الحملة ضد مونديال قطر.. الإعلام الغربي حبيسا لخطاب الاستشراق والتضليل

مع اقتراب موعد مونديال قطر 2022، يصر الإعلام الغربي أن يبقى مرتهنا لخطاب الاستشراق الذي تغذيه ليس فقط المصالح السياسية، بل التحيزات الثقافية العميقة المتأتية بالأساس من الماضي الاستعماري.

 في الأيام الأخيرة قبيل إطلاق صافرة بداية مونديال قطر 2022 لكرة القدم، استشرست، على نحو غير مسبوق، حملة غربية ضد الدوحة، علت خلالها نبرة خطاب إعلامي صادر عن مؤسسات صحفية عريقة تصف هذا البلد الخليجي على أنه "دولة حديثة التأسيس"، تنتج "الغاز حصرا" دون أي شيء آخر، ويتملكها "رُهاب" مستحكم من المثليين، وتشيد فيها البنايات على "أجساد العمال المنهكين"، في الوقت الذي انبرت بعض الصحف البريطانية لإقامة ربط غريب بين بعض الحوادث المتفرقة ومونديال قطر كواقعة توقيف مواطن بريطاني في العراق بسبب عدم سداده لديون مستحقة لبنك قطري.

اللافت أن هذه التوصيفات نادرا ما قُدمت بلغة صحفية ناقدة ومتوازنة يُستدعى الطرف الآخر للرد عليها، بل تصاغ في شكل لازمة ترددها وسائل الإعلام الغربية، وتُحيل إلى  ما يشبه ماهية ثابتة لقطر، وفي أحيان أخرى انصرفت بعض العناوين تلميحا وتصريحا لرسم صورة كاريكاتورية تختزل ثقافة ومجتمعا ونظاما سياسيا في بضع صور نمطية، وتصنف قطر في خانة "الآخر" المخالف للنموذج الثقافي الغربي الحداثي والمتخلف عنه بالأساس، أما قضايا شائكة من حجم الاقتصاد السياسي المرتبط بالعمالة المهاجرة في غرب آسيا أو الجدل حول صناعة "الهويات الجنسية السائلة" فقررت صحف أخرى القفز عليها وحصرها في سياسات قطر " المحجفة اتجاه العمال" أو"المضطهدة للمثليين".

هكذا ينظر إلى قطر في الخطاب الإعلامي الغربي لا كبلد مضيف لمونديال 2022، بل كتكثيف لصورة مُستجدة عن "الشرق" العجائبي المختزنة في مخيال الغرب) بتعبير إدوارد سعيد في دراسته للاستشراق) والتي لا تريد الصناعات الإعلامية الغربية التخفف منها منذ عقود. والآن تسفر تلك الصورة عن نفسها بوضوح في خطاب إعلامي يربطه خيط ناظم يُؤلف بين عشرات المقالات في صحيفة الغارديان القريبة من اليسار البريطاني أو التايمز المملوكة لرجل الأعمال روبرت مردوخ أو على قناة سي إن إن الأمريكية الأكثر ميلا للديمقراطيين أو "فرانس 24" الممولة من الحكومة الفرنسية وغيرها، فيما يشبه شبكة مُتسقة تنظر إلى نفسها كمركز ولما سواها كهوامش.

هذه الحكايا تُنسج أيضا بالاعتماد على سلسلة من المعلومات المضللة، تجد لها في مواقع التواصل الاجتماعي فضاء رحبا للانتشار، سواء لعدم وجود قواعد صارمة تضمن فرزا مهنيا للأخبار الزائفة، أو لطبيعة آليات تداول المحتوى على هذه المنصات، القائمة أساسا على سلطة "الخوارزميات" التي تفرض على جمهور واسع من المتلقين مصادر غير موثوقة تُستمد منها المعلومات بشأن تنظيم قطر للمونديال، إما بشكل عَرضي/آلي، قد يعزى لـ"فوضى الخوارزميات" وسطوتها على بنيات التواصل في هذه الفضاءات الرقمية، أو بطريقة متعمدة حيث تمول حملات مدفوعة أو تحريضية مجهولة المصدر للتأثير على صورة قطر وأطوار تنظيمها لهذا الحدث الرياضي.

