في نهاية كل عام، تصدر العديد من المؤسسات المعنية بالمشهد الإعلامي العالمي وتحولاته الكبرى في العصر الرقمي تقارير ودراسات عن توقعاتها واستشرافها لما يمكن أن يكون عليه هذا المشهد في العام القادم.
في السطور التالية نحاول أن نقرأ بعض هذه التقارير التي صدرت عن مركز ليمان لاب الأمريكي ونخرج بأبرز ما ركزت عليه فيما يتصل بصناعة الصحافة، ونبدأ بما نشره المختبر المختص ببحوث الصحافة، مع التركيز بشكل أساسي على موضوع إدماج أنظمة الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار.
التحول الرقمي.. تحد ثقافي أكثر منه تقنيا
ترى الكاتبة ألكساندرا بورشاردت في مقالها المنشور على موقع ليمان لاب أن غرف الأخبار في جميع أنحاء العالم تنقسم إلى قسمين: قسم أهل المحتوى الذي يضم صحفيي الأخبار، وصحفيي المواد المعمقة الذين يقضون معظم الوقت منخرطين في البحث عما يمكن أن يسهم في إسناد المحتوى بالتحليلات والبحث دائما عن المصادر التي تضيف إلى ما يؤدونه من عمل.
وفي الجانب الآخر هنالك البقية الذين يعملون على الجوانب المتصلة بالقوالب الفنية والأفكار الجديدة التي تساعد في إنتاج المحتوى المميز وترويجه.
لكن الكاتبة تعتقد أنه -مع ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي- لن يظلّ وضع غرف الأخبار كما هو قائما على الأدوار التقليدية المعروفة، بل سيكون على كل فرد في غرفة الأخبار تقريبا أن يفهم كيفية عمل النماذج اللغوية القائمة على الذكاء الاصطناعي وكيفية استخدامها.
وتعتقد بورشاردت، وهي باحثة ألمانية مستقلة، أن عام 2024 يجب أن يكون العام الذي تتعامل فيه المؤسسات الإعلامية بشيء من الجدية مع مسائل التعليم والتدريب داخل غرف الأخبار، خاصة فيما يتعلق بجوانب الابتكار التي من بينها الذكاء الاصطناعي.
تعتقد بورشاردت، وهي باحثة ألمانية مستقلة، أن عام 2024 يجب أن يكون العام الذي تتعامل فيه المؤسسات الإعلامية بشيء من الجدية مع مسائل التعليم والتدريب داخل غرف الأخبار، خاصة ما يخص جوانب الابتكار والتي من بينها الذكاء الاصطناعي.
وتنقل الكاتبة عن آن لاجركرانتز، نائبة الرئيس التنفيذي لهيئة الإذاعة العامة في السويد قولها: "علينا سد الفجوة الرقمية في غرف الأخبار". وتعتقد لاجركرانتز أن هذا يتطلب تثقيف كل العاملين في غرف الأخبار وتدريبهم، حتى أولئك الذين تجنبوا حتى الآن مراقبة التطورات التي تحدث في المشهد الإعلامي. وتضيف أنه وبينما كان من المقبول تماما في الماضي، على سبيل المثال، ألا يعرف الصحفي الاستقصائي أي شيء عن تحسين محركات البحث أو خوارزميات تيك توك أو أهمية رسائل النشرات الإخبارية، فيجب الآن على كل من يشارك في صناعة المحتوى أن يكون على دراية بالقدرات وأوجه القصور وآليات العمل الخاصة بأدوات الذكاء الاصطناعي؛ مثل النماذج اللغوية الكبيرة، والأدوات الموثوقة للتحقق من الأخبار والصور والفيديو، والمسؤوليات القانونية والأخلاقية المترتبة على استخدام تلك الأدوات.
وبحسب الكاتبة، فإن الذكاء الاصطناعي لديه كل القدرة على تحويل الباحثين والصحفيين الجيدين إلى متميزين؛ فقد أشارت بحوث أجريت في جامعة هارفارد إلى أن المستشارين الذين استخدموا الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع أنهوا مهامهم بشكل أسرع بنحو 25%، وتفوقوا على أقرانهم بنسبة 40% في الجودة. وسيكون من مصلحة الجميع، الأفراد وأصحاب العمل، ألا يتخلف أحد عن الركب.
