منذ فجر التاريخ، حلم الإنسان بتوكيل أعماله إلى آلات وأدوات لتخفيف المشقة عنه وزيادة إنتاجه. وصمم من أجل ذلك مجاري المياه لتسهيل السقاية، والساعات لقياس الوقت بدقة؛ التي كانت تعمل وفق نظام متقن لأداء مهمتها. في المرحلة المعاصرة، غزت الآلات الكهربائية البيوت، وظهرت روبوتات بأجساد بشرية ممثلة بشكل واضح هذه الرغبة: أن تقوم الآلة بمهام الإنسان.
لم يعد يقتصر النقاش على الطائرات والسيارات ذاتية القيادة، بل على الأجهزة ذاتية القرار التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، مع كل ما يثيره ذلك من أسئلة أخلاقية بشأن السماح لها باتخاذ القرارات. هل يمكننا توكيل الأسلحة، على سبيل المثال، باتخاذ القرارات الأنسب لإصابة الهدف؟ ماذا لو أن قرارا منطقيا تعارض مع موقف بشري أخلاقي؟
وأخيرا، وصل مد الأتمتة إلى الصحافة. وليس المقصود في هذا السياق المهام الروتينية التي سيتخلى عنها الصحفي برحابة صدر عن بعض أدوراه للآلة؛ كتفريغ المقابلات أو كتابة الملخصات، بل عملية كتابة الخبر كاملة بدءا من تقييم أهميته، ثم صياغته ونشره. هذا ما يقترحه نموذج أخبار الذكاء الاصطناعي الأصلية "AI Native New"، وهي الأخبار التي يقوم على توليدها الذكاء الاصطناعي من الصفر.
لقد ظهر هذا المصطلح أول مرة مع شبكة الأخبار "Channel 1" التي عنونت به أخبارها المنتجة من دون تدخل بشري، كما أطلقت شبكة أخرى اسمها "NewsGPt'' موقعها على الإنترنت عام 2023، تحت شعار "الحقيقة غير الإنسانية". لا يقتصر دور الذكاء الاصطناعي في كلتا الشبكتين على مجرد أدوات تساعد في إحدى مراحل إنتاج الخبر لأغراض مختلفة، بل تقترح على الصحافة نظاما متكاملا لإنتاج الأخبار بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي.
ظهر مصطلح توليد الأخبار بالذكاء الاصطناعي أول مرة مع شبكة الأخبار "Channel 1" التي عنونت به أخبارها المنتجة من دون تدخل بشري، كما أطلقت شبكة أخرى اسمها "NewsGPt'' موقعها على الإنترنت عام 2023، تحت شعار "الحقيقة غير الإنسانية". لا يقتصر دور الذكاء الاصطناعي في كلتا الشبكتين على مجرد أدوات تساعد في إحدى مراحل إنتاج الخبر لأغراض مختلفة، بل تقترح على الصحافة نظاما متكاملا لإنتاج الأخبار بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي.
كيف تعمل هذه الشبكات؟
حتى هذه اللحظة، لم يُطلق نموذج شبكة "Channel 1"، أما "NewsGPt'' فقد أطلق في شهر مارس/ آذار من 2023.
سمح لي بحث أجريته لفائدة "زمالة الجزيرة"، إجراء مقابلة مع مؤسسها ودراسة المقالات التي نشرت حولها، بجمع بعض الملاحظات لفهم آلية عملها. في مقابلة بودكاست (1) يرى مؤسس الموقع، آلان ليفي، أن آلية عمل الموقع لا تتضمن تدخلا بشريا بتاتا؛ فنظام الذكاء الاصطناعي هو المسؤول عن البحث عن القصص الإخبارية، واختيارها وصياغتها ونشرها على موقع الأخبار من دون مراجعة بشرية. ويضيف ليفي: "نشاهد نحن والقراء القصص الإخبارية للمرة الأولى عندما تنشر".
يولّد الذكاء الاصطناعي، أيضًا، صورة لكل قصة خبرية بناء على تحليله لمحتواها. آلان ليفي هو رائد أعمال وخريج كلية الاقتصاد من جنوب إفريقيا، اختار فريق عمل "NewsGPT"من التقنيين والمهندسين: "لدينا خبير في نماذج تعلم اللغات من كامبريدج، وإحصائيون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)؛ لذلك فريقنا هو فريق من المهندسين. إنه ليس فريقًا من الصحفيين وهم حقًّا شخصيات رائعة ولامعة".