لكن ليست هذه المرة الأولى التي يتمعن العالم العربي في صورة ملامحه على مرآة وسائل الإعلام الغربية، ليتعرف على قسماته كما يصر الغرب على تشكيلها نيابة عنه. وهي ملامح تغيَب فيها قوة الإنجاز، بينما تُستحضر الطباع الغرائبية والأوصاف المُتخلفة، وتُحشر السياقات شديدة التركيب التي تحكم البنيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لهذه المنطقة في مجال رؤية تبسيطي ضيق، عالق بين ثنائيات من قبيل أشرار/ أخيار، تقدم/ تخلف، أو ديمقراطية/ استبداد، حرية/ قمع... إلخ

هذا الخطاب الإعلامي تجاه المنطقة يُعلِن عن نفسه بجلاء في الأحداث الكبرى، ويدفع بالتالي للافتراض أن هذه الحملة ضد قطر يغذيها أيضا شيء آخر أعمق، ثاو في البنية الذهنية لمن ينتج بوعي كامل هذا الخطاب في وسائل الإعلام الغربية ولمن يصر عمدا على صناعة صورة تعيد عبرها شبكة الهيمنة الغربية إنتاج سردياتها عن العالم، وتثبيت سلطتها الاقتصادية والسياسية والثقافية.

فقبل أشهر قليلة، مع اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، كان طيف واسع من وسائل الإعلام الغربية مستغرقا في عقد المقارنات بين اللاجئين الأوكرانيين "الشُقر" و"المتحضرين" الذين يتقاسمون مع "الغرب" نفس منظومة القيم الحداثية، وبين اللاجئين القادمين من سوريا والعراق وأفغانستان المتمايزين عنهم والمنتمين إلى صنف "الآخر" المتصف بالفقر والجهل والتخلف.

وليست هذه المرة الأولى، أيضا، التي تخوض فيها وسائل الإعلام الغربية حملة ممنهجة ضد الدول المنظمة لأحداث رياضية كبرى والواقعة حسب رؤية المركزية الغربية لتقسيمات الجغرافيا الحضارية في "العالم الثالث" (البرازيل، جنوب أفريقيا) أو حتى تلك المصنفة فيما يمكن أن نطلق عليه "العالم المنافس" (الصين وروسيا).

إلا أن غُلو الحملة ضد قطر يجعلها مثالا مناسبا لاستدعاء أدبيات ما بعد الاستعمار (Postcolonialism) كعُدة نظرية لتفحص الخطاب الإعلامي الاستشراقي، وجدلية "الأنا" و"الغير" على الشاشات الغربية، ولغة الاستعلاء العرقي، فضلا عن سياسات الهوية التي تغلف المعالجة الصحفية لمثل هذه الأحداث الكبرى، دون إغفال الدور المحوري لوسائل التواصل الاجتماعي في نشر هذا الخطاب بفضل الثغرات التي تُوفرها هذه المنصات لتداول المعلومات المضللة.

 

هل يصور الإعلام الغربي الواقع كما هو.. في نظرية التمثيل

 

في منطقة عربية متعطشة لتجربة الانتقال الديمقراطي لعبت فيها وسائل الإعلام سواء في نسختها الرقمية أو التقليدية الجماهيرية دورا فاعلا في الحراك الديمقراطي الشعبي، قد يبدو مفهوما الاحتفاء بليبرالية وسائل الإعلام الغربية وتعدديتها واستقلاليتها وشساعة فضائها العام، بالمقارنة مع بيئات سياسية أخرى، لكن لا يجب أن يدفعنا ذلك للقفز على تاريخ من النقد الحاد وُجه للصناعات الإعلامية الغربية.

تعد مدرسة فرانكفورت النقدية إحدى أبرز من انتقد هذه الصناعة منذ أواخر أربعينيات القرن الماضي. تصنف أدبيات هذا التيار الصناعات الإعلامية في الغرب في خانة التي لا يحركها الرأسمال كعامل اقتصادي فحسب بل كمعطى ثقافي أيضا، فالرأسمال الغربي نفسه، إلى الآن، لم يتخلص من إرثه الاستعماري ومن ممارساته النيوليبرالية، وأي فهم لخطاب الإعلام الغربي اتجاه المستعمرات السابقة يجب أن يستحضر شبكات المصالح هذه، وقوى الهيمنة التي تبدو في ظاهرها إعلامية وثقافية بيد أنها تنطوي على أبعاد اقتصادية وسياسية.

خلافا لما تصوره وسائل الإعلام خلال الدعاية لنفسها من نقلها للواقع كما هو، إلا أن نظريات علوم الاتصال تؤكد أن أدوارها أكثر تعقيدا من مجرد امتلاك جرأة "نقل الواقع"، بتعبير السوسيولوجي البريطاني "ستيوارت هول" وسائل الإعلام ليست محض عاكس للواقع الصرف، بل إنها من تصنع تصورنا عن العالم وتصوغ معناه، وتملك سلطة تشكيل تمثلاته في أذهاننا، متكئة على قوتها الرمزية التي تمنحها القدرة على "الإظهار" و"الإخفاء" أو ما يطلق عليه ستيوارت هول نظرية التمثيل (Representation theory) أي سلطة اختيار الكيفية التي تظهر بها فئات اجتماعية أو عرقية أو ثقافات محددة، وآلية التمثيل هذه تتم عبر عدسات المصورين وأقلام الصحفيين وأصوات المذيعين ومن خلال سياسات التحرير. وبهذا المعنى تكون عملية إنتاج الخطاب مقابلا لإعادة إنتاج ناعم لشبكات الهيمنة الثقافية والسياسية الغربية.

