وراء قضية العنصرية، الداء الأمريكي الذي تصفه الفيلسوفة حنا أرندت بـ"التناقض الأساسي بين الحرية السياسية المقرونة بالعبودية الاجتماعية"، تثير قضية الصحفية هانا جونز جوانب جوهرية تهم العلاقة بين تدريس الصحافة وتدريس التاريخ والتربية عليه، وتأثير الصحافة على النقاشات المجتمعية والسياسية وعلى رهانات الانتخابات، مع قرب تجديد البرلمان الأمريكي في (2022).
لم تفرح الصحفية الأمريكية المعروفة نيكول هانا جونز لمدة طويلة باختيارها للجلوس على أحد أرقى كراسي تدريس الصحافة في الجامعات الأمريكية لتدريس مادة "الصحافة العرقية والاستقصائية"، وهو تخصص له رمزية قوية في مجتمع أمريكي مركب ويضم مزيجا من الأعراق. كانت فرحة قصيرة لم تكتمل؛ ففي شهر مايو/أيار الماضي رُشّحت هانا جونز ذات الأصول الأفريقيّة لتدريس هذه المادة في جامعة "نورث كارولاينا" بدعم وتمويل من مؤسسة "نايت". لقد شكل ذلك تتويجا لمسارها الشاب، وهي في الـ 45 من العمر.
وتقتضي تقاليد التكوين الصحفي الجامعي في أمريكا وجود روابط وثيقة بين التميز الميداني للصحفيين من جهة، ومساهمتهم في تدريس الصحافة بالجامعات من جهة أخرى (1). بل إن الكثير من جامعات الصحافة تأسست تاريخيا في هذا البلد بمبادرة من بعض الصحفيين، وهو ما ينطبق بالذات على مؤسسة "نايت" التي رأت النور في أربعينيات القرن الماضي، بهدف تطوير التعليم والتكوين الصحفي بالأساس. وقد أطلقتها عائلة الصحفي المعروف تشارلز لاندون نايت محتضنة فرسان الصحافة الأمريكية الذين يدرسون تخصصات من مثل "الصحافة الرياضية والمجتمع"، أو "الصحافة والبيئة"، أو "حرية الصحافة"، وغير ذلك من التخصصات. وتمنح المؤسسة لهذا الغرض تمويلات لحوالي 23 جامعة تفتح فيها كراسي التدريس تحت إشراف عدد محدود (حوالي 26 كرسيا) من الصحفيين اللامعين الذين اشتهروا بطرقهم الفريدة والمبتكرة في المهنة (2).
وقع الاختيار إذن على هانا جونز؛ نظرا لتميزها، ولإطلاقها مع مجلة "نيويورك تايمز" مبادرة صحفية تسمى "مشروع 1619"، والذي يهدف إلى إعادة تأطير تاريخ العنصرية عبر البحث في أثر السود ومساهماتهم في سردية التاريخ الأمريكي. ويؤرخ العام 1619 لوصول أول مجموعة من العبيد الأفارقة إلى ولاية فيرجينيا في أمريكا. وقد حصل هذا المشروع على جائزة "بوليتزر" الشهيرة في 2020.
كانت هانا جونز تستعد لدخول مجال التدريس الجامعي من أبوابه الكبرى، لكن فجأة سيتقرر تعطيل مسلسل هذا التتويج؛ والسبب هو الضغوط التي مارسها بعض الأعضاء المؤثرين بمجلس إدارة جامعة نورث كارولينا لمنع ترسيمها في هذا المنصب، وهي ضغوط جاءت نتيجة موجة الانتقادات والرفض التي تعرضت لها هانا جونز في أوساط اليمين؛ بسبب دفاعها عن حقوق السود في المجتمع، وتحقيقاتها الصحفية حول مظاهر التمييز العنصري في مجالي التعليم والسكن وغيرهما.