يرى مؤسس موقع "NewsGPt"، آلان ليفي، أن آلية عمل الموقع لا تتضمن تدخلا بشريا بتاتا؛ فنظام الذكاء الاصطناعي هو المسؤول عن البحث عن القصص الإخبارية، واختيارها وصياغتها ونشرها على موقع الأخبار من دون مراجعة بشرية. ويضيف ليفي: "نشاهد نحن والقراء القصص الإخبارية للمرة الأولى عندما تنشر".
بوصفه موقعا يعتمد في عمله على الذكاء الاصطناعي، يطور نموذج اللغة ذاتيا مع مرور الوقت بناء على تفاعل القراء معه. لا تستخدم الشبكة نموذج اللغة الخاص بشركة OpenAI، وإنما تمتلك نموذجا خاصا بها تسميه "Sheldon". يتيح "NewsGPT" للقراء التصويت على الأخبار إذا كانت حقيقية أم مفبركة معتمدا على البحث في شبكة الإنترنت لتصفح القصص الخبرية، في أسلوب "غير مركزي" تسهم فيه الشبكات الإخبارية المعروفة، والمنصات الخبرية المستقلة، وحتى منشورات مواقع التواصل الاجتماعي. يعتمد الموقع، كذلك، على حشد المصادر "crowdsourcing" أو جمع المصادر للحقيقة لتغذية نموذج الذكاء الاصطناعي و"تعليمه الحقيقة" كي يطور من آلية عمله، ويظهر أمام كل قارئ للمقالات مربع التصويت في الموقع كما في الصورة أدناه.
وبالنموذج الطموح نفسه الذي بُني عليه الموقع، فإن أحد أقسامه غير المفعلة بعد يحمل اسم "Tomorrows News Today"؛ أي أخبار الغد. ترى الشبكة أن الذكاء الاصطناعي سيكون قادرا على كتابة توقعات الأخبار تماما كتوقعات الطقس، وهي تقنية طورت من قبل خبراء الإحصاء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، كما يذكر ذلك في الموقع.
نظرة على مقالات "NewsGPT"
في جزء من البحث، حللت محتوى موقع "NewsGPT" من خلال جمع المقالات الخبرية المكتوبة والمنشورة عليه على مدار عشرة أيام بين تاريخي 01/05/2024 و10/05/2024، وقد بلغ عددها بالمجمل: 309. بعد ذلك انتقيت الأخبار السياسية منها، التي بلغ عددها 107، أي الثلث تقريبا 33.7%.
حللت المقالات السياسية في العينة التي بلغ عددها مئة عبر مستويين اثنين، هما: تحليل المناطق التي تغطيها الأخبار، والثيمات أو الموضوعات التي تتناولها. من ضمن المقالات السياسية اخترت ثلث العينة عشوائيا لتقصي مصدرها الأساسي، وهي تعادل 30 مقالا. توصلت من خلال هذه المنهجية لنتائج مهمة أسهمت في رسم صورة لعمل هذا الموقع، أعرضها في الأسفل عبر الصور البيانية (انظر الجدول).
مركزية أمريكية
تناول الموقع في68.7% من مقالاته على مدار عشرة أيام أخبارا قادمة من الولايات المتحدة الأمريكية بفارق كبير عن بقية الدول، بينما احتلت روسيا وأوكرانيا المركز الثاني بنسبة 6.1%، تليها فلسطين وإسرائيل بنسبة 5.1%، ثم ألمانيا بنسبة 4%، أما عن بقية المناطق وعددها 10 فقد تراوح عدد المقالات التي تناولها بوصفها موضوعا رئيسا بين مقال إلى 3 مقالات فقط، وتبلغ نسبتها 1%-3%.
