من الشائع أن يكون مجال تداول مفهوم "إلقاء اللوم على الضحية" في قضايا الاغتصاب والاعتداء الجنسي؛ إذ غالبا ما تُتهم ضحية الجريمة بالتسبب فيها على نحو غير مباشر بسبب ملابسها أو سلوكها. إلا أن هذا المفهوم، الذي ينتمي إلى مجال علم النفس الاجتماعي، يملك قدرة تفسيرية أكبر من ذلك، تشمل كل ضحايا الانتهاكات، فضلا عن كونه مفهوما ولد في سياق سياسي لتفسير الفظائع التي حدثت خلال الحرب العالمية الثانية، ولا سيما خلال المحرقة اليهودية.
قبل أسابيع نشرت جمعية الصحفيين المناهضين للعنصرية والعنصريين في فرنسا (أجار)، تجميعا عشوائيا لمقاطع متنوعة من وسائل إعلام فرنسية تتجه جميعها في الخط نفسه: تبرير القصف الإسرائيلي على سكان قطاع غزة، من خلال حجج ذات مغالطات منطقية وتاريخية، وعبر استعمال معجم محدد من الكلمات ذات الدلالة المنحازة للجانب الإسرائيلي، والمستعارة أساسا من معجم وسائل الإعلام الإسرائيلية ومؤسستها السياسية والعسكرية. ولكنها تصب في النهاية عند فكرة تحميل سكان غزة مسؤولية ما يحدث لهم، وكأن الإبادة المستمرة تجري على أيدي أشباح غير مرئيين، في ظل غياب واضح لمرتكب الجريمة الأصلي في منطوق الخطاب.
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، شرعت وسائل الإعلام الغربية السائدة -وللأسف بعض وسائل الإعلام العربية- في إنتاج خطاب إعلامي، من خلال تفضيلات إذاعة الأخبار، وخاصة عبر التحليلات والتعليقات التي يقدمها الخبراء الذين تستضيفهم، قائم على تغييب الجاني وإلقاء اللوم على الضحية. وهو خطاب يكاد يتحول إلى نزوع عنصري، يضع كل منظومة القيم الصحفية التي تدافع عنها هذه المؤسسات الغربية، بل وتعيّر بها زملاءها في دول الجنوب، موضع مساءلة، وربما ستحدد نظرتنا المستقبلية -بصفتنا صحفيين عربا ومن دول الجنوب- لهذه المنظومة.
قلب الأدوار.. المحتل ضحيةً
يفسر علم النفس الاجتماعي ميلنا إلى إلقاء اللوم على الضحية بحاجتنا إلى الاعتقاد بأن العالم مكان عادل ومنصف. عندما يحدث شيء سيئ لشخص آخر، فإننا غالبا ما نعتقد أنه لا بد أنه فعل شيئا يستحق مثل هذا المصير. ولأن الناس يريدون أن يصدقوا أن العالم عادل؛ فسوف يبحثون عن طرق لتفسير الظلم أو تبريره، وغالبا ما يلقون اللوم على الشخص في الموقف الذي هو في الواقع الضحية. ربما هذا ما يدفع قطاعا واسعا من وسائل الإعلام السائدة والمعلقين الغربيين إلى إلقاء اللوم على شعب قطاع غزة؛ فلا تكاد تغيب عن تعليقاتهم الكلمات المألوفة عن "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس".
خطاب الصحافة الغربية يكاد يتحول إلى نزوع عنصري، يضع كل منظومة القيم الصحفية التي تدافع عنها هذه المؤسسات الغربية، بل وتعيّر بها زملاءها في دول الجنوب، موضع مساءلة، وربما ستحدد نظرتنا المستقبلية -بصفتنا صحفيين عربا ومن دول الجنوب- لهذه المنظومة.