يبدو أن الخطاب الغربي بعناية "تمثيل" قطر على شاشاته وصفحاته وفق شبكات المصالح تلك وعبر آلية "الإخفاء" و"الإظهار"، لتصبح صورة قطر المتداولة هي ما اختارت هذه المنصات الترويج له ووصفه وتقديمه للجمهور باعتباره واقعا حقيقيا. فقطر التي يعرفها المتلقي الغربي هي سلسلة الأوصاف التي اختارت وسائل الإعلام إظهارها والحديث عنها، فيما حجبت صفات أخرى وأخفت مشاهد موازية.

تقدم لنا الدراسات الثقافية النقدية نظريات أخرى قد تبدو مفيدة في تحليل هذا السلوك الإعلامي الغربي، من أهمها نظرية "الغير" (Othering theory) حيث تظهر وسائل الإعلام الغربية وكأنها بحاجة لتنصيب قطر في هيئة ذلك "الآخر" أو "الغير" الذي ينتهك حقوق العمال والمثليين، بهدف التأكيد على وجود "غرب" أو "الأنا" كذات حضارية متفوقة حقوقيا وديمقراطيا وحتى ثقافيا.

فالغرب وفق هذه الرؤية لا يستطيع الوعي بذاته بمعزل عن وجود ذات أخرى مقابلة له جغرافيا وحضاريا وتلقبها بـ “الآخر". هكذا لا يبدو مستغربا مثلا تذكير صحيفة الغارديان في أغلب مقالاتها بأن قطر دولة واقعة في شبه الجزيرة العربية، وأنها حديثة النشأة ويعتمد اقتصادها أساسا على الغاز وأنها بلد ذو ثقافة محافظة لا تكترث لحقوق الإنسان، فيما يشبه تذكيرا بعناصر هوية ثابتة للشخصية القطرية، وصفات تقدم على أنها سلبية، لصيقة بها كجوهر أصيل (Essentialism) ، وهذا النوع من الخطاب كما يرى ستيوارت هول أحد السمات الأساسية التي تصور بها الثقافة الغربية الشعوب المختلفة عنها بهدف تكريس تفوقها.

لكن الملامح الحضارية لقطر في الخطاب الإعلامي الغربي تنبني أيضا على ما يمكن وصفه بالصورة المتناقضة التي تقدمها تارة في هيئة فاعلٍ إقليمي وشريك دولي حاسم في الوساطات وفي تدبير الأزمات الدولية الكبرى، وتارة في صورة الدولة الخليجية التي تنتمي إلى غياهب الشرق السحيق، لا يمكن أن توكل إليها مهمة تنظيم حدث "غربي" بامتياز لرياضة هي "صنيعة الحداثة الغربية" وصناعة أبطالها تتم حصرا على أراض غربية.

هذا التناقض في الخطاب لا يعني ازدواجية في سياسات قطر الخارجية، كما تعرف الدولة نفسها وسياساتها إلى العالم، ولكنه يعكِس بالأساس وعيا مشوشا لدى الغرب عن قطر، أو ما تصطلح عليه أدبيات ما بعد الاستعمار بنظرية التناقض (Ambivalence theory)، هذا التناقض نابع من اعتقاد راسخ لدى منتجي خطاب وسائل الإعلام الغربية بدورهم "التوجيهي" اتجاه الشعوب والدول التي تحتل في نظرهم مراتب أقل في سلم التقدم، مقدمين خطابهم في صيغ "توجيه" أو "تلقين" على افتراض أن تلك الدول خلال محاولتها التدرج في سلم التنمية لبلوغ نموذجها الغربي، بحاجة لهذا النوع من الخطاب للاسترشاد والتعلم.

بهذا المعنى لا يجب التعامل مع خطاب الاستشراق، خاصة حين يتسرب إلينا محمولا عبر لغة وسائل الإعلام، كتراث نظري ينتمي إلى ماضي العلاقة المتوترة بين المستعمِر والمستعمَر، ماضٍ يدفع كُثر أن حتميات العولمة الاقتصادية وعالمية حقوق الإنسان قد تجاوزته، في الوقت الذي مازال يشكل منظومة فكرية تحركها عقيدة المركزية الغربية ويتغدى عليها خطاب وسائل الإعلام التي تضطلع بمهمة نقلها إلى الثقافة الشعبية بهدف استدامة وعي جمعي غربي يختزن صورة ذهنية عن شرق فاقد حتى لحدوده كرقعة جغرافية، ليصبح دلالة عن "الآخر" الممتد في كل مكان، شرط وجوده أن يتخلف عن الغرب.

