تمهيد:
تخطت صحيفة الغارديان اليومية البريطانية عتبة المائتي عام على نشرها لأول نسخة. احتفت الصحيفة بإنجازاتها المثيرة للاهتمام، والتي غطت من خلالها أحداثًا داخل بريطانيا امتد صداها لتصل إلى جميع أنحاء العالم، إذ شكلت بعض هذه التغطيات تحولات هامة في السياسة الدولية.
وبالتزامن مع هذا الاحتفاء المميز، اعترفت الصحيفة بأن سنوات طويلة من التغطية الصحفية المثيرة للاهتمام والموسومة بالنجاحات، قد اعترتها الكثير من الأخطاء التي كان مبررها سوء الحكم، وسوء اتخاذ القرار، والتسرع في النشر، وعدم التحقق من صدق المعلومات. تقول الغارديان: "لا تستطيع صحيفة يومية النشر لمدة مائتي عام، ألا تقع في الخطأ مهما تعددت أسبابه واليوم سنشارك بعضًا من هذه الأخطاء".
تشير الصحيفة إلى أن أخطاءها كانت متعددة بينها إساءة الحكم على الأحداث، وتدلل على ذلك بنشرها تغطية محدودة جدًا لحدث مأساوي عظيم مثل غرق السفينة تايتانيك في عام 1912، بالإضافة إلى خبر آخر ناتج عن ضعف الفهم العلمي للصحفيين، حيث نشروا خبرًا يتنبأ بعصر جليدي يلوح في الأفق نتيجة انخفاض درجات الحرارة عالميًا. وتشير الصحيفة إلى أن الأخطاء لم تكن تعتري الأخبار بقدر تلك الأعمدة التحريرية والمقالات، رغم اجتهاد الكتاب لسنوات في الكتابة عن قضايا مختلفة تهم قراء الصحيفة، ولكن بعض الأخطاء قد تكون مدمرة حسبما توضح الصحيفة.
بين هذه المجموعة المختلفة من الأخطاء التي ارتُكبت في تغطية أحداث كثيرة، تفرد الصحيفة قدرًا ضئيلا من المعلومات إزاء خطأ يتعلق بما أمكن تسميته سوء إطلاق الحكم على قضية وعد وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين. تقول الصحيفة: "عندما وعد آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا قبل 104 سنوات بالمساعدة في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، غيرت كلماته العالم. لقد دعمت الغارديان ذلك واحتفلت به ويمكن القول إنها ساهمت في تسهيل حدوثه. لقد كتب معنا أنصار الصهيونية وهذا ما أعماهم عن حقوق الفلسطينيين".
وتتحدث الصحيفة عن الخطأ الذي وقع به مدير الصحيفة حينها، والذي بدا أنه مناصر للصهيونية؛ حيث أشار في عرضه للأحداث أن عدد السكان العرب في فلسطين وقتها كان قليلًا للغاية وأنهم كانوا يعيشون حياة غير مدنية وغير حضارية. تضيف الصحيفة: "بصرف النظر عما حدث، فإن إسرائيل اليوم ليست الدولة التي توقعتها الغارديان أو كانت تريدها" مبرزة العبارة باللون الأحمر للتشديد على المحصلة النهائية لهذا الخطأ المدمر".
إطلاق الحكم.. السلوك والاعتبارات
ليس مهمًا الخوض في التفاصيل والتداعيات التي تحكمت في معالجة الغارديان يومها، ولا في مستوى الدعم الذي لا تزال تبديه وسائل الإعلام الغربية للكيان الصهيوني، إما من خلال التغطيات اليومية أو التحليلات الخاصة بالأحداث، لكن عبارة واضحة تكررت في نص هذا التقرير المنشور تستحق الالتفات وهي عبارة "إطلاق الأحكام Judgment"، والتي نالت جانبًا مهمًا في تفسير الأخطاء التي تعتذر عنها الصحيفة اليوم.