ويعد عدم الترسيم قرارا غير معتاد تاريخيا في هذه الجامعة، وقد تطورت الأمور بعد ذلك حينما قرر مجلس إدارة الجامعة أن يتراجع ليصوت لصالح ترسيمها بأغلبية 9 أعضاء مقابل رفض 4، وذلك قبل أيام فقط من الموعد الرسمي لتوليها لهذا المنصب. إلا أن الأوان كان قد فات؛ لأن هانا جونز اتخذت قرارا نهائيا بعدم الالتحاق بالجامعة، وبالتوجه إلى جامعة أخرى هي جامعة هاوارد التي ستدرِّس فيها المادة نفسها: "الصحافة العرقية والاستقصائية".
علقت هانا جونز على كل هذه الأحداث في تصريح لشبكة سي بي إس قائلة: "انظروا إلى ما يتطلبه الأمر للحصول على منصب! لقد اجتزت مسلسل الترسيم وحصلت على موافقة بالإجماع من الجامعة لتمنحني المنصب، لكن بما أن الترسيم رُفض، وأُجرِيَ التصويت في آخر يوم وفي آخر لحظة ممكنة، وبعد التهديد باتخاذ إجراء قانوني ضدهم، وبعد أسابيع من الاحتجاج، وبعد أن أصبح الأمر فضيحة وطنية، فإنني لم أعد ببساطة أريد هذا المنصب" (3).
لم يشفع للصحفية هانا جونز حصولها على جوائز وطنية ودولية لتنجو من موجة العنصرية التي صارت تجتاح أمريكا وعددا من الدول، مخلفة آثارا مدمرة على المستويات الاجتماعية والسياسية وحتى الصحفية، وهي موجة لا تمس السود فقط بل تمس أعراقا أخرى. أمام هذه الإهانة، قررت إذن رفض كرسي التدريس بشكل نهائي، ووجهت إلى إدارة الجامعة رسالة في الموضوع بوساطة محاميها كشفت فيها أن التدخل السياسي لبعض الأعضاء -ومنهم "مانح قوي" للمال للجامعة- أسهم في قرار عدم الترسيم.
وتشير صحيفة "واشنطن بوست" إلى احتمال قوي بأن يكون والتر هوسمان هو أبرز المعترضين عليها، والذي يعد أحد قيدومي الصحافة الأمريكية، ويملك العديد من الصحف، ويسهم بحوالي 25 مليون دولار في تمويل جامعة نورث كارولاينا (3). واشتهر هوسمان بمواقفه المحافظة، وبتورطه في ملفات ذات طابع صحفي وسياسي؛ إذ كان منخرطا في تسعينيات القرن الماضي في الحملات التي اتهمت الرئيس الديمقراطي السابق بيل كلينتون وزوجته هيلاري بالفساد والرشوة في القضية الشهيرة المعروفة باسم وايت ووتر، والتي لم تسفر في النهاية عن إثبات أي تهمة ضد عائلة كلينتون (4).
وبرغم أن والتر هوسمان نفى لـلواشنطن بوست وقوفه وراء منع الترسيم، فإن الجريدة أشارت إلى أنه كثيرا ما انتقد آراء هانا جونز وأبحاثها حول تاريخ العنصرية في أمريكا؛ إذ يعارض، مثلا، نظريتها القائلة بأن الأمريكيين ثاروا على الاستعمار البريطاني للحفاظ على العبودية في البلاد، كما يرفض مطالبتها بتقديم تعويضات للسود عما عانوه من العنصرية، بل يرى أن ما تكتبه يضر بمصداقية العمل الصحفي في أمريكا. ولهذا، قال والتر هوسمان، في رسالة رسمية إلى الجامعة، إنه يتخوف من الجدل الذي قد يثيره تعيينها إذا ما ارتبط اسم الجامعة بـ"مشروع 1619"، وكتب ما يلي: "بناء على ما تكتبه هانا جونز سيستنتج الكثيرون أنها تحاول الدفع بأجندة خاصة، وسيفترضون أنها تتلاعب بالحقائق التاريخية لدعم هذه الأجندة".