 

ماوراء الخطاب الحقوقي لوسائل الإعلام الغربية

 

منذ الإعلان عن قبول ترشيح قطر لتنظيم كأس العالم 2022 أصر الإعلام الغربي على استدراجها إلى ساحات حقوق الإنسان وعلى تفحص سجل الدولة في هذا المجال، حيث نَسَج أيضا خطابا ملتبسا حول قضية حقوق العمال، إحدى أبرز مواطن الجدل بين الدوحة ووسائل الإعلام الغربية.

قد يبدو مفهوما ومقبولا استغلال حدث رياضي بهذا الحجم للضغط من أجل تحسين ظروف العمال في أي بلد مضيف، إلا أن اختزال قضية بالغة التعقيد والتداخل كالعمالة الوافدة في غرب آسيا باعتبارها مشكلة قطرية صرفة ينطوي على ازدواجية واضحة.

في هذا السياق تفسح أدبيات الاقتصاد السياسي على سبيل المثال لا الحصر، آفاقا شاسعة لمقاربة قضية يتداخل فيها البعد الحقوقي المحلي، مع نضالات البروليتاريا (الطبقة الفقيرة وفق أدبيات الفكر اليساري) العابرة لكل الأمكنة بما فيها الرقعة الجغرافية الغربية نفسها وتشتبك من خلالها الإشكاليات البنيوية المرتبطة بالرأسمالية المُعولمة العابرة للحدود التي أنتجت هذه الظاهرة، مع ما يعرف بالنظام العنصري للعمالة. إنه إرث قديم تحرص الشركات الغربية نفسها على استمراره، فيما تتطلب معالجته حلولا هيكلية يشترك في صياغتها مختلف المسؤولين عن هذه الظاهرة في مختلف محطات العبور والهجرة التي يمر عبرها هؤلاء العمال.

يلاحظ أن هذا النوع من الربط النقدي غائب عن خطاب وسائل الإعلام الغربية حين تطرقها لظروف العمال في قطر، مع إصرار يبدو أيضا متعمدا في تشكيل صورة عن "أزمة حقوق العمال" تصَوَب إلى قطر تهمة صناعتها حصرا عبر قوانين عمل رغم إصلاحها من قبل السلطات القطرية، لكنها لا تقنع صحفيي ومراسلي ومحللي القنوات والصحف الغربية.

 

مع اقتراب موعد كأس العالم في قطر، بدأ أيضا سيل من العناوين على وسائل الإعلام الغربية يحذر من أخطار محدقة بالمثليين أثناء تواجدهم على الأراضي القطرية، وأطلقت بمختلف اتجاهاتها ما يمكن وصفه بمعركة الحضور العادل للمثليين في المونديال، مع وسم قطر بـ "رهاب المثلية".

يحاول هذا الخطاب الإيحاء بأن نضالاته تتلخص في الانتصار للتطبيع مع سلوك جنسي أو التسامح مع فئة مختلفة مضطهدة، دون الإشارة إلى أن قضية المثلية تتجاوز السلوك الجنسي إلى معضلة إنتاج هوياتٍ جنسية وذواتٍ عابرة للجندر، ودون الأخذ بعين الاعتبار أن هناك ثقافة تتوجس من حمولة الأيديولوجيا الراغبة في خلق "إنسان جديد" سائل الهوية. هكذا يبدو أن خطاب وسائل الإعلام الغربية يختار صيغة تبسيطية متخفية وراء مقاربة حقوقية من جديد لطرح قضية "المثلية" في مونديال قطر، وبغض النظر عن كل الأبعاد الإشكالية لهذا الموضوع الذي مايزال حتى في الغرب محل نقاش أكاديمي وتربوي لا ينقطع منذ عقود. 

 

سلاح الخوارزميات والمعلومات المضللة

 

لم تكتف الحملة الإعلامية ضد قطر بصياغة خطاب استشراقي يعلي من شأن "الأنا" الغربية، ولكن الحملة قامت أيضا على سلسلة من المعلومات المضللة والأخبار الزائفة، حرفت وقائع وأحداثا ووضعاها خارج سياقها لتربطها بشكل غير مُتسق بمونديال قطر.