وترى الكاتبة أن تهيئة غرف الأخبار لتكون مواكِبَة لهذه التحديات الجديدة لن تكون مهمة سهلة في البداية؛ فالتدريب يحتاج إلى الموارد والوقت. بيد أن إدارات المؤسسات الإعلامية قد تكون مترددة في توفير كليهما أو قد تميل إلى الاستثمار في أدوات جديدة ليست ذات قيمة بدلا من ذلك، وتشير إلى أن العديد من المديرين غير قادرين على فهم أن التحول الرقمي يمثل تحديا ثقافيا أكثر من كونه تقنيا.
ويحتاج التدريب أيضا إلى مدربين على مستوى عال من الوعي بما يقومون به من دور، وهؤلاء لا يتوفرون بسهولة في الوقت الذي يتطور فيه الذكاء الاصطناعي بسرعة مذهلة. وتحذر الكاتبة من الذين يروجون لأنفسهم على أنهم مستشارون في الذكاء الاصطناعي، وتدعو إلى السعي دائما إلى التمييز بين من يعرف حقا، ومن يدعي المعرفة.
ويمكن أن يكون التدريب تمرينا عديم الجدوى عندما لا يقترن بالممارسة. ومع الذكاء الاصطناعي على وجه الخصوص، ينبغي أن يكون الهدف هو تنفيذ ثقافة التجريب والتعاون والشفافية بدلا من جعل العملية مجرد تمرين ميكانيكي؛ لأن التقدم التكنولوجي يحدث بشكل أسرع بكثير مما يتوقعه المدرب الأكثر كفاءة على الإطلاق.
لابد من الحذر من الذين يروجون لأنفسهم على أنهم مستشارون في الذكاء الاصطناعي، والسعي دوما للتمييز بين من يعرف حقا، ومن يدعي المعرفة.
وتشدد الكاتبة على ضرورة أن تكون ثقافة التعلم داخل غرف الأخبار هدفا جديرا بالاهتمام لعام 2024 واستثمارا يؤتي ثماره في مجالات أخرى أيضا. وترى أن من المرجح أن أي شخص مهتم بروح الاختبار والتعلم سوف يوسع مداركه في مجالات أخرى غير الذكاء الاصطناعي، مثل الاهتمام بتطوير مهارات أخرى كصحافة المناخ وغيرها؛ فبحسب الكاتبة إن العديد من التحديات التي تواجه غرف الأخبار اليوم تتطلب التكيف المستمر، والعمل مع بيئة البيانات وثقافتها، وبناء الاتصالات مع الجمهور الذي أصبح أكثر تطلبا وتقلبا ونفاد صبر مما كان عليه في السابق. ومن المهم أن يتحمل كل صحفي على الأقل جزءا من المسؤولية عن تأثير ما يقدمه من محتوى.
لا بد من المواجهة
تفتتح الكاتبة سيندي رويال مقالها الذي حمل عنوان: "الذكاء الاصطناعي يغير كل شيء.. ولا شيء" بعبارة من أحد طلابها تقول: إن البقاء على علم بأحدث المستجدات، والتعليم المستمر، والمرونة، والاهتمام بالقضايا الأخلاقية المتعلقة بالتكنولوجيا، كلها ستكون مسائل ضرورية للنجاح في البيئة المهنية المتغيرة.
وترى رويال، أستاذة ومديرة مختبر الابتكار الإعلامي في جامعة ولاية تكساس الأمريكية، أن ما يُعرَف الآن بالذكاء الاصطناعي العام أصبح يَعرِف كل شيء تقريبا، إلى الحد الذي سيُشعَر معَه أنّ خوارزمية غوغل التي تقدم لنا حاليا نتائج بحث ذات جودة ممتازة هي خوارزمية قديمة مثل خوارزمية "ماي سبيس" My Space.
وتأمل الخبيرة في مجال الابتكار الإعلامي أن يسهم الذكاء الاصطناعي في حل مشكلات المعلومات المضللة، والتحيز، وإساءة الاستخدام، لا أن يساعد على تفاقمها.