تقوم العلوم الصحفية والاتصالية الغربية على تتبع مستوى قدرة الصحفيين على إطلاق الأحكام بطريقة منهجية وموضوعية. وإن عبارة "سوء إطلاق الحكم" التي وردت في تقرير الغارديان ليست عبارة عشوائية، بل كان يراد منها الحديث عن جملة من المعطيات التي تقود الصحفيين لاتخاذ موقف ما من تغطياتهم الإخبارية.
تستعين المدراس الصحفية العالمية اليوم بالكثير من المحددات لدراسة ثقل إطلاق الحكم على المادة المنشورة صحفيًا، وذلك من خلال تحديد القيم الإخبارية وأخلاقيات المهنة، ثم توفير الأدوات المتصلة بالتحقق الإخباري والأدلة العالمية لمفاهيم من قبيل التحقق من الأخبار وغيره. لكن من الصعب تحديد الهوية التي تبنى عليها الأحكام، أو حتى محاسبة الصحفيين إزاء تغطياتهم التي فقدوا خلالها الحكم السديد الواجب اتخاذه في التغطيات الإعلامية.
من الأمثلة المستحضرة بكثرة في وسائل الإعلام الأمريكية، ذلك القرار المتعجل الذي اتخذته كبريات وسائل الإعلام والمحطات التلفزيونية، لدعم الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش في قراره بشن الحرب على العراق بين العامين 2001 و2003، اعتمادًا على تدافع هائل من التصريحات السياسية المضللة التي أغرقت المشهد الإعلامي. كان مصدر هذه التصريحات مسؤولين من الاستخبارات الأمريكية ووزارة الخارجية، زعموا امتلاك النظام العراقي أسلحة للدمار الشامل، إضافة لمزاعم رصد أجهزتهم الاستخباراتية -حينها- تواصلًا سريًا بين الرئيس العراقي السابق صدام حسين وتنظيم القاعدة المتسبب في أحداث 11 سبتمبر.
هكذا إذًا، يحظى "إطلاق الحكم لدى الصحفيين" بأهمية متزايدة، بل يمكن القول إنه لا تخلو أي مراجعة نقدية لدور وسائل الإعلام وتاثيراتها في الحروب والأزمات من المرور المباشر أو الضمني بتلك الأحكام النسبية والمطلقة التي أيدت معالجات الصحافة المختلفة.
قد لا يكون لمصطلح "إطلاق الحكم" اليوم حضور لافت في دراسات الصحافة العربية حتى الآن، لكن يمكن القول إن إطلاق الحكم بات اليوم مجالًا هامًا في دراسات فلسفة الاتصال وتأثيرات وسائل الإعلام على القضايا، ويصدر من مزيج معقد من الاعتبارات الدافعة لتبني موقف معين من الأحداث وتحديد الخيارات المتاحة للصحفيين للتعاطي معه إثر ذلك.
إن الأحكام التي يطلقها صحفيو المؤسسات الإعلامية اليوم إزاء الحرب على غزة -مثلًا- هي توليفة معقدة من السياسة التحريرية للمؤسسة، وترتيب أولوياتها، والقيم الإخبارية الأساسية التي توجه لنشر مواد دون سواها، والأخلاقيات المهنية التي تحكم سلوك الصحفيين، والمواثيق الدولية والاعتبارات الإنسانية التي تؤكد على حتمية التعاطي مع الأحداث. ويمكن أن نضيف إلى ذلك التفضيلات والمعايير الذاتية التي تتسلل للصحفي وتؤثر عليه دون تحكم منه ودون القدرة على تحديد سلطته في هذا الجانب، ما ينتج عنه في النهاية قصة صحفية وفق توجه الصحفي.
ويعبّر إطلاق الحكم عن سياسة المؤسسة التحريرية، وتاريخ نشاطاتها، وعمق تجربتها، واعتباراتها النظرية وأدواتها التطبيقية، وهي المحددات التي تتحكم في القرارات الصحفية المؤقتة والدائمة على حد سواء.