لكن هؤلاء المعلقين وهذه المؤسسات الإعلامية ليسوا كتلة واحدة. ينزع البعض إلى تكتيك "نزع الإنسانية عن الفلسطيني"، من خلال المبالغة في "أنسنة الإسرائيلي"، وكذلك من خلال الدمج بين حماس بوصفها منظمة سياسية وعسكرية والشعب الفلسطيني في غزة، ومن ثَمّ تُحوِّل كل سكان غزة إلى أعضاء في حماس، وإلى أهداف شرعية للقتل. وهنا لا نتحدث فقط عن إلقاء اللوم على الضحية، بل عن إنكار وجود الضحية أصلا وقلب الأدوار؛ إذ تتحول إسرائيل إلى ضحية. في المقابل ينزع فريق ثان إلى تأكيد أن الضحايا المدنيين هم ضحايا الأضرار الجانبية للحرب والقصف الموجه للمقاتِلين، وأنهم غير ملتزمين بالتوجيهات العسكرية الإسرائيلية بالتوجه إلى المناطق الآمنة، باستعمال معجم الجيش الإسرائيلي؛ مثل "الضربات المنهجية"، و"الحرب على حماس". وثالثا أنهم يجب أن يعبروا عن سخطهم مما فعلته المقاومة الفلسطينية، ورابعاً أنهم من انتخبوا حركة حماس في عام 2006. تبدو هذه السردية المكونة من حجج هشة ومغالطات منطقية شديدة الرواج، وهي سردية ذات أصول إسرائيلية معتمدة بشدة في دعايتها حتى من قبل الحرب. وهنا نتحدث بشكل واضح عن إلقاء اللوم على الضحية؛ فالفلسطيني الغزي الذي ما زال يساند المقاومة يجب أن يموت، والفلسطيني الذي انتخب ذات مرة حركة حماس يجب أن يعاقب. أما الفريق الثالث، الذي يبدو أقل عنفا معنويا، فهو الآخر يلعب لعبة لوم الضحايا نفسها بشكل ضمني، من خلال التركيز على الوضع الإنساني في غزة، بدون إلقاء اللوم على الاحتلال الإسرائيلي، حتى يخيل إليك أن كل ذلك الركام والجثث بسبب إعصار أو فيضان أو كارثة طبيعية. كما تغيب في خطابه المصطلحات الأساسية للقضية كالاحتلال والنكبة والتهجير والتطهير العرقي والإبادة الجماعية. مع أنه يستعمل هذا المعجم بحماسة شديدة، وأحيانا بإفراط ومبالغة لتغطية حروب أخرى أو أحداث أقل شأنا. ورغم التعبئة الشعبية الكبيرة في الدول الغربية، إلى جانب الشعب الفلسطيني، فإن هذا الخطاب الإعلامي السائد ما زال يقف حاجزا بين فهم قضية احتلال فلسطين والكتلة الأكبر من الرأي العام الغربي، ولا سيما الأغلبية الصامتة التي ما زالت تعتمد على وسائل الإعلام التقليدية في بناء تصورها عن القضايا الدولية؛ فهي ليست فقط مجرد مستهلك لوسائل الإعلام لمعرفة الواقع، بل للتعرف إلى نفسها والآخرين في الوقت نفسه. فهذه الوسائل ليست مزوِّدة بالمعلومات، بل ناقلة للهوية والموقف.
ثمة تركيز على الوضع الإنساني في غزة، بدون إلقاء اللوم على الاحتلال الإسرائيلي، حتى يخيل إليك أن كل ذلك الركام والجثث بسبب إعصار أو فيضان أو كارثة طبيعية.
لذلك، فإن نهج إلقاء اللوم على الضحايا الذي تنتهجه وسائل الإعلام الغربية السائدة، في سياق الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، يؤثر بشكل واضح في ترسيخ فكرتين أساسيتين ربما يكون لهما تأثير أعمق على الرأي العام الغربي المستهلك لهذا الخطاب. أولا، جعل فكرة عدم التعاطف مع الضحايا شرعية وأخلاقية. وينبع إلقاء اللوم على الضحية أساسا من عدم التعاطف مع الآخرين. لذلك؛ قد تصبح هذه الحالة معدية وتتسرب من شاشات القنوات إلى الرأي العام. ثانيا، وهو الأكثر أهمية، ترسيخ العنصرية والفاشية بوصفها أفكارا ذات شرعية. قبل خمسة عقود، صاغ عالم النفس ويليام رايان مفهوم "إلقاء اللوم على الضحية" في كتابه الذي صدر حاملا العنوان نفسه عام 1971. يذهب رايان إلى أن لوم الضحية هو أيديولوجية تستخدم لتبرير العنصرية والظلم الاجتماعي في سياق معالجة مسألة السود في الولايات المتحدة، ودحض كتاب دانيال باتريك موينيهان "العائلة الزنجية" الذي صدر عام 1965، مدافعا فيه عن أطروحة لوم الضحية. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، حين وضع المنظر الماركسي، تيودور أدورنو، دراسته المرجعية عن "الشخصية الاستبدادية"، التي حدد فيها السمات الشخصية للفرد الفاشي، أكد أن "إلقاء اللوم على الضحية" أحد أكثر السمات الأساسية للشخصية الفاشية. فالفاشي -بحسب أدورنو- هو المزدري "لكل شيء مختلف أو ضعيف".
