لم تكن الساعة قد تجاوزت التاسعة صباحاً في وقت تمتلئ المقاهي بكبار السن والشباب في العاصمة المغربية الرباط، كثيرهم يحتضن بين يديه الجرائد الورقية، يقلب صفحاتها ومحور النقاش حول إعفاء الملك المغربي عدداً من الوزراء وكبار المسؤولين من مناصبهم لإخفاقهم في تحسين الوضع الاقتصادي، لكن السؤال الذي كان حاضراً من بعض رواد المقهى الذي أجلس فيه، هل تابعت خطاب الملك؟ ماذا قال بالضبط؟ ابحثوا عن الخطاب في يوتيوب..
لا يكفي بروز البنط العريض الذي يتصدر أول صورة في الصفحة الأولى لإشباع رغبة رواد المقاهي الذين يقضون وقتاً طويلاً في متابعة الصحف بأشكالها المختلفة هناك كصحف "الصباح، المساء، النهار، الأخبار، أخبار اليوم، الأحداث المغربية.. إلخ". وقد بدا واضحاً أن رواد المقاهي، خصوصاً مدمني "الجورنال الصباحي" لا يستطيعون استنطاق الصورة، لا سيما إن كان هناك حاجة لذلك، إن كانت مأخوذة من خطاب سياسي أو من حدث به حركة.
فالواقع المعزز يُتيح للقارئ تحويل الصورة إلى فيديو يعرض الخطابات، ويفصِّل واقع الأرقام والإحصائيات لأي دولة، ويكفيك فقط أن تمرر شاشة الهاتف المحمول على الصورة، لتتحول إلى فيديو.
أفكر دائماً كيف يمكن أن تُصبح قراءة الجرائد أسهل ليس للقارئ فقط، بل أيضاً للمحررين، فالتقنية الجديدة ستوفر كما هائلا من البيانات لهم عبر الواقع المعزز، وكثير من المعلومات الثقافية والقصص الشيقة.
ولكن ما هو الواقع المعزز؟
يُعتقد أن أول من صاغ مصطلح الواقع المعزز هو الباحث السابق في شركة بوينغ "توماس كوديل" عام 1990، وفي عام 1962 استطاع المصور السينمائي مورتون هيليغ تصميم جهاز محاكاة لدراجة نارية بالصوت والصورة وحتى الرائحة أطلق عليها اسم Sensorama" "، وفي عام 1966 طورت إيفان سذرلاند أول جهاز عرض ثلاثي الأبعاد على شكل خوذة الرأس، كما شهد عام 1975 ابتكار مايرون كروجر جهاز "Videoplace" ، والذي يتيح للمستخدمين التفاعل مع الأشياء الافتراضية.
تعمل تقنية الواقع المعزز للجرائد الورقية إثر احتفاظ الصورة بوسم خاص يشبه "الباركود" (شيفرة خطية) عبر إدخال خوارزميات معينة ومبرمجة بواسطة تطبيق على الهاتف، ويمرَّر الهاتف كماسح على الصورة لتتحول إلى فيديو يكمل الصورة المقتبسة منه، سواء أكانت الصورة مأخوذة من خطاب سياسي أو مقطع دعائي، أو صورة خبرية أو قصة صحفية، أو إعلان، كما يظهر في الفيديو التالي:
الواقع المعزز للنجاة من مد السوشال ميديا
على المستوى الإعلامي تسارعت القنوات التلفزيونية لاستخدام تقنيات الواقع المعزز لصناعة مسرح أكثر فعالية للحدث داخل استديوهاتها الخاصة، كما يظهر في الفيديو التالي:
وكانت روسيا اليوم أول القنوات الناطقة بالعربية التي دعَّمت أخبارها بتلك التقنية، خصوصاً فيما يتعلق بأخبار ساحات القتال، كما في الفيديو التالي:
ثم انطلقت الجزيرة في هذا المضمار، كالمثال التالي:
متابعة طويلة دُرت بها عبر القنوات الإعلامية الأجنبية؛ فقد استخدمت التقنية في الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية التي فاز بها دونالد ترامب، كذلك للترويج والدعاية المتلفزة خصوصاً فيما يتعلق باقتصاديات الانتباه، ولا يمكن استثناء مضمار الرياضة الأكثر متابعة حول العالم فقد كان شكله أكثر متعة وجاذبية بالواقع المعزز.
كيف سيكون شكل الصحف أكثر مرونة بوجود الواقع المعزز؟
شكَّل اكتشاف الألوان في الطباعة فتحاً كبيراً للعالم الورقي "الجرائد والمجلات"، فأعطت الألوان الأخبار والصور الرئيسية والمتنوعة وكذلك صور الدعاية والإعلان جاذبية وإقبالاً أكثر، لكن التغير الحاصل على الصحف ما بعد الألوان طال شكلها ومحتواها أكثر من تغير جوهري فاصل لما بعد اكتشاف الألوان.
تماماً كما الانتقال من الهاتف المحمول القديم ذي الأزرار البارزة والشاشة الملونة الصغيرة، والهاتف المحمول الجديد بألوانه وتقنيته العالية كاللمس والتصوير والتخزين واتصاله في الإنترنت على مدار الساعة، لذلك كل ما سيأتي من تحديث على هذه الهواتف المحمولة سيبقى في مرحلته السابقة ما لم يُخرج الواقع المعزز محتويات الهاتف المحمول للخارج فتلمسها اليدان، وهو ما تحاول شركات التقانة الجديدة القيام به.
