حروبٌ وأشلاءٌ ودماء، فقرٌ ومرض وقصص مأساوية، تهديداتٌ ومحاولات إيقافٍ عن أداء الرسالة، اعتقالات ومخاطر تجعل القتل احتمالا واردًا.. كل هذا قد يراه الصحفي ويعيشه أثناء عمله، عدا عن الضغوطات المتعلقة بإنجاز المهام كالسرعة والدقة. ويحدث أحيانا أن يتعرض الصحفي لكل ذلك بينما هو جالس خلف مكتبه، دون النزول إلى الميدان، وبلا أي إرهاق جسدي، فيراه البعض في مهنة "مُريحة" يُحسد عليها، لكن ماذا عن نفسيته؟ أيُعقل أن تكون بخير بعد كل هذه الضغوطات التي يتعرض لها؟
الحقيقة أن الاهتمام بالصحة النفسية للصحفيين أصبحت توجها عالميا. في هذا الحوار، نتعرف على الموضوع مع المعالج النفسي اللبناني واستشاري علاج الصدمات الدكتور خالد ناصر، وهو مختص في التعامل مع الصحفيين عبر جلسات علاج نفسي فردية، وعبر ورش ودورات مع مؤسسات عربية ودولية، ويتركز عمله مع الصحفيين في مناطق التوتر والنزاعات مثل سوريا واليمن وفلسطين والعراق ومصر.
المهنة والحياة
أول سؤال يفرض نفسه في هذا الحوار، ما الذي يختلف في الصحافة عن غيرها من المهن بحيث يجعلها تؤثر على نفسية العاملين فيها؟ يجيب الدكتور ناصر أن "الصحفي يغطي أحداثًا مؤلمة، ويحتك بأشخاص يتألمون فيتأثر بهم فيما يعرف بالصدمة بالإنابة، بالإضافة إلى ضغط العمل الشديد، حيث السرعة والسبق والمواعيد المحددة. ويزداد الأمر صعوبة في حال التعرض للضغوطات السياسية. ولأن هذه العوامل تطال أغلب الصحفيين، فإن بيئة العمل تُعدّ أحد أسباب التوتر".
ويقول إن "التهديدات التي يتعرض لها الصحفي من أكبر مسببات الضرر النفسي، وتنقسم إلى ثلاثة أنواع: التهديد اللفظي مثل الشتائم والتخوين، والجسدي ومن أشكاله الضرب والاعتقال، بالإضافة إلى التهديد الجنسي، وهو جزء من التهديد الجسدي لكنه ينفذ إلى صميم الشخص، خاصة لو كان المُتعرض له امرأة".
ويضيف الدكتور ناصر: "عندما يمارس الصحفي عمله، يتشكل عنده في الوعي أو اللاوعي، شعورٌ بأنه يكتب ليساهم في تحسين أحوال المجتمع، وبالتالي فهو عندما يصطدم بالتهديدات الرامية إلى وقفه عن أداء الرسالة، يعاني من التناقض بين الإصلاح الذي يسعى له وبين محاولات التعطيل التي تعترضه، خاصة إذا اتُّهِم بالخيانة".
ويتابع: "من أكثر ما يرهق الصحفي أن يرى المشكلة ولا يتمكن من حلّها، فيعاني من تأنيب الضمير، والتهديد يضاعِف هذا التأنيب ليصل مرحلة الإحباط، مع الكثير من المخاوف والقلق. هذا بالإضافة إلى أن تقييد الحرية، والحد من الطموح بالتغيير، والاتهامات الملفقة، والتخوين، كلها عوامل تؤثر على الصحفي الذي هو بمثابة ثائر يريد التغير".
بسبب التهديدات، يعيش الصحفي حالة من انتظار تلقي الضربة التالية في أي لحظة، وهذا ينعكس عليه إذ يبقى في حالة "يقظة مفرطة"، من مظاهرها أنه لا ينام جيدا خوفًا من الاعتقال، ويشعر أنه مراقب أثناء سيره في الشارع، بحسب ناصر.
ويشير المعالج النفسي اللبناني إلى أن الصحفيات يتعرضن لضغط خاص بهن، فالصحفية دومًا بحاجة إلى إثبات ذاتها وكفاءتها في العمل، وقدرتها على الموازنة بين بيتها وعملها، ذلك أن المجال الصحفي للذكور في نظر المجتمع، ولأن المؤسسات -أحيانا- تُبعد الصحفية عن الكتابة في بعض القضايا بذريعة أنها لا تناسبها كامرأة، وهذه بحد ذاتها "صدمة ثقافية".