والحقيقة أن هذا النهج الإعلامي الغربي في إلقاء اللوم على الضحية ليس جديدا ولا بدعة غربية في سياق الصراع العربي الإسرائيلي، ولكنه منتج إسرائيلي أساسي في إدارة صراع السرديات في مواجهة العرب. في عام 1988 أصدر المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد والصحفي كريستوفر هيتشنز كتاب "إلقاء اللوم على الضحايا: الدراسات الزائفة والمسألة الفلسطينية"؛ لنقد "هيمنة وجهة النظر الصهيونية في الخطاب الثقافي الغربي، ولا سيما الأكاديمي". ومن الموضوعات التي يعالجها الكتاب تفنيد الرواية الصهيونية عن نكبة فلسطين عام 1948؛ النموذج الأقوى لفكرة إلقاء اللوم على الضحايا، التي تقول إن الجيوش العربية هي من أخرجت السكان العرب من قراهم بشكل طوعي. وقد ظلت هذه الرواية متماسكة بقوة في المجتمع الأكاديمي الغربي وفي وسائل الإعلام والصحافة حتى سنوات متأخرة، ولم تتراجع إلا بعد دراسة المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس التي استندت إلى تقارير سرية للجيش الإسرائيلي.
الأغلبية الصامتة في الغرب ما زالت تعتمد على وسائل الإعلام التقليدية في بناء تصورها عن القضايا الدولية؛ فهي ليست مزوِّدة بالمعلومات، بل ناقلة للهوية والموقف.
كبش الفداء المقدس
اللافت أن وسائل الإعلام الأوروبية، وعلى العكس من نظيرتها الأمريكية، كانت قبل سنوات تُتهم بأنها مؤيدة للفلسطينيين، ربما لأسباب تتعلق بسيطرة نخب يسارية على وسائل الإعلام العامة، وكذلك نقطة التحول التي وقعت عام 1967 عندما تحولت إسرائيل من بلد يدافع عن وجوده وسط العرب إلى دولة احتلال، وفقا للقانون الدولي والمنطق الأوروبي. في فرنسا بالذات، عزز موقف الجنرال ديغول عن هذا "الشعب الواثق من نفسه والمسيطر" انقلاب صورة الضحية التي تحولت إلى الجلاد، لكن هذا الحال أصبح يتراجع منذ سنوات نحو العودة القوية للتأييد الإسرائيلي، الذي يمكن تفسيره من خلال زاويتي نظر:
أولاً، عقدة الذنب التاريخية، وصناعة كبش فداء جديد. تتعلق عقد الذنب الغربية -ولا سيما الأوروبية- تجاه إسرائيل بمخلفات الحرب العالمية الثانية؛ إذ كان العداء التــاريــخــي للسامـيـة والـيـهـود -بوصفهم مجموعة عرقية/دينية- عقيدة أساسية ضمن العقائد السياسية الأوروبية السائدة والجماهيرية قبل الحرب من خلال جعل اليهود كبش فداء وتحميلهم مسؤولية المؤامرة المتخيلة. وقد ظهر ذلك بشكل أكثر وضوحا وقسوة ملخَّصا في الفاشية، التي حولت هذه العقيدة إلى سياسة دموية. بعد الحرب، تحول كبش الفداء إلى مقدس، بـسـبـب عـقـدة الذنب. لذلك؛ تحولت إســرائيل -بوصفها حلا جوهريا لهذه المعضلة- إلى كيان مدلل غربيا وذي صورة شبه مقدسة في وسائل الإعلام الغربية. في المقابل، أصبح كبش الفداء الجديد هم العرب والمسلمون، ولا سيما خلال العقدين الأخيرين؛ فمن خلال صياغة جديدة للمؤامرة، كما يتخيلها قطاع واسع من النخب الغربية، ولا سيما اليمين، فالإسلاموية والإرهاب والجهادية هي السمات الجديدة لكبش الفداء، الذي يجب أن يحمل مسؤولية كل الشرور. لذلك؛ تبدو صورة الفلسطيني العربي المسلم الإرهابي كثيفة الحضور في وسائل الإعلام الغربية. وخلال هذه الحرب الإبادية القائمة، بدا واضحا إعادة إنتاج وسائل الإعلام الغربية لمقولات اليمين الإسرائيلي عن "حرب النور على الظلام" و"الإنسانية على الإرهاب".