في الجرائد الأمر مشابه، فحتى لا تقتصر على جيل قديم، أو حجم مبيعات معين، لذا تحتاج هذه الصحف لذلك الفاصل بين محطة الألوان ومحطة الواقع المعزز التي تحاول التسارع لإثبات نفسها، لعل الواقع المعزز يكون الفتح الجديد للجرائد.
اليوم علينا التحرك قليلاً لعالم المجلات الورقية خصوصاً المتخصصة بالتكنولوجيا أو بالعقار، أو حتى بالاقتصاد؛ فقد حظي ابتكار صحيفة أسبوعية تحول الصور المطبوعة إلى مقاطع فيديو أكبر إنجاز منذ إدخال اللون، وقد أدخلت صحيفة "أخبار سكاربورو" التكنولوجيا التي تمكن القراء من الوصول إلى مقاطع الفيديو من خلال نسخة من الصحيفة عن طريق تحميل التطبيق لهواتفهم النقالة، ثم تحوم بالجهاز على بعض الصور الثابتة.
تصدرت شركة "أوراسما" التكنولوجية الواقع المعزز للصور، من خلال تطبيق "أوراسما" الذي يمكن تحميله في أقل من دقيقة فقط، لتحول الصور المطبوعة إلى مقاطع فيديو، الصور الإخبارية، والخطابات السياسية، والإعلانات التي تأخذ حجماً كبيراً من صفحات الجرائد.
هل تسبق إبرة النجاة طلقة الرحمة للصحف الورقية بالواقع المعزز؟
انتبَهْتُ لقول إيد اسكويث محرر صحيفة جونستون برس الأسبوعية البريطانية حيث قال إن "الواقع المعزز هي أكبر الإمكانات التي ستدخل لطباعة الصحف منذ إدخال الألوان.. نحن نأمل بأن تتيح التقنية الجديدة شراكة ديناميكية بين الطباعة والرقمنة، خصوصاً عندما تظهر سهولة استخدامها للناس، فهم يذهبون مباشرة من الورقة إلى الهاتف".
جونستون برس الأسبوعية كانت اشتكت من عجز مالي العام الماضي نتيجة تراجع مبيعاتها الورقية، وهي أحد أهم الشركات الإعلامية البريطانية العملاقة، بعد إعلان صحيفة "الإندبندنت" البريطانية اختتام عصرها الورقي بعد ثلاثين عام مكتفية بإصدارها الإلكتروني، لكن الواقع المعزز والتي تعمل عليه بقوة جونستون برس سيعطي القصص المصورة في أروقة أوراقها حياة جديدة تمنحها فرصة جديدة للنجاة، عبر الإعلانات التي تستنطقها التقنية الجديدة، وتحولها لفيديو، والقصص الصحفية والتحقيقات الاستقصائية.
الحل في الورقمية الجديدة
يرى الخبير في تقنية الخوارزميات التي تعتبر اللبنة الأولى للواقع المعزز يحيى صالحة أن الواقع المعزز لم ينقل صناعة الديكور والأثاث فقط، حين يختار الزبون الأريكة المصورة من التطبيق ويضعها في صالون بيته افتراضياً لمعرفة منظر الصالون قبل شرائها، بل أيضاً نقل عالم الإعلام نحو الخيال والذكاء الاصطناعي الجديد.
ويقول صالحة لمجلة الصحافة "الواقع المعزز هي قارب النجاة الجديد لمئات الصحف الورقية التي تعاني من أزمات مالية تهددها بالإفلاس، أو التحول إلكترونياً، فهي ستنقل القارئ لعالم الرقمنة دون أن يفقد رائحة أو صوت الجرائد الورقية".
وبالرغم من حياة الصورة الجامدة الصامتة أحياناً وأهميتها، إلا أن استنطاق بعض الصور الجامدة أمر ضرورياً في عصر الفيديو. وبالرغم من صعوبة استخدامها للجمهور في البداية، فخطوة تمرير الهاتف على الصور تبدو متعبة شيئاً ما، لكنها ستتيح الفرصة لجرائد ورقية أكثر حيوية، لإعلانات أكثر وضوحاً، ولبيانات وإحصائيات تعتمد على الفيديو والموشن غرافيك أكثر قوة وعمقاً، ومع الوقت ستصبح هذه التقنية سهلة الاستخدام حين يعتاد الجمهور عليها.
وقد تتلاشي مخاوفي من غياب مشهد الرجال المثقفين في المقاهي يحتضنون جرائدهم فتهدأ نفسي، حيث أن الكثير منّا يجد متعته في الجريدة الورقية، وهي تتصدر أبواب المحلات التجارية، رائحتها، وصوتها، والقلم الذي يحل الكلمات المتقاطعة في الصفحة قبل الأخيرة، ومقال الصفحة الأخيرة للكاتب الساخر أو السياسي أو لرسمة الكاريكاتير العنيفة، كلها مهددة بالخسارة أمام الزحف الرقمي، لكن الواقع المعزز قد يمنحنا المتعة الورقية السابقة بحيوية الرقمنة التكنولوجية الحديثة، ورقمية الجرائد فرصة جديدة للنجاة.