احتفت بعض وسائل الإعلام الأردنية المحلية بتقدم الأردن 14 خطوة في نسخة 2024 من التصنيف العالمي لحرية الصحافة، الذي أعدته منظمة "مراسلون بلا حدود" محتلا المرتبة 132 من أصل 180 دولة، بعد أن كان في المرتبة 146 في تصنيف 2023، فما انعكاس هذا التصنيف على أرض الواقع؟
للمرة الخامسة.. بحجة "عدم الترخيص"
عصر يوم الثلاثاء، الموافق 7 مايو/ أيار الجاري، تفاجأ كادر شركة قناة اليرموك الفضائية، المحسوبة على الحركة الإسلامية، بمداهمة الأجهزة الأمنية بمختلف مراتبها لمقر الشركة، من دون إبلاغ أو إنذار مسبق، وعملت على تفكيك أجهزة البث الفضائي ومصادرتها وإغلاق المكاتب، رغم أن قرار المدعي العام نصَّ على مصادرة الأجهزة من دون الإغلاق حسب محامي الشركة بسام فريحات: "كان معهم كتاب من المدعي العام بضبط الأجهزة، لكن لم يكن معهم قرار بإغلاق المكاتب، ومع ذلك أغلقوها".
لاحقًا، صرَّحت هيئة الإعلام على لسان مديرها بشير المومني، أن "الهيئة تقدمت بشكوى لمدعي عام عمان بمواجهة شركة قناة اليرموك لمخالفتها قانون الإعلام المرئي والمسموع المتمثِّل بالبث من دون ترخيص، والذي قرر مصادرة الأجهزة التي تستخدم في جريمة البث من دون ترخيص باعتبارها جزءًا من الأدلة في الدعوى".
منذ انطلاقها عام 2012، سعت القناة إلى ترخيصها لدى السلطات المعنية، وأعلمت هيئة الإعلام المرئي والمسموع لوزير الإعلام بقبول ترخيص قناة اليرموك بعد أن استوفت الشروط والإجراءات المطلوبة منها كاملة عام 2013، إلا أن القناة قوبلت في كل مرة بالتأجيل والتأخير من دون رفض صريح أو موافقة رسمية للعمل داخل الأردن. ويقول المحامي فريحات إن "التأخير كان من طرفهم وما شعرنا أن هناك رفضا، لأنهم كانوا يخبروننا أن أمورنا جيدة وعلينا الانتظار لأخذ الموافقة النهائية".
وتعرضت القناة في عام 2015 لإغلاق مكاتبها ومصادرة أجهزتها من قِبل أجهزة الأمن بعد شكوى قدَّمتها هيئة الإعلام بحجَّة "عدم الترخيص"، وتبعتها عدَّة شكاوى أخرى مشابهة حكم القضاء فيها جميعًا بعدم مسؤولية القناة عن الجرم المسند إليها. يوضح المدير العام للقناة، خضر المشايخ لـ"مجلة الصحافة"، أن هيئة الإعلام تُقدم شكاويها على القناة بحجة البث الفضائي غير المرخَّص، رغم أن شركة قناة اليرموك لا تعتمد البث الفضائي، إنما تسجل برامجها وترسلها إلى شركة جولف سات في دولة الكويت، لتُبث هذه البرامج من خلال المساحة التي تملكها الشركة الكويتية على الأقمار الصناعية بشكل غير مباشر". وهذه الطريقة "سليمة قانونيا" حسب محامي القناة، بدليل أن الشكاوى الأربع الماضية مرت على عشرة قضاة أجمعوا فيها على براءة القناة من تهمة البث من دون ترخيص.
ويستبعد المشايخ أن يكون المحتوى الذي تنشره القناة، ولا سيما المتعلق بتغطيتها لغزة، سببا للإغلاق، في ظل أن القنوات الحكومية الرسمية وشبه الخاصة تقدم تغطيات مماثلة، بل يرى أن الإغلاق والمماطلة في منح الترخيص للقناة يعود إلى أسباب سياسية لا فنية أو قانونية، قائلا في هذا الصدد: "الأمر أشبه بالمناكفات بين بعض الجهات الرسمية والتيار الإسلامي، ورغبة بعض الجهات الرسمية في الضغط على أحد المنابر الإعلامية للتيار الإسلامي"، ولا سيما مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية في البلاد المقرر عقدها في 10 سبتمبر/ أيلول القادم.
وتنتظر القناة قرارا من المدعي العام على الشكوى الأخيرة المقدمة بحقها، وأعلنت على منصة فيسبوك توقُّف البث "لظروف خارجة عن إرادتها"، بعد توقف تسجيل برامجها في الأردن، الأمر الذي نتج عنه تعطُّل 25 صحفيا عن العمل، إلى غاية كتابة هذا التقرير.