نتيجة لكل ما سبق، تظهر عوارض نفسية على الصحفي، أبرزها -وفق ناصر- اضطرابات النوم، وقلة التركيز بشكل قوي، وسرعة الغضب، والانعزال الاجتماعي، وأعراض "نفسية جسمية" مثل آلام المعدة والصداع وسرعة دقات القلب، إلى جانب التأقلم السلبي مع المشاكل مثل التدخين الشره، والعلاقات الجنسية الكثيرة.
ويبين أنه "فيما يتعلق بالعمل، قد يصل الأمر إلى حد عدم القدرة على الإنتاج، وبالطبع لا تؤثر تلك الأعراض على الجانب المهني وحسب، وإنما تطال حياة الصحفي بشكل عام، وهنا يتضح حجم الخطر. لذا، لا بد من التوقف لأخذ راحة وإصلاح الخلل".
لا تهمل "الزجاج المنكسر"
من خلال تجربته، يرى ناصر تلازمًا بين العمل الصحفي والمشاكل النفسية، وكأن الصحفي "يوقّع على صكّ قبول التعب النفسي في بداية عمله".
ومع ضرورة الاهتمام بالجانب النفسي، يؤكد أنه "ليس كل حدث مؤلم يسبب صدمة، وليس كل من تعرّض لصدمة سيعاني من اضطرابات".
ويلفت إلى أن درجة التأثر بالضغوط تختلف من صحفي لآخر، ويرجع الاختلاف إلى عاملين: أولهما شخصية الصحفي، فالشخصية الحادة أكثر تضررًا من المرنة. أما العامل الثاني -وهو ذو التأثير الأكبر- فيتمثل في البيئة والجو الأسري اللذين نشأ فيهما.
إذًا، يجب ألا يتحول الخوف على النفسية إلى هاجس، وفي الوقت نفسه لا يمكن إهماله. يقول ناصر إن "رأس مال الصحفي عقله، وعليه أن يهتم به، فيعطيه وقتًا كافيا. لكن ما أراه أن الصحفي يهمل رأس المال هذا بسبب عدم وجود وعي نفسي، وبسبب تقديره الخاطئ لسعة قدرته على التحمل، إذ يظنّها أكبر مما هي في الحقيقة. وأهم مسببات الإهمال، النظرة المجتمعية التي تتعاطف مع المرض الجسدي ولا تعترف بمعاناة النفس".
لأجل ذلك، وقبل الوقوع في المشكلة، يرشدنا ضيفنا إلى مجموعة من التدابير الوقائية التي يؤكد أنها كلما تضاعفت عند الشخص، ضَعُف أثر الصدمة النفسية عليه.
ويوضح الدكتور ناصر أن "أول التدابير الوقائية، إدراك الصحفي أن الأزمات والحروب لا تستمر إلى الأبد، وعليه الاستفادة من فترة الهدوء للاستراحة من الضغوطات والاهتمام بالذات استعدادًا للمرحلة المقبلة. كما ينبغي على الصحفي محاربة الأصوات السلبية التي تأتي من داخله، مثل: أريد الانعزال، أنا إنسان سيئ.. وهذا يتم بالاختلاط مع الناس وقضاء الوقت مع من يحبّ".
ويبيّن أنه "لا بد للصحفي من الاهتمام بالصحة الجسدية والنفسية والروحية، إلى جانب البحث عمّا يشفي غليله، فبعد رؤيته لأشكال المعاناة المختلفة دون القدرة على وضع حدٍ لها، يشعر بالمأساة. لذلك، عليه تحقيق إنجازات صغيرة تُشعره بالرضا عن نفسه، كإنقاذ حياة شخص من خلال كتابة مقال يدعو فيه الناس إلى مساعدته. ومن الجيد تغطية الأحداث الباعثة على التفاؤل حتّى في خضم تأزم الأوضاع".
ومن التدابير الوقائية التي يشدد ناصر على أهميتها، تجنّب الوصول إلى المرحلة التي تعبّر عنها نظرية "الزجاج المنكسر" التي تقول إنه بعد إهمال أول انكسار في الزجاج وعدم إصلاحه، يقلّ التأثر بانكسار المزيد من الزجاج، أي أن الصحفي الذي يهمل صحته النفسية عند أول مشكلة يشعر بها، ستتراكم المشاكل داخله، وإن وصل إلى هذه المرحلة، فعليه أن يندفع لحلّها بدلا من الذعر من تفاقمها.