فمثلا، ما صور على أنها حملة مقاطعة لمدن فرنسية من بينها العاصمة باريس لمتابعة مباريات كأس العالم في الساحات العامة، اجتزأت من سياقها العام وارتباطها بقرارات داخلية على صلة بخفض مستويات استهلاك الطاقة في هذه المدن، فيما ربطت صحف أخرى مثلا حوادث كمقتل كلاب في ضواحي العاصمة الدوحة قبل أشهر أو اعتقال مواطن بريطاني في العراق بسبب تخلف عن سداد دين سابق لبنك قطري بتنظيم قطر لمونديال 2022.

هذا الخطاب الذي تروجه وسائل الإعلام الغربية في نسختها التقليدية الجماهيرية لصورة قطر، له رجع صدى قوي على مواقع التواصل الاجتماعي لسرعة انتشار مثل هذه الأخبار المضللة على هذه المنصات. فمواقع التواصل تعد بيئة خصبة لحملات التضليل ونشر خطابات الكراهية، ومرد ذلك لعوامل عدة تتعلق بعضها بطبيعة هذه المواقع وضعف آليات المراقبة والتحقق من مصادر الأخبار المتداولة على صفحاتها، وأخرى مرتبطة بالخوارزميات التي تعد الآليات الأساسية للتحكم في تداول المعلومات على المنصات الرقمية، والتي قد توجه الرأي العام بقصد أو بدون قصد لدعم الحملة الإعلامية الغربية ضد قطر.

نجهل على وجه الدقة الجهات التي تتحكم في سلوك هذه الخوارزميات، ونفترض إما أنها بشكل عَرضي تسهم في نشر الأخبار المغلوطة ضد مونديال قطر، أو أن هناك جهات معينة تدفع في هذا الاتجاه.

 

 هل يستطيع " التابع" أن يتكلم؟

 

هل يستطيع "التابع" أن يتكلم؟ هذا السؤال الذي طرحته المفكرة البنغالية "غاياتري سبيفاك" قبل أربعة عقود خلال نقاشها لمفهوم التابع كما صاغته أدبيات مابعد الاستعمار "كذات خلفها المحتل وراءه مثخنةً بكل صنوف الندوب"، قد يُستدعى أيضا في سياق استكشاف الرد القطري على هذه الحملة، ولكن في صيغة سؤال آخر ربما، هل استعاد " التابع" أخيرا حقه في الكلام؟

رغم تاريخ الاستبداد الطويل في المنطقة العربية، مثلت المنصات الإعلامية التي مولتها قطر أول ظهور لفضاء عام عربي بديل) بتعبير الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (عن الفضاءات العمومية الواقعية التي خنقتها عقود من الاستبداد.

تلك المنصات، ومع استحضار النقد الموجه إليها مهنيا أو تحريريا، استطاع بفضلها المواطن العربي أن يتداول قضاياه ويستعيد حقه في الكلام والكتابة دون أن تتكبد الصحف والقنوات الغربية عناء نقل صوته، بل أسهمت تلك القوة الناعمة في إشعال فتيل لحظة تاريخية كالربيع العربي، ليستعيد منذ ذلك الحين "التابع المتخيل" في الخطاب الغربي حقه في التعبير ويحاول في أكثر من ساحة عربية انتزاع فرصته في التنمية، رغم كل الكوابح والأعطاب التي تعيشها المنطقة، ومازال هذا المعترك الشاق متواصلا ولم يستقر بعد على نهايات واضحة.

توجيه النقد للغة الصحافة الغربية ضد قطر لا يعني أن شعوب هذه المنطقة يجب أن تركن لنظريات المؤامرة، أو أن تتحفظ على أي خطاب يواكب ويناقش تحولاتها وينتقد تراجع الحريات في منظوماتها، ولكنها لا تحتاج أيضا إلى وسطاء للحديث نيابة عنها، لأنها تمتلك الآن بفضل التحول الرقمي الهائل في مجال الاتصال أكثر من بديل لفعل ذلك.

بناء على هذه الرؤية، فإن الرد على الحملة الغربية ضد قطر قد لا يتطلب إنتاج خطاب مضاد بالضرورة، يكرس النظر إلى الغرب كـ "آخر" متغطرس وعنصري واستشراقي، ولكن يجب على المنصات الإعلامية خاصة الأكثر تأثيرا وانتشارا أن تمتلك وعيا حادا بخطورة هذا الخطاب وأن تعيد التفاوض على موازين القوى التحريرية وملامح الصورة وعبارات اللغة وأشكال التمثيل وأن تدفع في اتجاه كشف الأخبار الزائفة وحملات التضليل الإلكترونية وتوعية الجمهور بأساليبها.

على هذه المنصات أن تنسج أيضا خطابا إعلاميا يتخفف من أجندات وأولويات الغرب الإخبارية، ويقدس حق شعوب هذه المنطقة في إعلام يعيد إليها حقها في "الكلام" دون حواجز.. خطاب يواكب نضالها لأجل الديمقراطية.