حظيت قضية هانا جونز باهتمام واسع في الصحافة الأمريكية؛ نظرا لما أثارته من جدل سياسي-مجتمعي، ومن احتجاجات في الأوساط الطلابية. وكتبت إحدى الصحف أن جونز ذهبت ضحية للاستغلال السياسي لما يسمى بـ"نظرية العرق النقدية/ Critical Race Theory" التي تُدرّس في المدارس لتسليط الضوء على أسباب ظاهرة العنصرية ضد السود وجذورها في التاريخ الأمريكي، بغرض تصحيح الوقائع التاريخية وخلق مصالحة مجتمعية. إنه المجال الذي تشتغل عليه "هانا جونز" في إطار "مشروع 1619" مع مجلة "نيويورك تايمز".
هكذا، صارت أوساط اليمين المحافظ -لا سيما تلك التي يقودها الحزب الجمهوري بزعامة الرئيس السابق دونالد ترامب- تستغل موضوع العنصرية وتلفق الأخبار وتثير الجدل من أجل خلق الاستقطاب في المجتمع وكسب الأصوات، استعدادا لانتخابات منتصف الولاية التشريعية المقررة في (2022).
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إنما ذهبت أربع ولايات يحكمها الحزب الجمهوري في الأشهر الأخيرة إلى حد سن قوانين تمنع تدريس مواد "نظرية العرق النقدية". ويراهن الحزب الجمهوري على انتخابات 2022 لاستعادة السيطرة على مجلس النواب الذي يتحكم فيه الحزب الديمقراطي بزعامة الرئيس جو بايدن. ولهذا الغرض، يروج بعض الجمهوريين فكرة أن تدريس هذه المادة يستهدف البيض الأمريكيين ويرمي إلى خلق التفرقة في أوساط المجتمع، ويثيرون لهذا الغرض مظاهرات داخل المدارس.
ويتبع الحزب الجمهوري إستراتيجية تضليل سياسي ذكية ومحددة بدقة، حيث تشن لجنة الكونغرس الوطنية الجمهورية -وهي ذراع حملة الحزب بمجلس النواب- حملات إعلامية لاستفزاز بعض النواب الديمقراطيين، وجرهم إلى ساحة الجدل العمومي حول موضوع العنصرية؛ بغرض إضعاف هؤلاء النواب وتشويه صورتهم وسمعتهم لدى الرأي العام. والملاحظ في هذا الصدد هو أن "جميع النواب الديمقراطيين المستهدفين خلال شهر يونيو/حزيران 2021 ينتمون إلى دوائر انتخابية موقعهم فيها ضعيف"، وقد يكون من الصعب إعادة انتخابهم في 2022 (5). كما تجد هذه الحملات السياسية اليمينية ضد تدريس نظرية العرق النقدية أصداء لها عند بعض الصحفيين، ومن بينهم الصحفي كارلسون توكر نجم قناة فوكس نيوز العنصرية، الذي يدافع عن هذه المواقف السياسية للحزب الجمهوري.
في موقعها الرسمي على الإنترنت، تكتب هانا جونز جملتين معبرتين لهما دلالة قوية، تلخصان رؤيتها الشخصية للعمل الصحفي ولفلسفتها في هذا المجال، تقول: "أنا أرى عملي بصفته وسيلة تجبرنا على مواجهة نفاقنا، وعلى مواجهة الحقيقة التي نفضل أن نتجاهلها".
هوامش
-
قراءة في تاريخ الصحافة الأمريكية. https://institute.aljazeera.net/ar/ajr/article/1457
-
الرابط إلى موقع "مؤسسة نايت"
https://knightfoundation.org/knight-chairs/
-
نص المقال في هذا الرابط: https://www.buzzfeednews.com/article/clarissajanlim/nikole-hannah-jones-decline-unc-tenure-howard-university
-
انظر نص المقال في الرابط التالي https://www.washingtonpost.com/lifestyle/media/one-of-the-voices-object…
-
نفس المقال.
-
انظر المقال على الرابط التالي https://www.buzzfeednews.com/article/ryancbrooks/critical-race-theory-r…