ويتوجه بالنصح إلى كل صحفي ويقول له: "لحماية صحتك النفسية، تذكّر القيمة المهنية العالية لعملك، وخذ فرصة استراحة من الأعمال التي ترهقك نفسيًّا، ولا تغُص كثيرًا في تعظيم الأثر العاطفي للحدث عمدًا، ولا تقع ضحية التفكير بأن الحدث كلما كان مؤلمًا عاطفيًّا حقق نجاحًا أكبر. كذلك، شارك تجربتك مع زملائك للحد من أثر الصدمة، وكُن بين الناس دومًا ومع أصدقائك وتجنّب العزلة".
بين الاحتراق والصدمة
أحيانًا، يمكن للصحفي أن يعالج الأعراض النفسية التي يعاني منها، لكن في أحيان أخرى لا بد من الاستعانة بمعالج نفسي، وهذا يتوقف على نوع المشكلة.
يوضح ناصر أن تبعات الاحتراق النفسي الناتج عن ضغط العمل يمكن معالجتها بشكل ذاتي، بحيث يتوقف الصحفي عن العمل ليعطي نفسه فرصة استراحة، وخلالها يكون مع أشخاص يحبهم، ويهتم بصحته الجسدية والنفسية، ويمارس نشاطات تبعده عن أجواء العمل، ثم يعيد تنظيم حياته بحيث يخصص لنفسه أوقاتًا من الراحة حتى لا يقع في الاحتراق مجددًا.
لكن في حال التعرض لصدمة، سواء أكانت بسبب العمل أو الحياة الشخصية، فينصح الدكتور ناصر الصحفيَّ بالتوجه إلى معالج نفسي، وأن يفعل ذلك بسرعة، لأن الوقت لا يحل المشاكل كما يظن البعض، فالصدمة النفسية تؤثر في اللاوعي دون أن يدرك الشخص ضخامة التأثير.
ويشبّه الصدمة "بهزّة نفسية غير متوقعة، تزعزع استقرار الإنسان عند حدوثها وتتسلّل بذكرياتها لتقلق أيامه القادمة"، لافتا إلى أن الدراسات تقول إن ما لا يقل عن 80% من الصحفيين تعرّضوا لصدمة نفسية أثناء تغطيتهم للأخبار.
ويلفت إلى أن التأخر عن العلاج يعمّق المشكلة في جذور الشخصية، ويُدخل الفرد في مرحلة اكتئاب وقلق قوي، وغضب داخلي شديد، وإحساس مفرط بالعجز، ويؤثر على نظرته لنفسه وللحياة، وقد يأخذه إلى التفكير في الانتحار.
الصحفي العربي
وعن دور المؤسسات الصحفية في الاهتمام بالصحة النفسية للصحفيين، يقول ناصر إن "الصحفي بحاجة إلى الشعور بوجود من يدعمه. لذا، على المؤسسة أن تجعله مطمئنا بأنها تصدقه وتسانده إن تعرّض للخطر، وكذلك لا بد من توفر ثقافة نفسية في المؤسسة حتى يكون الصحفي قادرا على البوح بأنه مرهق نفسيا، وعلى الإدارة أن تمنحه فرصة للراحة، وألا تلقيه في الخطر ولا تثقل كاهله بأعباء متتالية دون مراعاة لنفسيته".
ويضيف: "يبقى دور القيادة هو الأهم، ولكن الزملاء لهم دورٌ أيضًا، لأنهم أكثر من يفهم المشاكل التي يعانيها الصحفي، لذا عليهم أن يحرصوا على تكوين العلاقات الطيبة فيما بينهم، وأن ينظموا نشاطات تخرجهم عن أجواء العمل، وبإمكان الصحفي أن يختار زميلا أو اثنين ممن يثق بهم ليبوح لهم بما في داخله".
وعن الفرق بين الاهتمام بنفسية الصحفي في الدول العربية والدول الغربية، يرى ناصر أن الفرق على صعيد وعي الصحفيين أنفسهم بالأمر ليس كبيرا، حيث صار هذا الاهتمام توجّها عالميا في الآونة الأخيرة. أما على صعيد الإدارات فإن المؤسسات الصحفية في الغرب تهتم بدرجة أكبر قليلا.
ويؤكد أن "الفرق الحقيقي يكمن في ثقافة المجتمع ونظرته للمشاكل النفسية، فالمجتمعات العربية أقل تفهما للأمر، بالإضافة إلى أن الصحفي العربي لا يعاني من صدمات سابقة وحسب، وإنما يعيش الصدمة كل يوم بسبب ظروف الحياة والأوضاع السياسية، مما يجعل فرص الضرر النفسي عنده أكبر".