في سلم الموضوعات كانت مظاهرات الطلبة في أمريكا، تليها الموضوعات المتعلقة بالانتخابات وترمب ثم الهولوكوست والحرب الروسية الأوكرانية. ورغم الحرب الدائرة في غزة والمأساة الإنسانية التي يعيشها أهل القطاع منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، فقد حظيت المنطقة بخبر واحد فقط. في المقابل حظيت موضوعات كمعاداة السامية، والهولوكست، والضحايا والأسرى الإسرئيليين، بتغطية أكبر. وما يعزز هذه الازدواجية، هو إجراء المقارنة بالحرب الروسية الأوكرانية الدائرة في الوقت نفسه، التي بلغت نسبة تناولها 6.06%، بينما كان الاهتمام بحرب الإبادة الجماعية قليلا جدا.
انتحال أدبي صارخ
ولأن الشبكة لا تذكر المصادر التي تعتمد عليها في كتابة الخبر، استخدمت موقع "Copy Leaks" لفحص الانتحال الأدبي وبحث غوغل المتقدم لمحاولة الوصول إلى الأصلية. وقد لخصت النتائج التي توصلت إليها في الرسم البياني بالأسفل؛ تمثل كل نقطة من النقاط مقالا خبريا واحدا، أي إن كل واحدة منهما تشير إلى معلومتين: نسبة الانتحال الأدبي، والمصدر الأصلي الظاهر اسمه في الخط العمودي في مقال واحد. وفي الوقت الذي يصعب فيه الجزم بما إذا كانت شبكة "NewsGPT" قد اعتمدت في كل مقال خبري سياسي على مصدر واحد فقط، فإن نسب الانتحال الأدبي يمكن تفسيرها كالتالي: 8 مقالات من أصل 35 مقالا تنطوي على نسبة انتحال 100% أو ما يقاربها، وهذه بالتأكيد استندت إلى مصدر واحد فقط. تبدو هذه المقالات أشبه بتلخيص المقال الأصلي أو إعادة صياغته. أما النسبة الأقل للانتحال الأدبي فقد بلغت 30%. ومن الجدير بالذكر أن 33 مقالا من أصل 35 بلغت نسبة الانتحال فيها أعلى من 50%، كما هو موضح في الرسم.
يلحظ في هذا القسم أن شبكة "NewsGPT" اعتمدت في مصادرها على شبكات إخبارية تنتمي إلى دول الشمال؛ ما يفسر غلبة المقالات الخبرية لهذه البلدان. كذلك اعتمدت على مواقع إخبارية إسرائيلية صهيونية أيضًا لتغطية بعض أخبار إسرائيل، في انحياز للسردية الإسرائيلية. في المقابل لم تستند على أي مصدر من الجنوب لتغطية الموضوعات المتعلقة به، بل استخدمت المواقع الخبرية الأمريكية أساسا.
يلحظ أن شبكة "NewsGPT" اعتمدت في مصادرها على شبكات إخبارية تنتمي إلى دول الشمال؛ ما يفسر غلبة المقالات الخبرية لهذه البلدان. كذلك اعتمدت على مواقع إخبارية إسرائيلية صهيونية أيضًا لتغطية بعض أخبار إسرائيل، في انحياز للسردية الإسرائيلية. في المقابل لم تستند على أي مصدر من الجنوب لتغطية الموضوعات المتعلقة به، بل استخدمت المواقع الخبرية الأمريكية أساسا.
خاتمة
هل حقا استطاع الذكاء الاصطناعي أن يكون أقرب إلى الحياد عندما قلص دور الصحفي البشري، كما يهدف موقع "NewsGPT" في نموذج عمله؟ لن يكون مجازفة الجواب بـ: "لا". ورغم أنها تجربة مبكرة يُتوقع لها أن تتطور و"تتعلم" مع الزمن، ورغم أن المقال لا يهدف إلا إلى الوصول إلى نتائج عامة، فمن المفيد الإشارة إلى عدم توافق الوعود الكبيرة التي أطلقها الموقع مع النتائج المخيبة للآمال، كما أود أن أعبر عنها.
هل ستتمكن البشرية من الوصول إلى صحافة أكثر حيادا ونجاحا بإعطاء الذكاء الاصطناعي صلاحية اتخاد القرارات الصحفية بدلا عن الإنسان؟ لا بد أن الإجابة عن هذا السؤال تستلزم منا متابعة مجدة لكل التطورات في محاولة لتقييمها تارة وللتحذير منها تارة أخرى.