وبالنظر إلى المستقبل - تقول رويال - عندما نتحدث عن الذكاء الاصطناعي، علينا أن نفكر في كيفية تأثيره على طرق تخزين المعلومات وتوزيعها. لدينا الآن كميات كبيرة من المحتوى العام الذي يُستخدم لتدريب منصات الذكاء الاصطناعي، التي أنشأها ملايين الأشخاص. ولكن إذا لم نعد بحاجة للذهاب إلى موقع ويب للحصول على المعلومات، فهل ستصبح العديد من مواقع الويب غير ضرورية؟ إذا كان الأمر كذلك، فما هو تدريب الذكاء الاصطناعي؟ ما الذي سيكون عليه شكل البيانات؟ هل يجب أن يكون عرض مساحات الويب المتبقية أكثر مرونة وتخصيصا؟ ماذا ستكون منصات المستقبل؟ ومن سيكون المسؤول عنها؟ من سيكون لديه المهارات اللازمة للعمل في هذه المجالات؟ وكيف سيتكيف التعليم الإعلامي؟ علينا أن ننظر أكثر إلى الأمام.
ربما أصبحت المخاطر أكبر الآن، مع وجود تقنية لا يفهمها سوى عدد قليل جدا من الناس ولا يستطيع التحكم فيها سوى عدد أقل، ولكن لابد من التعامل مع هذه التقنية ومواجهة آثارها لا الهروب منها.
وتتوقع الكاتبة أن يصبح الذكاء الاصطناعي في عام 2024 أكثر سهولة وأكثر فائدة، تماما مثل أدوات البحث ووسائل التواصل الاجتماعي، وتتوقع كذلك أن تستخدم منصات الذكاء الاصطناعي لكتابة رسائل البريد الإلكتروني، والإسهام في كتابة القصص الصحفية، وتحرير النصوص، وتحليل البيانات وتقديمها، وإنشاء الرسومات، وإعداد الأبحاث الجامعية، وتعلم البرمجة.
ولكن، وبحسب الكاتبة، ثمة مدعاة للقلق من الذكاء الاصطناعي فيما يتصل بإمكانية استيلاء تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي على الوظائف، وكذلك فيما يتعلق بنشر الأكاذيب، والتحيز في المعلومات، وعمليات القرصنة. ستكون هناك آثار أخلاقية واجتماعية وقانونية، وحوادث مؤسفة وارتباك.
ربما أصبحت المخاطر أكبر الآن، مع وجود تقنية لا يفهمها سوى عدد قليل جدا من الناس ولا يستطيع التحكم فيها سوى عدد أقل، ولكن لا بد من التعامل مع هذه التقنية ومواجهة آثارها لا الهروب منها.
تأثير الذكاء الاصطناعي على الجدوى الاقتصادية لصناعة الصحافة
يعتقد الكاتب ريتشارد توفل رئيس التحرير السابق لمؤسسة بروبوبليكا أن تأثير الذكاء الاصطناعي على الجدوى الاقتصادية المستقبلية لصناعة الصحافة لم يلق الاهتمام المطلوب، مرجحا أن يكون عام 2024 هو العام الذي تتغير فيه هذه النظرة.
ويتناول في مقاله قضية حصول أجهزة الذكاء الاصطناعي على المعلومات والبيانات التي يوفرها الناشرون ودون مقابل، ويتساءل عن إمكانية مقاضاة هؤلاء الناشرين للمنصات وإجبارها على الدفع، مشيرا إلى أن ذلك يعتمد إلى حد كبير على قانون حقوق الطبع والنشر (في بلد ما)، وما إذا كانت المنتجات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي محمية بموجب ما يسميه القانون "الاستخدام العادل".
ويعتقد الكاتب أنه وبحلول عام 2024 ستكون القضايا الخاصة بالعلاقة بين الناشرين وشركات الذكاء الاصطناعي محددة، وفي طريقها إلى الحل. ويرى أنه وإذا حكمت محكمة ما، في عام 2025 أو نحو ذلك، لصالح أصحاب حقوق الطبع والنشر الأساسيين بشأن هذه المسألة، فسوف يصوغ كبار الناشرين صفقاتهم الخاصة مع مزودي الذكاء الاصطناعي.
يرى رودني جيبس، مدير الاستراتيجية والابتكار في صحيفة أتلانتا جورنال، أنّ ثمة فرصا كبيرة لصناعة الصحافة يوفرها الذكاء الاصطناعي التوليدي.
ويعتقد الكاتب أن للذكاء الاصطناعي عيوبه؛ إذ تسببت الأخطاء التي ظهرت في المقالات المكتوبة بواسطة الذكاء الاصطناعي في إحراج المؤسسات الإخبارية المسؤولة، كما قوّضت أيضا من مصداقية الصحافة نفسها التي تعاني من مستويات ثقة منخفضة تاريخيا.
