في بعض الأحيان، عندما ننظر الى شاشة التلفاز على البرامج المباشرة وبالأخص تلك الصباحية الأميركية، يكون الانطباع أنّ ما نراه مثالي للغاية: كل شيء مصمّم، بالثانية المحددة، ليقدّم الصحفيين والصحفيات والمراسلين والمراسلات على أهبة الاستعداد. كأن ما نشاهده تسجيل معاد لأكثر من مرة ليكون بهذه الدقة. لكن ما لا نشاهده في "مهنة المتاعب" هو ما يقبع خلف الكواليس. هذه الكواليس ما هي إلا "حظيرة من الوحوش" إذا جازت هاته الاستعارة.
الأمر لا يقتصر فقط على البرامج الصباحية، فصناعة التلفزيون عُرفت تاريخيًّا بإنتاج الظواهر، وإملاء السلوكيات، وإدامة الثقافات. في معظم الحالات، ما نراه هو ملائكة أو أبطال خارقون يقدّمون لنا هذه البرامج، ويرسمون البسمة على وجوهنا في الصباح. لكن خلف هذا القناع، هناك ما يشبه "مصّاصي دماء" يتصارعون على النفوس ويتعطشون إلى المزيد من الدم.
يعدّ مسلسل "البرنامج الصباحي" -الإنتاج الدرامي الأول الذي تقدمه "آبل تي.في+" التي بدأت برامجها في أول نوفمبر/تشرين الثاني 2019- مثالا على هذا "العفن الذي ينتج هؤلاء الأبطال الخارقين".
كونه أول عمل درامي تقدمه "آبل تي.في+" ليس السبب الوحيد لجذب المشاهدين إلى "البرنامج الصباحي"، بل إنّ المسلسل يقدّم أحد أهم الممثلين والمنتجين الذين يمثلون المواد الخام لأي عمل درامي تلفزيوني: الممثلتان جنيفر أنستون وريز ويذرسبون وقّعتا مع المنصة عام 2017 للتمثيل في المسلسل بعقد بلغ مليوني دولار للحلقة الواحدة، وعليهما تحمّل مسؤولية جعل هذا المسلسل جديرًا بالاهتمام والمتابعة.
بعد سبعة أشهر من التصوير الذي تخلّله الكثير من التغيير في فريق العمل، توضّحت صيغة المسلسل الذي كتبه جاي كارسون (عمل مع بيل كلينتون في السياسة الدولية أثناء تولي الأخير الرئاسة، وعمل سكرتيرا صحفيا لهيلاري كلينتون أثناء حملتها الانتخابية عام 2008).
والجدير بالذكر أنّ وصول كارسون إلى "الشوبيز" كان من خلال عمله كاستشاري سياسي في مسلسل "هاوس أوف كاردز"House of Cards) ) خلال السنوات التي كان فيها المسلسل يبثّ على الهواء.
فكرة "البرنامج الصباحي" كبيرة، تتخللها الكثير من القصص الفرعية الصغيرة التي تخدم دومًا القصة الرئيسية التي تنعطف بنا دائما مع كل حلقة. لا يمكن التكلم كثيرًا عن هذه القصص لعدم إفساد المشاهدة، ولكن في المختصر، كل شيء كان يسير على ما يرام بالنسبة لأليكس ليفي (جنيفر أنستون) وميتش كسلر (ستيف كاريل) المقدمين الرئيسيين للبرنامج على قناة "يو.بي.أي" (UBA) على مدى 15 سنة، إلى أن تنفجر اتهامات المضايقات وسوء السلوك الجنسي في يوم واحد ضد ميتش، فيُصرف من العمل. وهذا ما يترك أليكس في وضع هشّ، خاصة عندما تبدأ الشبكة في إجراء عملية تنظيف رئيسية لإنقاذ البرنامج وجمهوره.
النقطة المهمة أنّ كل شيء يحدث في أسبوع يظهر فيه شريط فيديو للمراسلة الصحفية برادلي جاكسون (ريز ويذرسبون) التي أثارت الجدل بتقديمها حقائق علنية أثناء تغطيتها المباشرة لحدث مهم يخص الرأي العام، مما يجعلها واحدة من الوجوه المشهورة.
كوري أليسون (بيلي كرودوب) المسؤول التنفيذي لقسم الترفيه في الشبكة، والذي يتولى مسؤولية قسم الأخبار، يمتلك رؤية مختلفة وجذرية عن الشكل الذي يجب أن يقدَّم به البرنامج، في عالم يمكن للجميع فيه تتبع الأحداث عبر هواتفهم المحمولة فور حدوثها.
يعتبر كوري أن الأخبار التلفزيونية أصبحت من التاريخ، ويحذّر من أن البث التلفزيوني سينتهي في غضون سنوات فقط. وبرأيه، "ما نحتاجه حقا على التلفاز الآن، ليس الأخبار، بل الترفيه". كل ما حدث استفاد منه أليسون، إذ استغل فرصته المثالية بوضع برادلي في البرنامج مكان كسلر، وهذه هي الخطوة الأولى بالنسبة إليه لإحداث تغييرات جذرية في البرنامج والقناة، يمكن أن تصل إلى حد إسقاط رئيسها.