 

 المراجع:

1. Said Edward. Orientalism. Vintage Book, 1979.

2. Hall, Stuart. Representation: cultural representations and signifying practices. Sage, 1997.

3. Banaji, Shakuntala, ‘’Representing underdeveloped others’’, Critical approach to Media Communication and development, 18 October 2022, LSE. 

4. Vora, Neha, and Babar, Zahra. "The 2022 World Cup and Migrants' Rights in Qatar: Racialised Labour Hierarchies and the Influence of Racial Capitalism." Wiley Online Library, 2022, https://doi.org/10.1111/1467-923X.13154.

 

 

 

المزيد من المقالات

إعلام السلطة وإعلام الثورة لا يصلحان لسوريا الجديدة | مقابلة مع يعرب العيسى

هل يمكن للإعلام الذي رافق الثورة السورية أن يبني صحافة جادة تراقب السلطة وتمنع عودة الانتهاكات السابقة؟ ما الذي تحتاجه المنظومة الإعلامية الجديدة كي تمنع السردية الأحادية للسلطة؟

Ahmad Haj Hamdo
أحمد حاج حمدو نشرت في: 16 مارس, 2025
بي بي سي والخضوع الطوعي لإسرائيل: كيف تنجو الحقيقة؟

كيف نفهم مسارعة "بي بي سي" إلى الرضوخ لمطالبات إسرائيلية بحذف فيلم يوثق جزءا من المعاناة الإنسانية في قطاع غزة؟ هل تصمد "الملاحظات المهنية الواجبة" أمام قوة الحقيقة والشهادات؟ وماذا يعني ذلك حول طريقة تعاطي وسائل إعلام غربية كبرى مع النفوذ الإسرائيلي المتزايد في ظل استمرار الحرب على الفلسطينيين؟

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 2 مارس, 2025
ترامب وإغلاق USAID.. مكاشفة مع "الإعلام المستقل"

غاب النقاش عن تأثير قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وقف التمويل الخارجي التابع لوكالة التنمية الأمريكية USAID، على المنصات الصحفية العربية. دأبت بعض هذه المنصات على تسمية نفسها بـ "المستقلة" رغم أنها ممولة غربيا. يناقش هذا المقال أسباب فشل النماذج الاقتصادية للمؤسسات الممولة غربيا في العالم العربي، ومدى استقلالية خطها التحريري.

أحمد أبو حمد نشرت في: 5 فبراير, 2025
الصحفي الرياضي في مواجهة النزعة العاطفية للجماهير

مع انتشار ظاهرة التعصب الرياضي، أصبح عمل الصحفي محكوما بضغوط شديدة تدفعه في بعض الأحيان إلى الانسياق وراء رغبات الجماهير. تتعارض هذه الممارسة مع وظيفة الصحافة الرياضية التي ينبغي أن تراقب مجالا حيويا للرأسمال السياسي والاقتصادي.

أيوب رفيق نشرت في: 28 يناير, 2025
هل ستصبح "ميتا" منصة للتضليل ونظريات المؤامرة؟

أعلن مارك زوكربيرغ، أن شركة "ميتا" ستتخلى عن برنامج تدقيق المعلومات على المنصات التابعة للشركة متأثرا بتهديدات "عنيفة" وجهها له الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب. هل ستساهم هذه الخطوة في انتعاش نظريات المؤامرة وحملات التضليل والأخبار الزائفة أم أنها ستضمن مزيدا من حرية التعبير؟

Arwa Kooli
أروى الكعلي نشرت في: 14 يناير, 2025
التعليق الوصفي السمعي للمكفوفين.. "لا تهمنا معارفك"!

كيف تجعل المكفوفين يعيشون التجربة الحية لمباريات كأس العالم؟ وهل من الكافي أن يكون المعلق الوصفي للمكفوفين يمتلك معارف كثيرة؟ الزميل همام كدر، الإعلامي بقنوات بي إن سبورتس، الذي عاش هذه التجربة في كأسي العرب والعالم بعد دورات مكثفة، يروي قصة فريدة بدأت بشغف شخصي وانتهت بتحد مهني.

همام كدر نشرت في: 12 يناير, 2025
هل تنقذ المصادر المفتوحة الصحفيين الاستقصائيين العراقيين؟

تصطدم جهود الصحفيين الاستقصائيين في العراق بالتشريعات التي لا تسمح بالولوج إلى المعلومات. مع ذلك، تبرز تجارب جديدة تتجاوز التعقيدات السياسية والبيروقراطية بالاعتماد على المصادر المفتوحة.

