منذ اغتيالها المفجع على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي، شكل رحيل الصحفية شيرين أبو عاقلة، مراسلة قناة الجزيرة العربية في الأراضي الفلسطينية المحتلة حيزا هاما في التغطيات العالمية وتناقلت كبرى المواقع الإلكترونية والصحف ومحطات التلفزيون الملابسات المتصلة بحادثة اغتيالها وما اتصل بذلك من مواقف وتصريحات بصور متفاوتة. وعلى الرغم من أن الأحداث لا تزال متصاعدة ومستمرة لا سيما على المستويات الدولية والعربية، فإننا سنحاول في هذه القراءة السريعة تقديم أبرز المعطيات والمعالجات التي قدمتها الصحافة العالمية في حادثة اغتيال شيرين والمآخذ التي يمكن استخلاصها منها.
في الصباح الباكر من يوم الثلاثاء الموافق 11 مايو/أيار، كانت شيرين أبو عاقلة بصدد تغطية أحداث اقتحام قوات إسرائيلية لمخيم جنين في الضفة الغربية، عندما تعرضت رفقة عدد من الصحفيين والمصورين الذين حضروا لتغطية الحدث؛ لوابل من الرصاص المباشر تسبب لها في إصابة بليغة أدت لوفاتها سريعا. منذ الساعات الأولى، نقلت الصحافة العالمية هذا الخبر العاجل وتوالت الأخبار التي اعتمدت على جانبين أساسيين: الأول، نقل التحديثات الخبرية والعواجل السريعة والمتوالية من شبكة الجزيرة الإعلامية (المؤسسة التي تعمل بها الصحفية) ووزارة الصحة الفلسطينية حول تأكيد وفاة أبو عاقلة ومصدر الرصاص الحي الذي أطلقه الجنود الإسرائيليون. والثاني، التأكيد على حضور التصريحات الإسرائيلية التي كان مصدرها جيش الاحتلال ورئيس الوزراء الإسرائيلي إضافة لمسؤولين آخرين، وتفسيراتها المتضاربة إزاء ما حدث بناء على احتمال مسؤولية الطرف الفلسطيني المقاوم عن حادثة القتل من جهة، والنظر لإمكانية أن يكون مصدر الرصاصة غير محدد وعشوائي.
بالنسبة للكثير من وسائل الإعلام، فإن قتل الصحفيين واستهدافهم يعد حادثة جديرة بالتغطية والمتابعة، وغالبا ما كان يتم تجاوز أي أخبار مضللة وتفاديها لضمان عدم غياب العدالة. يقع هذا كله فيما يعرف بـ"تضامن زملاء المهنة"، وهو معيار شرف أخلاقي معتد به عالميا يسعى من خلاله الصحفيون إلى كسب تأييد العالم أجمع وكسب تعاطفه و"الانتقام" من القتلة الذين يتعمدون إيذاء الصحفيين.
ويعتبر أي تضليل من جانب القتلة والمجرمين المنتهكين لحرية الصحافة أمرا مرفوضا تماما. وعلى هذا الأساس، يقع ضمن مهام الصحفيين والمراسلين (Reporters) الذين ينقلون التصريحات الإعلامية المتتابعة -من أطراف عدة قد يكونون ضالعين في تغييب الحقيقة المتصلة بهذا الحدث المؤسف- مراجعة المعلومات والبيانات المقدمة والتأكد منها جيدا قبل عرضها للجمهور.
إن سردية المادة الخبرية واتجاهاتها بالنسبة للكثير من محللي تغطيات وسائل الإعلام ضرورية وملحة لأنها ليست بمثابة تغطية حدث عابر أو نزاع مستمر كالذي اعتادت وسائل الإعلام تقديمه بل إن زميلا في المهنة\ عضوا في العائلة الصحفية العالمية (إن صح الوصف) ننتمي له وينتمي لنا قد تم تغييبه وانتزاع حياته بالقوة لإخراس صوته للأبد!
يقودنا هذا الاستدلال حول قيمة وخطورة تغطيات قتل الصحفيين واستهدافهم في الصحافة العالمية لحادثة مقتل الصحفية البلغارية الاستقصائية فيكتوريا مارينوفا التي وجدت مقتولة في إحدى حدائق مدينة روسي البلغارية، والتي شغل حدث وفاتها موضوع تغطيات وسائل الإعلام لأشهر طويلة، ولم يتوان الكثير من وسائل الإعلام عن الإشارة للقتلة بصورة مباشرة في حين التزمت بعض الوسائل الأخرى بضرورة محاسبة الجناة، وهو سياق لم يسمح للكثير من الأخبار المضللة والتحيزات المغيبة للحقيقة أن تظهر عبر التغطية الإعلامية.
في المقابل وأمام قتل الصحفية أبو عاقلة، فإن تداول وسائل الإعلام العالمية لتصريحات متضاربة منزوعة من سياق الحقيقة ولا تتسم بالمنطقية، ومصدرها المسؤولون الإسرائيليون بمن فيهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيت نفسه، يعد أمرا مستغربا بشدة.