في مادة علمية منشورة بعنوان: "الأحكام التحريرية في عصر البيانات كيف تؤثر التحليلات وتفضيلات الجمهور على وضع المنتجات الإخبارية؟"، يعتبر الباحث رودريغو زاميث عبر أطروحته لجامعة مينيسوتا الأمريكية أن عصر البيانات الرقمية الجديدة اليوم يمثل تحديًا كبيرًا في إطلاق الأحكام الخاصة بالمؤسسات الصحفية. وينعكس ذلك على تفاوت قدرة الصحفيين على إطلاق الأحكام في ظل تعقد الأدوات الاتصالية وقدرات المؤسسات الرقمية.
ويعتبر الباحث أن الضغوط التي يدفع بها الجمهور بسبب التفاعلات الرقمية المستمرة، على سبيل المثال، تعد مناخًا إيجابيًا ومباشرًا للاندفاع بإطلاق الأحكام بين الصحفيين والمؤسسات الصحفية، إلا أنه يرى أن عملية إطلاق الأحكام جزء غير مباشر من العملية الإنتاجية اليومية التي تتصل باعتبارات المؤسسة.
لماذا حكم الغارديان لا يغتفر؟
يثير اعتراف الغارديان المتأخر بخطأ المعالجة الإعلامية لوعد بلفور الاهتمام بدور التأثيرات السياسية المباشر على إطلاق الحكم. وكمجموعة كبيرة من الأحداث التي لم تحظ بالحكم السديد، تندفع الشخصيات السياسية ومشاهيرها والمحررون المتأثرون بالقادة السياسيين، باتجاه استخدام العاطفة والقوالب المعنوية التي تسيطر على الناس وأفكارهم واهتماماتهم، وبالتالي الزج بأحكام الصحفيين في التغطيات المتحيزة على وسائل الإعلام.
إن خطورة إطلاق الأحكام ترتبط ببناء قوالب محددة من المشاعر والسلوكيات والأحداث التي تغلف التغطية الإعلامية إزاء القضايا، ثم تحديد التزام الصحفيين بتلك التغطية دون سواها. فتتأثر قدرة الصحفيين على إنتاج سرديات مختلفة للقضايا، وينعكس هذا الأمر على قدرة الصحافة مع مرور الزمن على التعاطي الديناميكي مع القضايا، وخلق مسارات جديدة للتفكير بشأنها، بل وإنتاج التحليلات الخاصة بها، ما يؤدي إلى موت تدريجي للمعالجات الصحفية.
يمكن القول إن التحيز الذي استهدف القضية الفلسطينية في تغطيات الصحافة العالمية ساهم في قتل الكثير من المعالجات والأفكار والتحليلات التي يمكنها أن تحيط بهذه القضية. ورغم أن صناعة الإعلام العالمية قد شابها الكثير من الكذب والتشويه لسنوات طويلة، ما انعكس على الكثير المعالجات الصحفية إزاء هذه القضية، إلا أن الإحباط الذي تخلقه المعالجة غير الموضوعية والتي تحمل أحكامًا خاطئة للصحفيين لا يمكن تعويضه. يستند هذا الاستنتاج على التراكم المعرفي والمعلوماتي والشعوري الذي تخلفه المعالجات الإعلامية الأحادية على مسارات القضايا وتحولاتها.