حسن أكرم نشرت في: 5 يناير, 2025
الصحافة العربية تسأل: ماذا نفعل بكل هذا الحديث عن الذكاء الاصطناعي؟

كيف أصبح الحديث عن استعمال الذكاء الاصطناعي في الصحافة مجرد "موضة"؟ وهل يمكن القول إن الكلام الكثير الذي يثار اليوم في وسائل الإعلام عن إمكانات الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي ما يزال عموميّا ومتخيّلا أكثر منه وقائع ملموسة يعيشها الصحفيون في غرف الأخبار؟

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 2 يناير, 2025
التضليل في سوريا.. فوضى طبيعية أم حملة منظمة؟

فيديوهات قديمة تحرض على "الفتنة الطائفية"، تصريحات مجتزأة من سياقها تهاجم المسيحيين، مشاهد لمواجهات بأسلحة ثقيلة في بلدان أخرى، فبركة قصص لمعتقلين وهميين، وكم هائل من الأخبار الكاذبة التي رافقت سقوط نظام بشار الأسد: هل هي فوضى طبيعية في مراحل الانتقال أم حملة ممنهجة؟

Farhat Khedr
فرحات خضر نشرت في: 29 ديسمبر, 2024
جلسة خاطفة في "فرع" كفرسوسة

طيلة أكثر من عقد من الثورة السورية، جرب النظام السابق مختلف أنواع الترهيب ضد الصحفيين. قتل وتحقيق وتهجير، من أجل هدف واحد: إسكات صوت الصحفيين. مودة بحاح، تخفت وراء أسماء مستعارة، واتجهت إلى المواضيع البيئية بعد "جلسة خاطفة" في فرع كفرسوسة.

Mawadah Bahah
مودة بحاح نشرت في: 17 ديسمبر, 2024
الصحافة السورية المستقلة.. من الثورة إلى سقوط الأسد

خلال 13 سنة من عمر الثورة السورية، ساهمت المنصات الصحفية المستقلة في كشف الانتهاكات الممنهجة للنظام السابق. الزميل أحمد حاج حمدو، يقدم قراءة في أدوار الإعلام البديل من لحظة الثورة إلى لحظة هروب بشار الأسد

Ahmad Haj Hamdo
أحمد حاج حمدو نشرت في: 13 ديسمبر, 2024
الاستعمار الرقمي.. الجنوب العالمي أمام شاشات مغلقة

بعد استقلال الدول المغاربية، كان المقاومون القدامى يرددون أن "الاستعمار خرج من الباب ليعود من النافذة"، وها هو يعود بأشكال جديدة للهيمنة عبر نافذة الاستعمار الرقمي. تبرز هذه السيطرة في الاستحواذ على الشركات التكنولوجية والإعلامية الكبرى، بينما ما يزال الجنوب يبحث عن بديل.

Ahmad Radwan
أحمد رضوان نشرت في: 9 ديسمبر, 2024
الجنوب العالمي.. مناجم بوليفيا والإعلام البديل

هل أسست إذاعات المناجم في بوليفيا لتوجه جديد في دراسات الاتصال الواعية بتحديات الجنوب العالمي أم كانت مجرد حركة اجتماعية قاومت الاستبداد والحكم العسكري؟ وكيف يمكن قراءة تطور إذاعات المناجم على ضوء جدلية الشمال والجنوب؟

Khaldoun Shami PhD
خلدون شامي نشرت في: 4 ديسمبر, 2024
تحديات تدفق البيانات غير المتكافئ على سرديات الجنوب

ساهمت الثورة الرقمية في تعميق الفجوة بين دول الجنوب والشمال، وبعيدا عن النظريات التي تفسر هذا التدفق غير المتكافئ بتطور الشمال واحتكاره للتكنولوجيا، يناقش المقال دور وسياسات الحدود الوطنية والمحلية لدول الجنوب في في التأثير على سرديات الجنوب.

Hassan Obeid
حسن عبيد نشرت في: 1 ديسمبر, 2024
عن الصحافة الليبرالية الغربية وصعود الشعبويّة المعادية للإعلام

بنى إيلون ماسك، مالك منصة إكس، حملته الانتخابية المساندة لدونالد ترامب على معاداة الإعلام الليبرالي التقليدي. رجل الأعمال، الذي يوصف بأنه أقوى رجل غير منتخب في الولايات المتحدة الأمريكية، يمثل حالة دالة على صعود الشعبوية المشككة في وسائل الإعلام واعتبارها أدوات "الدولة العميقة التي تعمل ضد "الشعب".

