منذ اندلاع الثورة التونسية يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2011، استعمل التونسيون الهاتف المحمول كأداة لنقل ما يحصل في الجهات الداخلية من تحركات سلمية ضد النظام. كانت ردة فعل النظام عنيفة عبر قمع المحتجين وإطلاق النار على الشباب في الشوارع. لم يكن الهاتف المحمول مجرد وسيلة للاتصال، بل أصبح قناة تصل التونسيين بالعالم وتكشف بشاعة المشهد تحت حكم نظام دكتاتوري. صوّر التونسيون الآلاف من مقاطع الفيديو بعدسات هواتفهم المحمولة ونشروها على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي. تناقلت القنوات التلفزية الدولية مقاطع الفيديو، وكشفت معاناة التونسيين وسلمية احتجاجاتهم.
الثورة سياسيا وتقنيا
مثلت الثورة التونسية منعرجا تاريخيا ونقلة نوعية في سبل نقل الأخبار والتعاطي مع المعلومة، ولم تعد التغطية الإعلامية حكرا على مؤسسات محلية تسيطر عليها السلطات، وإنما صارت ملكا للشارع. وبات من يحمل الهاتف المحمول يمتلك جزءا من الحقيقة. وأثبتت سنة 2011 أن التقنيات الحديثة وخاصة الهاتف المحمول، بدأت تغيير العالم بسرعة.
تطورت الهواتف المحمولة خلال السنوات القليلة الماضية، ومكنت التحديثات من استعمال الهاتف للتصوير والتركيب وكذلك النشر مباشرة على المنصات المتعددة.
كصحفي تونسي ومراسل للعديد من وسائل الإعلام الأجنبية، أتنقل بين المدن والقرى التونسية لنقل الأحداث وإعطاء الكلمة لمواطنين يحلمون برؤية الكاميرا.
خلال صائفة 2013، غطَّيتُ وقفة احتجاجية أمام المجلس الوطني التأسيسي بالعاصمة تونس. لم يكن الحدث استثنائيا، إلا أن ردة فعل المتظاهرين الغاضبين من مواقف الإعلام من بعض القضايا، كانت عنيفة.
كنت مع مصور صحفي بصدد استجواب مواطن.. تجمع العشرات حولي ثم هاجموا فريق العمل.. حملتُ الكاميرا وحاولت حمايتها.. لم أهاجَم لشخصي وإنما لأني كنت أمثل جزءا من إعلام تونسي تحرر بعد الثورة. تلقيت اللكمات والكدمات لكي أحمي الكاميرا، ولكن المعتدين تمكنوا من تهشيمها. كانت الكاميرا الأولى التي اشتريتها، لم أكمل تسديد أقساطها ولم تعد صالحة للاستعمال.
عدت إلى مكتبي وفكرت بطريقة تساعدني على تغطية الأحداث دون أن أتعرض للخطر. اكتشفت أن استعمال الهاتف المحمول يوفر الحماية ويبعد الجماهير أثناء المظاهرات. يظن الكثيرون أن الهاتف مجرد "لعبة"، ولا يمكن أن يكون وسيلة مهنية للعمل الصحفي.
بعد يوم واحد من الاعتداء، اشتريت هاتفا محمولا مجهزا بكاميرا عالية الجودة.. صرت أذهب إلى المظاهرات والتحركات الاجتماعية حاملا كاميرا في الحقيبة وهاتفا في جيبي، وكلما أحسست بخطر يتهدّدني، كنت أخفي الكاميرا وأستعمل الهاتف المحمول. صورت المئات من مقاطع الفيديو بهاتفي، واستعملت الصور في أغلب التقارير الإخبارية التي أنتجتها لمختلف وسائل الإعلام الأجنبية. اختلطت بالمواطنين وأصبحت في أعين الكثيرين مجرد مواطن يحمل هاتفه المحمول لتخليد ذكرى حدث لا للعمل الصحفي، مع أنني كنت أعمل.
الهاتف المحمول رفيق العمل
في سنة 2015، عاشت تونس موجة من الهجمات "الإرهابية". كان الهجوم على متحف باردو يوم 18 مارس/آذار من أعنف العمليات الدموية.. انتقلت مع فريق العمل لمعاينة المكان حيث اصطفت كاميرات القنوات المحلية والدولية. قام المصورون الصحفيون بعملهم بمهنية عالية، وفي هذه الأثناء، صورت بعض مقاطع الفيديو. لم أعد إلى المكتب لتركيب (مونتاج) الصور، بل ركّبتها وحرّرتها على هاتفي المحمول. أرسلت الفيديو النهائي إلى وكالة أنباء عالمية. نشرت الوكالة الفيديو الذي بُثَّ في النشرات الأولى لعشرات القنوات مباشرة بعد ذلك الهجوم.
وصلت مقاطع الفيديو التي التقطتها وركبتها وأرسلتها بهاتفي المحمول الأولى إلى أقسام الأخبار. تأكدت يوم حصل هجوم باردو أن الهاتف المحمول أصبح رفيقا في العمل الصحفي الميداني، وانتقلتُ إلى مرحلة صحافة الهاتف المحمول.