تعرضت قناة اليرموك في عام 2015 لإغلاق مكاتبها ومصادرة أجهزتها من قِبل أجهزة الأمن بعد شكوى قدَّمتها هيئة الإعلام بحجَّة "عدم الترخيص"، وتبعتها عدَّة شكاوى أخرى مشابهة حكم القضاء فيها جميعًا بعدم مسؤولية القناة عن الجرم المسند إليها.
انتهاك التوقيف والرقابة الذاتية
منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، شهدت الساحة الأردنية في محيط السفارة الإسرائيلية بمنطقة الرابية في العاصمة عمان، حراكا واسعا مؤيدا للمقاومة الفلسطينية في عمليتها "طوفان الأقصى"، ورافضا للإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، ومنتقدا لمعاهدات السلام أو الاتفاقيات الاقتصادية التي أبرمتها السلطات مع الاحتلال، وقد ترافق ذلك كله مع حملة اعتقالات شملت صحفيين وغيرهم من ناشطين ومتظاهرين.
كان من هؤلاء مصوِّر مجلة حبر، أحمد محسن (شربل الديسي)، الذي اعتقلته الأجهزة الأمنية بتاريخ 30 مارس/ آذار الماضي، في أثناء تصويره لمظاهرة منددة بالعدوان على قطاع غزة في محيط السفارة الإسرائيلية. وبعد ليلتين من توقيفه في مديرية أمن وسط عمان، صدر الأمر بتحويله إلى المحافظ الذي أمر بتوقيفه إداريا من دون تهمة، وحُوِّل لاحقا إلى سجن ماركا، ثم نُقل إلى سجن السلط فجر 6 أبريل/ نيسان، ورُفِضت كل المحاولات لكفالته، حتى وافق المحافظ عليها وأُطلق سراحه يوم 14 أبريل/ نيسان.
وفي 21 مارس/آذار 2024، ألقت قوات الأمن الأردنية القبض على المصور المستقل، عبد الجبار زيتون، بينما كان يغطي المظاهرة في محيط السفارة، وأبقاه الحاكم الإداري سبعة أيام قيد الاحتجاز من دون توجيه تهمة إليه، علما أن هذا القرار يعود إلى المدعي العام بحسب القانون الأردني.
وفي 26 من الشهر ذاته، اعتُقل أيضا خير الجابري، صحفي موقع عربي بوست، ونُقل إلى وحدة مكافحة الجرائم الإلكترونية التابعة لإدارة البحث الجنائي. استجوبته عناصر الوحدة بشأن نشاطه على الإنترنت وتغطيته للمظاهرات الداعمة لغزة، وطلب المدعي العام احتجازه لمدة سبعة أيام في سجن ماركا في عمان قبل أن يفرج عليه بكفالة في 30 مارس/آذار الماضي، لكنه وُضع تحت حظر السفر في انتظار إنهاء محاكمته أمام محكمة جزائية.
وشملت الاعتقالات طالبي الإعلام في جامعة اليرموك عبد الرحمن الشيخ، وعطية أبو سالم وهو سوري الجنسية، اللذين اعتُقلا بتاريخ 9 أبريل/ نيسان وهما في طريقهما إلى منطقة الرابية لتغطية المظاهرات المؤيدة لغزَّة، وأفرجت السلطات عن عبد الرحمن بعد عشرة أيام من التوقيف، وأبقت على عطية الذي أصدرت وزارة الداخلية بحقه قرارًا بالترحيل إلى سوريا، ما دفع أبو سالم إلى إعلان إضرابه عن الطعام في 14 مايو/ أيَّار، إلى أن أفرجت السلطات عنه في 29 من الشهر نفسه. يقول محامي عطية، أحمد سواعي لـ "مجلة الصحافة": "أخبرنا محافظ عمَّان شفويًا بإلغاء قرار الترحيل لكننا لم نستلم إلى الآن أي شيء رسمي، لذلك لا يزال الطعن الإداري لقرار الترحيل موجودًا في المحكمة ومنظورًا فيه"
وأوقفت وحدة الجرائم الإلكترونية، الصحفي رضا ياسين، بتاريخ 5 مايو/ أيار الجاري لمدة ليلتين، على خلفية منشورات له على منصة "إكس" (تويتر سابقا) انتقد فيها الجسر البري الأردني الذي يمد الاحتلال الإسرائيلي بالبضائع، وكذلك انتقد الاعتداءات من قبل مستوطنين إسرائيليين على قوافل المساعدات الأردنية إلى قطاع غزة.