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 24 نوفمبر, 2024
ازدواجية التغطية الإعلامية الغربية لمعاناة النساء في العالم الإسلامي

تَعري طالبة إيرانية احتجاجا على الأمن، و70 في المئة من الشهداء في فلسطين نساء وأطفال. بين الخبرين مسافة زمنية قصيرة، لكن الخبر الأول حظي بتغطية إعلامية غربية واسعة مقابل إغفال القتل الممنهج والتعذيب والاعتقال ضد النساء الفلسطينيات. كيف تؤطر وسائل الإعلام الغربية قضايا النساء في العالم الإسلامي، وهل هي محكومة بازدواجية معايير؟

Shaimaa Al-Eisai
شيماء العيسائي نشرت في: 19 نوفمبر, 2024
كيف يقوض التضليل ثقة الجمهور في الصحافة؟

تكشف التقارير عن مزيد من فقدان الثقة في وسائل الإعلام متأثرة بحجم التضليل الذي يقوض قدرة الصحافة المهنية على التأثير في النقاشات العامة. حواضن التضليل التي أصبحت ترعاها دول وكيانات خاصة أثناء النزاعات والحروب، تهدد بتجريد المهنة من وظائفها في المساءلة والمراقبة.

Muhammad Khamaiseh 1
محمد خمايسة نشرت في: 11 نوفمبر, 2024
جيريمي سكاهيل: الحرب على غزّة وضرورة العودة إلى "صحافة المواجهة"

يدعو الصحفي الاستقصائي الشهير جيريمي سكاهيل إلى إحياء ما أسماه "صحافة المواجهة" للتصدي لحالة التفريط بالقيم المهنية والإنسانية الأساسية في وسائل إعلام غربية مهيمنة، وخاصة في سياق تغطية الإبادة في قطاع غزة.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 6 نوفمبر, 2024
تأثير إفلات سلطة الاحتلال الإسرائيلي من العقاب على ممارسة المهنة بفلسطين

صنفت لجنة حماية الصحفيين الاحتلال الإسرائيلي في مقدمة المفلتين من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين. الزميل ياسر أحمد قشي، رئيس قسم حماية الصحفيين بمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسان، يشرح في المقال كيف فشلت المنظومة الأممية في حماية "شهود الحقيقة" في فلسطين.

ياسر أحمد قشي نشرت في: 3 نوفمبر, 2024
التضليل والسياق التاريخي.. "صراع الذاكرة ضد النسيان"

ما الفرق بين السادس والسابع من أكتوبر؟ كيف مارست وسائل الإعلام التضليل ببتر السياق التاريخي؟ لماذا عمدت بعض وسائل الإعلام العربية إلى تجريد حرب الإبادة من جذورها؟ وهل ثمة تقصد في إبراز ثنائية إسرائيل - حماس في التغطيات الإخبارية؟

Said El Hajji
سعيد الحاجي نشرت في: 30 أكتوبر, 2024
أدوار الإعلام العماني في زمن التغيرات المناخية

تبرز هذه الورقة كيف ركز الإعلام العماني في زمن الكوارث الطبيعية على "الإشادة" بجهود الحكومة لتحسين سمعتها في مقابل إغفال صوت الضحايا والمتأثرين بالأعاصير وتمثل دوره في التحذير والوقاية من الكوارث في المستقبل.

Shaimaa Al-Eisai
شيماء العيسائي نشرت في: 21 أكتوبر, 2024
نصف الحقيقة كذبة كاملة

في صحافة الوكالة الموسومة بالسرعة والضغط الإخباري، غالبا ما يطلب من الصحفيين "قصاصات" قصيرة لا تستحضر السياقات التاريخية للصراعات والحروب، وحالة فلسطين تعبير صارخ عن ذلك، والنتيجة: نصف الحقيقة قد يكون كذبة كاملة.

Ilya U. Topper
إيليا توبر Ilya U. Topper نشرت في: 14 أكتوبر, 2024
النظام الإعلامي في السودان أثناء الحرب

فككت الحرب الدائرة في السودان الكثير من المؤسسات الإعلامية لتفسح المجال لكم هائل من الشائعات والأخبار الكاذبة التي شكلت وقودا للاقتتال الداخلي. هاجر جزء كبير من الجمهور إلى المنصات الاجتماعية بحثا عن الحقيقة بينما ما لا تزال بعض المؤسسات الإعلامية التقليدية رغم استهداف مقراتها وصحفييها.

محمد بابكر العوض نشرت في: 12 أكتوبر, 2024
عامٌ على حرب الإبادة في فلسطين.. الإعلام الغربي وهو يساوي بين الجاني والضحيّة

ما تزال وسائل إعلام غربية كبرى تثبت أنّها طرفٌ في حـرب الرواية، ولصالح الاحتلال الاسرائيلي.. في هذا المقال، يوضّح الزميل محمد زيدان كيف أن وسائل إعلام غربية كبرى ما تزال تطوّر من تقنيات تحيّزها لصالح الاحتلال، رغم انقضاء عام كامل على حرب الإبـادة في فلسطين.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 8 أكتوبر, 2024