمعنى من الوقت أي أن ثمة حركة بالزمن تتغير فيه الأحداث نحو حل للعقدة، أو إيجاد للأسئلة التي يطرحها الحدث.
المراجع
1- https://www.alegraally.com/about/
3- https://maptia.com/alegraally/stories/women-at-the-end-of-the-land
4- https://www.slow-journalism.com/blog
5- https://www.slow-journalism.com/back-issue/30-jan-march-2018
6- https://elpais.com/ccaa/2017/10/16/catalunya/1508175733_713205.html
8- https://www.nytimes.com/es/2018/07/27/susan-meiselas-nicaragua-fotografia/