بعد أكثر من ثلاث ساعات على دحض الادعاءات الإسرائيلية بشأن مسؤولية الطرف الفلسطيني عن اغتيال شيرين أبو عاقلة، كان عدد من المنظمات الحقوقية تنشر معلومات موثقة حول مواقع الاشتباك الفلسطيني الإسرائيلي المزعوم، وهي مواقع مختلفة عن المكان الذي استشهدت فيه أبو عاقلة. بينما نشرت قناة الجزيرة مقاطع فيديو تظهر تعمد اغتيال أبو عاقلة عبر منع المساعدة عنها والتعرض لصحفية أخرى بوابل من الرصاص دون التسبب في إيذائها. مع ذلك، نشرتي بي بي سي نقلا عن رئيس الوزراء الإسرائيلي: "وفقا للمعلومات التي جمعناها، يبدو من المرجح أن الفلسطينيين المسلحين -الذين كانوا يطلقون النار عشوائيا في ذلك الوقت- هم المسؤولون عن الوفاة المؤسفة للصحفية". وتابعت التصريحات بمزيد من التضليل المتعمد: "تم تصوير فلسطينيين في جنين وهم يتفاخرون قائلين: لقد ضربنا جنديًا وهو ملقى على الأرض، مع ذلك، لم يصب أي جندي [إسرائيلي] بجروح، مما يزيد من احتمال أن يكون الإرهابيون الفلسطينيون هم من أطلقوا النار على الصحفية".
هذه متابعة إخبارية أخرى من نيويورك تايمز تكشف هشاشة التغطية الإعلامية حيث اعتبرت في خبر سريع نشرته في الساعات الأولى من استشهاد شيرين أبو عاقلة أن الوفاة "طبيعية" مشيرة إلى حدث "الوفاة" لا (القتل) عبر عنوانها: "شيرين أبو عاقلة الصحفية الفلسطينية توفيت في عمر 51 عاما". وبذلك، تجاهلت معطيات أساسية في الخبر بينها حدث القتل نفسه، والقتل المتعمد، والطرف القاتل الذي ظل مجهولا بالنسبة لها حتى في التغطيات اللاحقة وغيرها من المعلومات التي يشكل تغييبها أثرا بالغ الخطورة على العدالة.
ويجدر الذكر أن المؤسسة الصحفية العالمية قد بادرت لاحقا بحذف هذا الخبر من جميع منصاتها بعد سلسلة من لانتقادات والتصحيحات التي قدمها ناشطون وإعلاميون دون أن تقدم اعتذارا يذكر نظير ضعف التحقق من المعلومات المرتكب من جانبها حيث نشرت لاحقا: "الصحفية الفلسطينية الأمريكية شيرين أبو عاقلة تم إطلاق الرصاص عليها وقتلها في الضفة الغربية يوم الأربعاء بحسب وزارة الصحة الفلسطينية. تشير التحقيقات إلى أن مصدر إطلاق النار لا يزال غير واضح". موقع سي أن أن هو الآخر اعتمد على نفس السياق المقدم من نيويورك تايمز متبنيا رواية القتل المتعمد لكنه تجاهل الإشارة للقاتل أيضا في حين نشرت فوكس نيوز خبر "وفاة الصحفية" دون الإشارة لقتلها.
تدلل هذه الأخبار المتتابعة من الصحافة العالمية على ضعف وهشاشة التغطية الإعلامية، ما قد يكون له الأثر البالغ على تقديم الجناة للمحاسبة الدولية؛ فمعظم الصحف العالمية لم تلجأ إلى تفعيل "التحقق من المعلومات" في تعاملها مع هذا الحدث الشنيع والمؤسف، بل ظلت تقدم الروايات الإسرائيلية على أنها معلومات ذات قيمة في حادث اغتيال أبو عاقلة.
يثير هذا الأمر تساؤلات عدة حول الهيمنة الصهيونية العالمية على وسائل الإعلام ودورها المتزايد في كسب الممارسات الإسرائيلية الإجرامية الكثير من التعاطف العالمي رغم أنها باتت تتجاوز كل الخطوط الحمراء وتنذر بالكثير من الخطورة على حياة الصحفيين الذين يغطون الأحداث المتتابعة في الأراضي المحتلة. في ذلك، نشرت واشنطن بوست تقريرا يتناول المفترق الذي وضعت به حادثة اغتيال الصحفية التي يصفونها بـ"المربية والمعلمة"، حيث تنقل الصحيفة على لسان صحفي فلسطيني قوله: "لقد كنا جميعًا نخبر بعضنا البعض أن ما حدث لشيرين يمكن أن يحدث لنا ونحن نعلم أننا قد نكون ضحية لرصاصة في أي مكان وفي أي وقت". مع ذلك، لا يمكننا تجاهل مستوى الامتنان والاعتراف بأهمية أبو عاقلة الصحفية ودورها البارز في تغطية الشأن الفلسطيني ونقل معاناة الإنسان الفلسطيني للعالم، وهو ما نال حيزا من اهتمام بعض المؤسسات الصحفية العالمية. قالت ليس دوسيه كبيرة المراسلين الدوليين في بي بي سي: "بالنسبة للكثير من النساء اللواتي لا يمكنهن العمل في وسائل الإعلام في تلك المنطقة، كانت شيرين أبو عاقلة نموذجا للمرأة والصحفية الناجحة والبارزة وهي نموذج ملهم للأجيال".
أخيرا، فإنه مهما بدت التغطيات متسارعة ومتباينة بشأن اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة فإنها تفرض تساؤلات مستمرة إزاء موثوقية الإعلام العالمي وقدرته على تتبع حجم الجرائم والانتهاكات الإسرائيلية لا سيما في تطور الممارسة الإعلامية والاتجاه بها نحو أدوات رقمية أكثر تطورا وثباتا. وفي المقابل يحضر التساؤل بشأن قدرة الصحفيين على تحييد الحقائق من كافة التحيزات وإضافة التحقق كمبدأ، وأدوات في ممارستهم المهنية لا سيما عندما يتعلق الأمر بمصير زملاء العمل والمهنة الذين يقاسون أصعب الظروف والمآلات مقابل نقلهم للحقيقة للعالم.