ومع ذلك، توفر هذه التكنولوجيا فوائد هائلة للصحافة؛ إذ تساعد الصحفيين -وأولئك الذين يدعمونهم- بطرق لم يكن من الممكن تصورها من قبل. ففي صناعة تتخلى عن الناشرين والوظائف وتواجه تحديات روتينية لإنجاز أكبر بموارد أقل، من الحماقة ألا نحاول على الأقل تجربة الذكاء الاصطناعي التوليدي.
ويتوقع الكاتب حدوث انقسام ملحوظ في عام 2024 بين أولئك الذين يتبنون الذكاء الاصطناعي التوليدي وأولئك الذين لا يتقبلونه، ويرى أن هذا سيؤدي إلى ظهور "طبقة الذكاء الاصطناعي" بين الأفراد وغرف الأخبار، ويضيف أنه لا يتحدث عن المحتوى المنشور الذي يلعب فيه الذكاء الاصطناعي دورا، وإنما يقصد غرف الأخبار المسؤولة التي تتعامل مع التقارير التي لن تكون ممكنة بدون الذكاء الاصطناعي.
كما أن المؤسسات والأفراد الذين يستفيدون من الذكاء الاصطناعي التوليدي بشكل كبير سوف يتفوقون على أقرانهم عندما يتعلق الأمر بمجالات مثل تنمية الجمهور، وإدارة الجهات المانحة، وبرمجة الكمبيوتر، واستهداف المبيعات.
ولا ينسى الكاتب أن يشير إلى المخاوف والمحاذير الأخلاقية والفنية التي يمكن أن تنتج عن تبني تقنية الذكاء الاصطناعي، بيد أنه يراه إيجابيا تماما وأن فوائده المحتملة تُغيِّر قواعد اللعبة. ويشير إلى أنه، وفي حقبة سابقة، شكلت صحافة البيانات لحظة فاصلة مماثلة، وبرزت غرف الأخبار التي احتضنت صحافة البيانات بوصفها مبتكرة، وقدمت للجمهور تقارير وتصورات رائدة، كما دفعت الاستراتيجيات المبنية على البيانات في تطوير المنتجات، وتقديم المحتوى، وتوليد الإيرادات، غرف الأخبار هذه إلى الأمام. ومن المتوقع أن يكون للذكاء الاصطناعي التوليدي تأثير مماثل، ولكن على نطاق أوسع بكثير، وهو ما يغير بشكل عميق الكفاءة التشغيلية للمؤسسة ومخرجاتها.
ويختتم الكاتب مقاله بأن الذكاء الاصطناعي لن ينقذ الصحافة، لكنه سيسهم في تحولها، مشيرا إلى أن اعتماد الذكاء الاصطناعي التوليدي لن يكون مجرد خيار تكنولوجي، بل سيكون ذلك شرطا مهما في الميزة التنافسية والقدرة الابتكارية للمؤسسات الإخبارية؛ الكبيرة والصغيرة.
الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار الأصغر حجما
يقول الكاتب إرنست كونغ مدير برنامج الذكاء الاصطناعي في وكالة أسوشيتدبرس إنهم توصلوا، ومن خلال العمل على مبادرة الذكاء الاصطناعي للأخبار المحلية التابعة للوكالة، إلى أن غرف الأخبار الأصغر حجما في الولايات المتحدة الأميركية متعطشة للذكاء الاصطناعي. ويضيف أنه ومع ظهور تشات جي بي تي بدأت مزيد من غرف الأخبار الأصغر في الاهتمام بالذكاء الاصطناعي.
ويتوقع كونغ أن تتبنى غرف الأخبار الأصغر وعلى نطاق واسع نوعا من أدوات الذكاء الاصطناعي في سير عملها في عام 2024؛ فقد تختار بعض غرف الأخبار الأصغر اعتماد ChatGPT أو Claude أو Bard أو بعض أدوات الدردشة الأخرى التي تعمل بنموذج اللغة، فعلى سبيل المثال، قد يطلب الصحفيُّ الذي يتطلع إلى صياغة عنوان جذاب من أداة الذكاء الاصطناعي التوليدي تقديمَ اقتراحات.
ويشير الكاتب إلى أنه وفي بعض الأحيان قد لا يكون الذكاء الاصطناعي مناسبا بسبب احتمال ارتكاب الأخطاء. ولذلك؛ فهو ينادي بضرورة أن يتعلم الصحفيون في غرف الأخبار الأصغر اعتماد أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي المتطورة بمسؤولية، مع الانتباه إلى المخاطر الكبيرة التي ينطوي عليها استخدامها.