بعد مرور ثلاث حلقات من المسلسل، يبدو الأخير كأنه لا يزال يبحث عن نفسه. إلقاؤه الضوء على التحيز الجنسي في الصحافة، والذكورية ومكانة المرأة في المجتمع، وأخلاقيات الإعلام… كلها قضايا جاءت غامضة بعض الشيء. في المقابل، برهن عن مهارة في تقديم صفاته الفنية والتقنية والإخراجية.
الأكيد في كل هذا، أن المسلسل أكثر من مجرد سلسلة تلقي الضوء على ما يدور خلف كواليس برنامج إعلامي أو إخباري، بل إنّه يأخذ طريق "الساب أوبرا" على غرار المسلسلات المكسيكية.. يدخلنا أكثر في نفسية الشخصيات بعمق لفهم الدوافع وراء كل الأحداث والأفعال التي تقوم بها، مما سيخيّب آمال بعض الأشخاص الذين يبحثون عن قصة قوية في عالم التلفزيون.
ولكن مما لا شك فيه أن السلسلة مبهجة وآسرة، وأيضا ملتزمة. وهكذا تمرّ عشر حلقات يلعب معظمها على اكتشاف الشخصيات الرئيسية والمواقف المتعلقة بقضايا التحرش الجنسي، من أجل خلق مواقف جذابة عن الأسرار الكامنة وراء الكواليس وأفراد "عائلة" البرنامج الصباحي. كل ذلك لإنشاء منعطفات وتحولات سردية حول الخيانات، والعلاقات السرية والأكاذيب والانتهازية والوصولية. والنتيجة، حلقات درامية مضحكة ومؤثرة في آن، وأيضا محفزة للجميع.
من خلال اللعب على القصص الكثيرة الذي يثيرها "البرنامج الصباحي"، تدور السلسلة في بنائها في حقل كلاسيكي للغاية بإيجابية. ومن الواضح أن سلسلة الحلقات تكسب قيمتها بفضل النقطة الأساسية التي تبرزها وهي الموضوعية وعدم وضوح النوايا، ثم تستحيل سلسلة نسوية مع تقدم حلقاتها، فتدين بشدة النظام الأبوي في التلفزيونات الأميركية، إن لم نقل كره النساء الذي يسود في ذلك الوسط. تفعل ذلك بشدة وبطريقة واسعة وغير مسبوقة على الشاشة الصغيرة، مما يعطي بلا شك بداية قوية ومؤثرة لمنصة "آبل تي.في+".
تتناول السلسلة مسألة تغيّر الأمور منذ أن تبدأ النساء المعنيات اللواتي تعرّضن لمضايقات جنسية في العمل أو لسوء معاملة أو للاغتصاب، في التكلم والإبلاغ عما حدث. يريد المسلسل بشدة أن ينبه المشاهد إلى ما تعانيه جميع الشخصيات وحتى المتّهمة منها، ويعترف بأننا نسير بسرعة كبيرة في الحكم على الرجال في محكمة الرأي العام. ويقول أيضا، إنّ حركة "مي تو" (#MeToo) بأكملها هي ربما حركة تصحيحية فاضحة نتجت عن قرون من السلوك السيئ في عالم الإعلام والترفيه.
لكنّ المسلسل لا يلعب دور القاضي، بل يقول كل شيء بموضوعية في هذا الشأن، مثل السراويل التي ترتديها أليكس وتختارها برادلي خلال المسلسل، وأن اختيار أسماء محايدة جنسيًّا لأبطال القصة ليس من قبيل المصادفة، بل يندرج ضمن تفاصيل دقيقة تتطلب تحليلا وتفكيرا أبعد من أن يأخذ المشاهد طرفًا ما لم يأخذه المسلسل.
تلفاز داخل تلفاز، هذا بالتحديد ما نشاهده.. كل شيء شاعري، فالجميع لديهم مشاكلهم، والكل يعمل لاكتشاف حقيقة ما أو إخفائها. يخوض أصحاب القناة صراعا داخليا، حيث يعمل الجميع من أجل المصلحة الشخصية، ويريدون الاستفادة القصوى من الفضيحة.
في الواقع، تريد السلسلة التحدث عن هذا الانقسام والمرارة القابعين وراء كل هذا اللمعان، وعن الشعور بالعجز الذي يسكن أولئك الذين يخشون فقدان حياتهم المهنية ووجودهم وسمعتهم.
في النهاية، ما هو الغرض من البرامج الصباحية؟ تقديم الحقائق والأخبار بموضوعية، أو الترفيه عن المشاهد قبل بدء يومه الطويل؟ هذا السؤال ينطبق أيضا على كل ما نشاهده على الشاشة الصغيرة.
"البرنامج الصباحي" صورة تبدو ذات مصداقية عما يقبع في كواليس تشغيل وسيلة إعلامية، عن النفاق، والابتسامات المصطنعة، ومسؤولية التلفاز في التأثير اليومي على حياة الناس.
"البرنامج الصباحي" سلسلة تتحدث عن وسائل الإعلام بعيدا عن الكليشيهات المعتادة، فهو قريب إلى سلسلة "غرفة الأخبار" على قناة "إتش.بي.أو" (HBO).. ينتقد وسائل الإعلام ويقول إن التلفاز يجب ألا يكون منافقا وغريزيا.. هو لا يحكم على الشخصيات، لكنه يلقي الضوء على ضرورة تتبع الحقيقة في عالم الأخبار الوهمية (Fake News).