لقد اعترفت الغارديان، أخيرًا، بأن تغطية غير مهنية تفتقر للدقة أفضت لأكثر قصص الظلم الإنساني وطأة ومعاناة: قصة فلسطين التاريخية، التي ضاعت معها حقوق هذا الشعب، ويدفع ثمنها ملايين البشر الذين يواجهون الظلم والقمع والاستبداد اليومي، ويجبرون على العيش في ظروف لا ترقى لأن يعيشها البشر في أي بلد حول العالم. هذا الاعتراف "البارد" و"المتأخر" ليس من شأنه سوى صياغة مجموعة من المعايير الهامة التي يلزم على الصحفيين والصحافة في منطقتنا العربية الالتزام بها، وهي كالآتي:
-
إن صناعة الحقائق تتم بالتواتر والبناء المنهجي والموضوعي للقضايا، فكل قضية عبر وسائل الإعلام ينبغي أن يتم بناؤها والاعتناء بها من ناحية المعلومات والآراء والتحليلات بما يسمح للصحفي بتكوين الصورة الحقيقية والأكثر قربًا من الواقع.
-
على الرغم مما يحققه العصر الرقمي للصحافة من تمكين للتحقق من المعلومات وتجنب التضليل والتحيز، إلا أن المؤثرات التحريرية والسياسية والاقتصادية والأيديولوجية المحيطة بالصحفيين لا تزال ذاتها منذ عقود طويلة، ما يعني أن الظاهرة الرقمية للصحافة تتزامن مع إمكانية وقوع سوء الحكم عبر وسائل الإعلام.
-
ليس ثمة مهرب من الحقيقة؛ إن الصحفيين الذين تعمدوا التضليل والتزييف ستأتي بعدهم أجيال أخرى من الصحفيين الذين سيجردون أسلافهم من كل انتصاراتهم المؤقتة ويظهرون للعالم سلسلة من الخيبات التي ينبغي الاعتذار بشأنها.
-
ظل التحيز التاريخي ضد القضية الفلسطينية في الصحافة العالمية الحدث الأشد وطأة في تاريخ الصحافة العربية، ولا يزال في أوجه حتى يومنا هذا مع كل ما يعانيه الشعب الفلسطيني من معاناة وظلم يتجاوز الحقوق الإنسانية. ولهذا السبب، ينبغي على الإعلام العربي أن يعيد التفكير في مستوى تلك التغطيات التي يقدمها الصحفيون العاملون في نقل وقائع هذه القضية، لا سيما في هذه المرحلة المفصلية الهامة التي تتعرض لها القدس وجميع المدن والأحياء السكنية الفلسطينية للظلم والقمع والاضطهاد.
الإحالات والمصادر:
-
Ramesh, R. (2021, May 7). What we got wrong: The Guardian’s worst errors of judgment over 200 years. The Guardian. https://www.theguardian.com/media/2021/may/07/guardian-200-what-we-got-…
-
يعرض فيلم Shock and Awe قصة صحيفة نايت ريدر Night reader وهي واحدة من الصحف الأمريكية القليلة التي وقعت ضحية لخصومة سياسية وصحيفة كبيرة في الفترة من 2000 وحتى عام 2004 عندما أعلنت بصورة واضحة أنها بحاجة لمجموعة من الأدلة التي تعينها على إطلاق الحكم بينها أن تثبت حيازة نظام صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل حتى تتبنى الرواية الأمريكية الرسمية وتساند حكومة بلادها في حربها على العراق. ظلت الصحيفة وحيدة حينها في مواجهة سيل من الانتقادات ولكنها اليوم تعد نموذجًا لنزاهة الأحكام التي يطلقها الصحفيين في فترة الأزمات. الفيلم متوفر عبر شبكة نتفليكس.
-
UNIVERSITY OF MINNESOTA, & Zamith, R. (2015, May 1). Editorial Judgment in an Age of Data: How Audience Analytics and Metrics are Influencing the Placement of News Products. Digital Conservancy. https://core.ac.uk/download/pdf/76357716.pdf
-
Linda M. Isbell, Victor C. Ottati, Kathleen C. Burns. (2006, April 1). Affect and Politics: Effects on Judgment, Processing, and Information Seeking. Feeling Politics Review. https://citations.springernature.com/item?doi=10.1057/9781403983114_5