حتى وقت قريب، لم يعط الكثير من الصحفيين (التقليديين) أهمية كبيرة للتحول الرقمي من حولهم، بل واجه البعض هذا الواقع -ولا يزال- بنوع من التجاهل، لأن الصحافة التقليدية في رأي هؤلاء ستصمد في وجه محاولات الهواة والمتطفلين على المهنة. لا يمكن القول إن الصحافة التقليدية ستختفي تماما رغم التداعيات الكبيرة في السنوات الأخيرة؛ ففي عام 2012 أوقفت مجلة نيوزويك نسختها المطبوعة، ولحقت بها هذا العام صحيفة الديلي تيليغراف البريطانية. البعض لا يتحدث عن أزمة تمر بها الصحافة التقليدية فحسب، بل يذهب أبعد من ذلك، ويحذر من تراجع مواقع الإنترنت التي باتت تعتبر إعلاما تقليديا. فموقع مثل فيسبوك لا يريد لمواقع الإنترنت أن تحول المتابعين من منصته إلى صفحاتها، ويريد التهامهم داخل صفحاته الزرقاء، ولذلك ابتكر خدمة "المقالات الفورية" التي تمكن المواقع من نشر المواضيع المطولة على الفيسبوك. المعركة ليست بين ما هو تقليدي وما هو جديد، بل بين المنصات الجديدة ذاتها. فيسبوك يخوض معركة شرسة مع يوتيوب عندما سمح بتحميل مقاطع الفيديو مباشرة على صفحاته بدلا من مغادرتها إلى يوتيوب، وهكذا تتجدد المعارك على المنصات المختلفة. صحيح أن وسائل الإعلام في العالم العربي ممولة إما من أنظمة سياسية أو من رجال أعمال وبالتالي قد تصمد وقتا أطول لأن وجودها مرتبط بمصالح سياسية ومالية ولا تعتمد على الدخل أو الإعلان التجاري بالدرجة الأولى، لكنها ربما تتهاوى يوما ما وتفقد قدرتها على التأثير تحت وطأة تراجع أعداد المتابعين، وفي ظل وجود بدائل رقمية أكثر تحررا من سطوة المال والسياسة. وفي كلا الحالتين، أعتقد أن هناك قلقا في أوساط الصحفيين يتصاعد يوميا، والكل يبحث عن موطىء قدم في المستقبل، ولكن عن أي مستقبل نتحدث؟
مرت الصحافة تاريخيا بتحولات كبيرة ولكنها لم تكن بالسرعة التي نشهدها اليوم. فنحن أمام واقع يتشكل ولم يستقر بعد على شكل ما، أشبه بكرة ثلج تتدحرج ولا يعرف بعد متى تتوقف وربما لن يعرف. كل يوم تخرج تعريفات جديدة للحالة التي صنعتها المنصات الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعي. البعض كان يسميها الإعلام الجديد، والبعض يقول إن الإعلام الجديد لم يعد جديدا، ولذلك نحن نتحدث عن مستقبل لا يمكن التكهن به تماما لأنه كل يوم تبتكر تقنية جديدة تغير من قواعد اللعبة وتؤثر مباشرة في مهنة الصحافة.
في ظل هذا المشهد يستمر الصحفي التقليدي في عمله المحترف، ولكن ما أهمية ما يقوم به الصحفي إذا كان عمله لا يصل إلى الناس؟ كل المعطيات تشير إلى أن المشاهدين يتحولون من الشاشة الكبيرة إلى الشاشة الصغيرة في أيديهم. بعض الصحفيين حاول العبور إلى العالم الجديد ولكن بأدوات تقليدية، ودون فهم عادات المستهلك على المنصات الرقمية وقواعد اللعبة التي جعلت من المتابعين جزءا منها. فنشر تقرير تلفزيوني -على سبيل المثال- على المنصات الرقمية، لا يعني بالضرورة أنه سيلقى رواجا وتفاعلا من قبل المتابعين على الفيسبوك. ناهيك عن ظهور المواطن الصحفي ومستخدمين عاديين تفوقوا في كثير من الأحيان على الصحفيين التقليديين في الوصول إلى مكان الحدث وسرعة نقل الخبر. قد يحقق مقطع فيديو قصيرة التقطه مصور هاوٍ لحدث ما مشاهدات عالية على الفيسبوك ويوتيوب مقابل تقرير مراسل محترف وظف كل مهاراته الصحفية وأدواته التقنية لإنتاج تقرير "تقليدي" للحدث نفسه.