تقول المحامية هالة عاهد إن غالبية التُّهم التي واجهت الصحفيين والناشطين خلال العدوان على غزّة، كانت تستند إلى قانون الجرائم الإلكترونية بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تنتقد معاهدات السلام أو الاتفاقيات مع إسرائيل أو تدعو إلى إضرابات عامة واحتجاجات.
في السياق نفسه، أعلنت الإعلامية إسراء الشيخ أن الأمن الأردني أوقفها في مطار الملكة علياء الدولي، بتاريخ 6 مايو/ أيار الجاري لعدة ساعات، ومنعها من المغادرة وأبلغها أن في حقها قضية تابعة لوحدة الجرائم الإلكترونية، وأشارت الشيخ عبر حساباتها في مواقع التواصل إلى أنها لم تُبلغ بذلك من قبل مضيفةً أن قضية دعوتها للإضراب الدولي في 11 ديسمبر/ كانون الأول 2023، انتهت في لقاء مع الأجهزة الأمنية، وأن "المقابلة كانت ودية وانتهت في حينها".
وحسب المحامية في مجال حقوق الإنسان، هالة عاهد، فإن "غالبية التُّهم التي واجهت الصحفيين والناشطين خلال العدوان على غزّة، كانت تستند إلى قانون الجرائم الإلكترونية الصادر في أغسطس/آب 2023، بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تنتقد معاهدات السلام أو الاتفاقيات الاقتصادية التي أبرمتها السلطات الأردنية مع الاحتلال الإسرائيلي، أو تدعو إلى إضرابات عامة واحتجاجات. "كانت التُّهم تستند إلى المادة 15 و17 من قانون الجرائم الإلكترونية"، ما يشير -وفق عاهد- إلى أن السلطات تستخدم هذا القانون للتضييق على الصحفيين في التعبير عن آرائهم.
واحتوت هاتان المادتان من قانون الجرائم الإلكترونية على عقوبة الحبس أو الغرامة أو كلتا العقوبتين لكل من قام بـ"ذم أو قدح أو تحقير هيئة رسمية" و"نشر ما من شأنه إثارة الفتنة أو النعرات أو الحض على الكراهية أو الدعوة إلى العنف أو استهداف الأمن الوطني أو السلم المجتمعي". وكانتا سببًا في العام الماضي لانتقادات لاذعة واحتجاجات متتالية أمام مجلس النواب ونقابة الصحفيين الأردنية؛ لاحتوائهما على مصطلحات فضفاضة تتيح للسلطات تقييد حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة والإعلام في البلاد.
ولا تزال الصحفية هبة أبو طه حتَّى كتابة هذهِ المادة، محتجزة في سجن الجويدة، بعد أن أوقفتها وحدة الجرائم الإلكترونية بتاريخ 14 مايو/ أيار، في إثر نشرها مقال رأي على موقع (Anasher) اللبناني بشأن المسيرات الإيرانية، وقد حكم عليها بسنة سجنا مؤخرا بموجب قانون الجرائم الإلكترونية، ورُفِضت عدة محاولات لكفالتها، بحسب محامي أبو طه.
يرى الصحفي محمد شمَّا، المتخصص في قضايا حقوق الإنسان ومراسل منظمة "مراسلون بلا حدود"، أن الأردن لم يشهد منذ سنوات حملة اعتقالات بحق الصحفيين بهذا الحجم خلال مدة زمنية قصيرة، مرجعا ذلك إلى صياغة قانون الجرائم الإلكترونية الذي يعطي صلاحيات واسعة للسلطات حتى تتحكم بالمنابر والمساحات.
كذلك أسهمت الاعتقالات في فرض مزيد من الرقابة الذاتية المسبقة لدى الصحفيين، قبل التعبير عن آرائهم أو إنتاج موادهم الصحفية، ما أدى إلى "تضييق المساحة المنكمشة للصحافة"، ومن ثَم فقدان الساحة الأردنية لإعلام مستقل أو تحييده قدر الإمكان.
ويفتقد الصحفي الأردني المستقل للدعم والحماية من منظمات المجتمع المدني أو المؤسسات الإعلامية أو نقابات مستقلة مهنية، ما يجعله أمام خيارين؛ فإما أن يغامر بنشر محتوى مستقل يعارض الرواية الرسمية ويتحمل ثمن ذلك اعتقالا وغرامة، وإما أن يمارس الرقابة الذاتية على نفسه، و"مسألة الرقابة الذاتية هي في حد ذاتها انتهاك كبير، ومن ثَمّ ففي الوقت الذي نوثِّق فيه انتهاكات واضحة مثل توقيف عدد من الصحفيين وإغلاق قناة اليرموك، فثمة انتهاك خفي يتمثَّل في فرض الصحفي الرقابة الذاتية على نفسه"، حسب محمد شما دائما.