أثناء عودة من تغطية في الجهات الداخلية، توقفت لأشتري خبزا يباع على حافة الطريق. أعجبت بشجاعة وعفة الفتيات اللاتي أعددن الخبز في ظروف صعبة.. كانت إحداهن خريجة الجامعة التونسية. كأمٍّ حالُها مثل آلاف العاطلين عن العمل ولكن كانت أجرأهم، اختارت خريجة الجامعة بيع الخبز على البطالة. صورتُ تقريرا أعجب الآلاف على مواقع التواصل الاجتماعي حتى تفاعلت وسائل الإعلام المحلية والدولية مع قصة صانعة الخبر التي كانت مجهولة الهوية وأمست بطلة ومفخرة وطنية. تحولت القصة من ذكرى منسية إلى خبر بفضل صحافة المحمول.. لم أتردد في تصوير الفتاة وهي تعمل.. طلبت إذنها ثم شرعت في التصوير.. بقيت 10 دقائق في عين المكان، ثم ركبت ونشرت الفيديو خلال عودتي إلى العاصمة. نلت جائزة دولية بفضل القصة المنتجة بتقنية صحافة الهاتف المحمول.
إقبال على التدريب
كنت أقضي ساعات أصور ثم أركب مقاطع الفيديو على هاتفي، ثم فكرت في مساعدة صحفيين آخرين على نقل الخبر وخلق محتوى جديد لبوابات الويب ومنصات التواصل الاجتماعي بإمكانيات بسيطة وغير مكلفة.. شرعنا في الدورات التدريبية بمركز التدريب والدراسات الإستراتيجية بمقر الإذاعة في العاصمة تونس. كونتُ عشرات الصحفيين من الإذاعة الوطنية وإذاعة الشباب وإذاعة تونس الدولية والإذاعة الثقافية.. كانت ردود أفعال الزميلات والزملاء إيجابية على مواقع التواصل الاجتماعي، مما دفع العديد من الصحفيين للتسجيل في دورات صحافة الهاتف المحمول.
دربتُ الجيل الأول من الصحفيين في صحافة الهاتف المحمول في الجهات الداخلية بالتعاون مع عدد من الإذاعات الحكومية في تونس. كانت التجربة ناجحة على كل المستويات، وانتقلت إلى إذاعات خاصة أخرى لتكوين الصحفيين والمصورين.
تفاعل الصحفيين بعد التدريب
أتابع يوميا إنتاج الصحفيين بمختلف وسائل الإعلام التي دربت فيها. تنشر مقاطع الفيديو المنتجة بالهاتف المحمول بشكل يومي، خاصة في الجهات الداخلية والإذاعات الجهوية. بدأت منذ أسبوع في تدريب الصحفيين بإذاعة "شمس أف.أم"، وهي من الإذاعات الأكثر استماعا في تونس ومتابعة على منصات التواصل الاجتماعي. أكملت الدورة التدريبية الأولى بالإذاعة يوم 23 سبتمبر/أيلول 2017. قامت صحفية من الإذاعة بعد يومين بنشر الفيديو الأول المنتج بتقنية صحافة الهاتف المحمول على موقع الإذاعة. تنقلت الصحفية خولة السليتي إلى محطة المترو والحافلات بالعاصمة وصورت انطلاق حملة توعوية للحد من ظاهرة التحرش الجنسي في وسائل النقل العمومي. استجوبت الصحفية بهاتفها وزيرة المرأة والطفولة ومواطنين حول أهمية الحملة ضد التحرش في تونس. مكن استعمال الهاتف الصحفية من نقل الخبر في وقت وجيز، وكذلك نشر الفيديو الذي تناقلته مختلف وسائل الإعلام التونسية.
التحديات والصعوبات
تتمثل الصعوبات التي يواجهها المدرب والمتدرب في دورة صحافة الهاتف المحمول في ضعف أداء الهواتف الجوالة. أحيانا، تكون إمكانيات المؤسسة الإعلامية محدودة، فيضطر صاحبها لتوفير هواتف جوالة غير مجهزة بكاميرا عالية الجودة، أو قد يكون الهاتف عاجزا عن قبول التطبيقات الجوالة. عندما أواجه هذه المشكلة يكون ردي بسيطا بتشجيع المتدربين على تعلم التقنية واستعمال أي هاتف جوال، في انتظار توفير أجهزة أفضل. المهم أن ينتج الصحفي ويساهم في خلق محتوى لمؤسسته الإعلامية.
يمثل الطلب المتزايد على الدورات التدريبية في صحافة الهاتف المحمول أمرا جيدا، ولكن يصعب تكوين المئات من الصحفيين في وقت وجيز. اخترت تكوين مكونين حتى يساهموا بدورهم في نشر صحافة الهاتف المحمول وكل التقنيات الحديثة التي من شأنها تسهيل عمل الصحفيين في تونس وحول العالم.
جزء من مستقبل الإعلام
تمثل صحافة الهاتف المحمول جزءا من مستقبل الإعلام في العالم. وتمكن التحديثات الأخيرة على تطبيقات المحمول من استعمالات غير متناهية، إذ بإمكان الصحفي والمصور الصحفي أو التقني التصوير والتركيب وإضافة النص والموسيقى وتصحيح الألوان، حتى إن جودة التقارير المنتجة ومقاطع الفيديو المركبة بالهاتف تضاهي جودة إنتاجات أخرى تتطلب استعمال كاميرا وحاسوب.
ليس الهدف من استعمال صحافة الهاتف المحمول تعويض المصور الصحفي والتقنيين أو حتى طَي صفحة العمل الصحفي بالكاميرا، بل أن يعطي الهاتف المحمول للقنوات والإذاعات والمواقع الإخبارية إمكانية نقل الخبر بسرعة، مع احترام أخلاقيات العمل الصحفي التي لا تتغير مهما تطورت التكنولوجيا.