هناك ما يدعو للقلق بالنسبة للصحفي الذي يعتقد بأن دوره يتراجع مقابل ما تقدمه المنصات الرقمية، ولكن أعتقد أن دوره سيبقى مهمّا لكنه سيختلف عن العمل التقليدي، وسيتعامل مع البيانات والحقائق بأسلوب مختلف عن تغطية الأخبار المباشرة وتحقيق السبق الصحفي. سيختلف أسلوب رواية القصة الصحفية أمام التدفق الكبير للمعلومات التي تفوق قدرة الصحفي وكذلك قدرة المتابعين على فهمها وتحليلها. ربما لن يعود أسلوب كتابة الخبر أو أسلوب عمل المراسل الصفحي في الميدان كما هو. عندما ظهر التلفاز غير من أسلوب الصحافة الورقية وابتدع فنونا صحفية لم تعرف في زمن الصحافة الورقية. الحال هو هو اليوم ولكن بوتيرة أسرع، ستبقى القيم الصحفية ثابتة ولكن ستتغير أساليب العمل. يجب ألّا يبقى الصحفي أسير الماضي ويصارع طواحين الهواء، بل أن يفكِّر في كيفية استخدام الأدوات الجديدة.
جدل
المستقبل إذاً في القدرة على التكيف، إذ لا يمكن للصحفي أن يذهب إلى المستقبل بأدوات الماضي. ولا يعني هذا التكيف بالضرورة التضحية بالمحتوى الجيد على المنصات الرقمية، أو الانسياق فقط وراء "ما يطلبه الجمهور" الذي أصبح جزءا من اللعبة ويحدد بشكل كبير أسلوب استهلاك هذا المحتوى. أثبتت تجارب كثيرة أن المحتوى الجيد المعالج بأسلوب يتناسب مع المنصات الرقمية يلقى رواجا كبيرا وليس فقط مقاطع الفيديو السطحية والفكاهية. قناة الجزيرة الإنجليزية أنتجت فيلما وثائقيا قصيرا عن سجين أمريكي قضى في السجن 4 4 عاما، وخرج إلى عالم ليس الذي تركه وهو شاب.
الفيلم لا يتكلم عن صدمة السجين فحسب، ولكن يحاول أن يوقظنا في غفلة من الزمن لندرك حجم التحول الذي مررنا به خلال أربعة عقود. الفيلم ينطوي على مضمون رصين، وكان يمكن أن تكون مدته ساعة للبث على الشاشة، لكن فريق العمل اختار أن ينتجه بما يتلاءم مع المنصات الرقمية، وتكثيف المعنى في خمسة دقائق فكانت النتيجة مذهلة. تفاعل كبير من المشاهدين وأكثر من 12 مليون مشاهدة على اليوتيوب وحده عدا عن المنصات الأخرى. هذه الأرقام التي تتوفر اليوم بفضل التقنيات الجيدة تعطينا مؤشرات مهمة عن حجم الأثر الذي أحدثه الفيلم، وأثبت قدرته على المنافسة وسط الزحام. كل ما هو مطلوب من الصحفي اليوم أن يتعلم لغة جديدة وأدوات جديدة، أن يفهم طبيعة المستهلك خلف الشاشة الصغيرة، ويحاول تقديم المعرفة والسياق في ظل فوضى المعلومات. أن يتناول الخبر بناء على البيانات ويربطها أو يحلِّلها بطريقة تعطي بعدا آخر للقصة غير الوصف المباشر الذي يمكن أن يتقنه أي شخص اليوم. وهذا كله لا يعني على الإطلاق التضحية بالمحتوى. وسيبقى الجدل قائما بين ما يراه الصحفي مفيدا من وجهة نظره للجمهور، وبين هذا الأخير الذي تتوفر أمامه خيارات ورغبات كثيرة. أعتقد أن الصحفي عندما يقدم محتوى جادا ومفيدا، سيلقى رواجا بين متابعي المنصات الرقمية إذا قدّم بالأسلوب المناسب. مع ذلك فالفشل وارد، ولذلك تبقى المنصات الرقمية قائمة على التجريب المستمر والتعديل والتفاعل والتجاوب مع المتغيرات الكثيرة.