واللافت أن مراجعة سريعة للصحف اليمينية الغربية خلال النصف الأول من القرن العشرين، تكشف رسوخ نهج إلقاء اللوم على الضحايا بما يتعلق بالمسألة اليهودية؛ إذ كان جزء من النخبة الإعلامية الغربية يلومون اليهود، على ما لحق بهم من مآسٍ. بل وقد تطور هذا النهج خلال المحرقة بشكل لا أخلاقي، بالزعم أن اليهود ذهبوا بشكل سلبي "مثل الأغنام إلى المذبحة"، وهو ما يعدّه عدد من الباحثين -ومنهم إميل فاكنهايم- شكلا من أشكال إلقاء اللوم على الضحية، أو درجة ثانية من درجات معاداة السامية الناجمة عن محاولات الأوروبيين غير اليهود إلقاء اللوم في المحرقة على اليهود.
في كتابه "أسطورة السلبية اليهودية" (2014)، يكشف ريتشارد ميدلتون أن هذه النخب الغربية التي وقفت تتفرج بينما كان اليهود يُقتلون، تحاول من خلال إلقاء اللوم على الضحايا تبرئة نفسها من خلال إزاحة سلبيتها وإسقاطها على الضحايا أنفسهم الذين فشلت في حمايتهم. إن إلقاء اللوم على السلبية اليهودية المفترضة في المذابح الجماعية لليهود يمنحنا الراحة من خلال تحويل انتباهنا عن موقفنا كمتفرجين سلبيين وسط الإبادة الجماعية الحالية؛ ففي نهاية المطاف، إذا كانت المسؤولية تقع على عاتق مسلمي البوسنة، أو التوتسي، أو السودانيين، أو سكان شرق أفريقيا، أو الشعب الفلسطيني فإننا لسنا مسؤولين عن موتهم.
إلى وقت قريب كانت وسائل الإعلام في أوروبا مملوكة في الأغلب للدولة؛ لذلك كان تأثير رأس المال في إدارة التحرير ضعيفا، وكانت الانحيازات أقل شأناً من اليوم.
ثانيا، المصالح الرأسمالية؛ إذ تلعب المصالح المشتركة بين أصحاب المؤسسات الإعلامية والمؤسسات المؤيدة لإسرائيل، سياسيا واقتصاديا، دورا أساسيا في هذا الانحياز. إلى وقت قريب كانت وسائل الإعلام في أوروبا مملوكة في الأغلب للدولة؛ لذلك كان تأثير رأس المال في إدارة التحرير ضعيفا، وكانت الانحيازات أقل شأناً من اليوم. منذ نهاية الثمانينات، وموجة النيوليبرالية، التي دعمتها الوحدة الأوروبية وتشريعاتها الجديدة، أصبحت وسائل الإعلام خاضعة لتوجيهات رأس المال الأيديولوجية والمصلحية. في بلد مثل فرنسا اليوم، تتأرجح وسائل الإعلام السائدة بين قطبيين: مجموعة إعلامية ضخمة موالية تماما لإسرائيل ويقودها الإسرائيلي الفرنسي باتريك دراحي، ومجموعة أخرى أكثر قوة وانتشارا ذات نزوع يميني متطرف يقودها رجل الأعمال فانسان بولوريه.