وعند التواصل مع نقابة الصحفيين الأردنية لتسجيل موقفها من اعتقال عدد من الصحفيين في إثر تغطيتهم لمظاهرات غزة أو كتابة مواد صحفية متعلقة بالإبادة الجماعية في القطاع أو منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، ردت على لسان عضوها خالد القضاة، أنها "معنية بالدفاع عن الصحفيين المنتسبين للنقابة فقط. ولأن الصحفيين السابق ذكرهم غير منتسبين لها، فالنقابة لا تستطيع الدفاع عنهم، وقانونها "القاصر" لا يعطيهم الصلاحيات لحماية الصحفيين غير المنتسبين". ويؤكد القضاة أن النقابة ليست معنية بأشخاص بقدر ما هي معنية بالحريات العامة في الأردن ومراجعة التشريعات "لتوفير حالة توازن تضمن للناس حرية تعبير أعلى".
يرى الصحفي محمد شمَّا، المتخصص في قضايا حقوق الإنسان ومراسل منظمة "مراسلون بلا حدود"، أن الأردن لم يشهد منذ سنوات حملة اعتقالات بحق الصحفيين بهذا الحجم خلال مدة زمنية قصيرة.
يُذكر أن الهيئة العامة لنقابة الصحفيين جددت توصيتها في تاريخ 26 أبريل/ نيسان "بتطبيق القانون وإحالة منتحلي صفة صحفي على المدعي العام لاتخاذ العقوبات الحاسمة بحقهم بوصف ذلك إجراء لتنظيم مهنة الصحافة في الأردن". وتَعُد النقابة بحسب قانونها رقم 15 لسنة 1998، كلّ من يمارس مهنة الصحافة من دون أن يكون مسجلا بالنقابة منتحلا ومدَّعِيا ويُعاقَب بغرامة لا تقلّ عن ألف دينار (ما يقارب 1400 دولار أميركي) ولا تزيد على ألفي دينار (ما يقارب 2800 دولار أمريكي)، وتُضاعَف الغرامة في حالة التكرار وفق التعديل الذي تمّ على القانون في العام 2014.
الأردن 14 خطوة.. إلى الأمام؟
وعودة إلى احتفاء بعض وسائل الإعلام الأردنية بتقدُّم 14 خطوة في التصنيف العالمي لحرية الصحافة، الصادر عن منظمة "مراسلون بلا حدود"، يعلق شمَّا، وهو المراسل في المنظمة، أن تقدم الأردن هو تعبير رقمي فقط، والحقيقة أن مقياس الحريات الصحفية في العالم انحدر، فتراجعت كثير من دول العالم في مؤشر عام 2024 لدرجات دُنيا؛ ما نتج عنه تلقائيا ارتفاع الأردن وغيرها. يؤكد شمَّا: "الأردن لم يتقدم 14 خطوة؛ لأن حال الحريات الصحفية فيه تحسنت، إنَّما لتراجع مؤشر حرية الصحافة في العالم أجمع".
ويقيِّم تقرير المنظمة في نسخته الحالية حال الحريات الصحفية لعام 2023 بعد سن قانون الجرائم الإلكترونية العام الماضي ورصد بعض الرقابة التي عاشها الصحفيون في ذلك الوقت. ويتوقّع شمَّا أن يكون تقرير العام القادم "صادما ومفاجئا"؛ لأنه سيرصد الانتهاك الواضح المباشر بحق العمل الصحفي، الذي بدأ منذ يناير/ كانون الثاني 2024 حتى هذه اللحظة، ولا سيما أن المنظمة تعرِّف الصحفي بأنه كل من ينشط بالصحافة والإعلام، ومن ثَم كل من تعرّض للتوقيف في الفترة الأخيرة أو تعرض للمضايقات فهو صحفي.
ويرى شمَّا أن السياق العام في العالم وما يحدث من قتل ودمار ومجازر في قطاع غزة، شجّع السلطات جميعها، الغربية منها والعربية، على مزيد من الخرق والانتهاك وزيادة الخِناق على الصحفيين؛ إذ سجَّل قطاع غزة وحده استشهاد 145 صحفيا خلال العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ أكثر من 7 أشهر، كذلك شهدت العديد من الجامعات الأمريكية والأوروبية قمعا واعتداء على الاحتجاجات الطلابية الرافضة للإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة.