بينما كان النواب يناقشون تمرير قانون خاص يسمح بمصادرة أراض وملكيات أخرى بغرض بناء سجون جديدة من المفترض أن يُحتجز فيها عناصر العصابات، انتهز إرنستو كاسترو ألدانا الفرصة، وهو رئيس الهيئة التشريعية، ووجه كلامه للصحفيين الذين عُرف عنهم انتقادهم لنشاطات حكومة نجيب بوكيلة، بأن يذهبوا إلى المنفى، فهم برأيه "معقدون" وليست لديهم شخصية، حيث إنهم لا يقدمون شيئا للسلفادور.
"فليمنحوكم حق اللجوء ولترحلوا، أنتم لا تقدمون شيئا هنا، إن أردتم الذهاب فلتذهبوا، هل تظنون أننا سنرجوكم البقاء؟ أو أننا بحاجة إليكم، ليست لنا حاجة إلى أي منكم، ارحلوا!"، بهذه الكلمات انبرى الرئيس يخاطب الصحفيين في الدورة العامة العادية.
"ألا تشعرون بالخجل؟ لقد عشتم واكتسبتم رزقكم من زرع الخوف والقلق بين الناس، تقتاتون من ذلك ثم تتباهون بأنكم مثقفون"، بهذه العبارات انتقد الصحفيين والأكاديميين الذين تخصصوا خلال الثلاثين عاما الماضية في التحقيق بأعمال العنف، خاصة تلك الجرائم التي ترتكبها عصابتا "باريو 18" و"مارا سالفاتروتشا MS-13" في ذلك البلد الصغير بأميركا الوسطى منذ توقيع اتفاقيات السلام عام 1992.
لم تكن كلمات المسؤول الرفيع سوى جزء بسيط من أفكار الجبهة الجديدة التي افتتحها الرئيس بوكيلة في حربه المعلنة على الصحفيين الوطنيين والأجانب، وكذلك ضد المدافعين عن حقوق الإنسان. بدأت الهجمة الشرسة على الصحفيين في أواخر مارس/آذار، بعد أن خرج عناصر العصابتين المذكورتين كالمجانين إلى الشوارع وقتلوا بوحشية وفي أقل من 72 ساعة –في استراتيجية ضغط إرهابية نموذجية– أكثر من 70 شخصا، أغلبهم لا تربطه أي علاقة بعالم الجريمة، بحسب تحقيقات الشرطة الوطنية المدنية.
من أجل احتواء موجة العنف المتصاعدة، أقرت الهيئة –التي تدار بواسطة الحزب السياسي للرئيس نظام الاستثناءات، وهو خاصية في دستور الجمهورية تمنح الحكومة إمكانية أن تجري تعليقا مدته 30 يوما لبعض الحقوق، مثل حرية التنقل وخصوصية الاتصالات وقرينة البراءة والحق في الدفاع، إضافة إلى تمديد فترة الاعتقال الإداري من 3 إلى 15 يوما، وغير ذلك من الأمور.
في مارس/آذار اختير أحد المصورين الصحفيين من صحيفة "إل دياريو ذي هوي" لتغطية إحدى العمليات العسكرية في إيّوبانغو، وهي بلدية صغيرة في ضواحي العاصمة، وبينما كان الصحفي يؤدي عمله أحاطت به مجموعة من الجنود وأوقفوه وأجبروه على الركوع وخلع قميصه، ثم صادروا الكاميرا التي يحملها ومحوا كل المواد التي كان قد جمعها، بعد ذلك أبعدوه عن المنطقة بحجة عدم حمله تصريحا بالوجود والعمل هناك.
في اليوم التالي ذهب "كارلوس س" الذي طلب عدم الكشف عن هويته لتغطية عمليات عسكرية أخرى في منطقة "إل بينو" على بعد خمسة كيلومترات من سان سلفادور، ولدى وصوله قدم نفسه –في إجراء احترازي– إلى الجنود وأبرز لهم بطاقته التعريفية وأعلمهم بأنه سيكون هناك لأداء عمله فحسب.
بحسب رواية الصحفي، تفحص الجنود أوراق اعتماده ولم يعلقوا بأي كلمة.
بعد أكثر من ساعة لاحظ الصحفي أن الجنود يوقفون سائق دراجة، وبينما كانوا يجبرونه على خلع قميصه –للتأكد من عدم وجود وشوم ترمز إلى إحدى العصابات– بدأ كارلوس الذي يقدم خدماته الصحفية لوسائل إعلام عالمية، مثل الغارديان، تسجيل كل ما يحدث أمامه على هاتفه الجوال. في تلك اللحظة التفت إليه أحد الجنود وهمّ بانتزاع هاتفه، لكنه نجح في تفاديه بإلقاء الهاتف في حقيبته، وشرع بعدها في تذكير الجندي بأنه صحفي وأنه قدم لهم أوراق اعتماده قبل قليل.
فجأة أدرك أنه محاط بالجنود، وأحس بضغط فوهة بندقية على ظهره مع صوت يهدده همسا في أذنه: "ما الذي تريده؟"، انهال عليه وقتها سيل من الشتائم، وأمروه بخلع قميصه، "كانوا خمسة وكنت أرتجف لشدة الخوف، حاولت الإفلات منهم، ثم فكرت أن أركض فجأة وأهرب منهم".
أحس الجنود بنيّته في الهرب، فحذروه من أنه إن فعلها سيمسكون به ولن يرحموه. في تلك اللحظة كان كارلوس فزعا وبباله أنهم قد يطلقون عليه النار من الخلف، لحسن الحظ تدخل الضابط حينها، وأوقف جنوده وتفحص تصريح الصحفي ثم أطلقه وسمح له بمواصلة عمله.
ابتعد الصحفي عن المنطقة وقلبه يسدّ حنجرته، وعلى الفور اتصل بسيزار كاسترو فاغواغا رئيس جمعية الصحفيين في السلفادور، الذي نصحه بأن لا يخرج لتغطية العمليات العسكرية وحده أبدا.
بعد خمسة أيام تعرض صحفي آخر هو أوسكار ماتشون لاعتداء في الليل. كان ببيته في سويابانغو إحدى بلدات ضواحي العاصمة عندما خضّه صوت الجرس، ولدى فتح الباب فاجأته مجموعة من رجال الشرطة يفتشون عن أعضاء العصابات. سأله قائد العملية عن عمله، فأجاب أنه مصور صحفي مستقل، رد رجل الأمن بازدراء: "إذن فأنت تعمل لحساب أي كان"، عندها أخبرهم ماتشون أنه عمل 23 عاما رئيسا لتحرير المواد المصورة في صحيفة إل موندو ثالث أكبر الصحف المطبوعة في البلاد. ومع ذلك، لم تأته الإجابة التي كان ينتظرها، "تلك الصحيفة القميئة تدمر حياتنا نحن الشرطة"، هكذا أجاب رجل الأمن بحسب الصحفي.
"لقد ارتكبتُ خطأ شنيعا حين أخبرتهم أنني مصور صحفي" يستدرك ماتشون.
سُرح ماتشون من منصبه رئيسا لتحرير المواد المصورة في فبراير/شباط. لسنوات عديدة ظل يسخر حساباته الشخصية على منصات التواصل لانتقاد القرارات الحكومية التي كانت تبدو برأيه خاطئة وغير فعالة، لكن ذلك النشاط الذي انتهجه وقتا طويلا تحول إلى مشكلة منذ الأول من يونيو/حزيران 2019، حين اعتلى بوكيلة سدة الحكم.
كتاباته ضد الحكومة جعلته أحد أبرز أهداف إرنستو سانابريا، السكرتير الصحفي لرئاسة الجمهورية، الذي صنفه على العلن "معارضا سياسيا".
يوم إقالته، اتصل به مالك الصحيفة وأمره بتخفيف حدة انتقاداته، "كان واضحا أنهم يتعرضون لضغوط شديدة، وربما كان أكثر ما هو منطقي بالنسبة إليهم التضحية بحجر البيدق"، في إشارة إلى هشاشة منصبه، موظفا بين كثيرين في عشرات المؤسسات التي تملكها عائلة بورخا بابيني، التي تملك صحيفة إل موندو أيضا.
في عام 2018 سجلت جمعية الصحفيين في السلفادور 65 اعتداء على الصحفيين، و77 اعتداء عام 2019، و125 عام 2020، و219 عام 2021، و30 اعتداء إلى حدود إبريل/نيسان الماضي. من بين هذه الثلاثين الأخيرة ثمة خمسة اعتداءات ارتكبت منذ دخول تعليق الحقوق الدستورية حير التنفيذ، وكلها نُفذت للغرض ذاته؛ تجنب التحقيق في تجاوزات السلطة ضد مدنيين لا تربطهم أي علاقة بعمل العصابات.
"يريدون أن يظهرونا نحن الصحفيين وكأننا أبواق لتلك العصابات، يقولونها ويكررونها طويلا"، يوضح كاسترو فاغواغا.
لقد عدلت الهيئة التشريعية –من دون أي نقاش برلماني– قانون العقوبات لإقرار عقوبة بالسجن لا تقل مدتها عن 10 سنوات ولا تزيد على 15 سنة، لكل من يعمد إلى كتابة رموز على الجدران تشير إلى العصابات، التي عادة ما تستخدمها باعتبارها علامات حدودية لمناطق نفوذها، تماما كالذي تفعله عصابات جنوبي كاليفورنيا في الولايات المتحدة.
كما تضمن التعديل حظر أي معلومات تصدر عن قادة عصابتي "باريو 18" و"MS-13"، من شأنها إثارة القلق والذعر بين السكان، وأن نشر تلك المعلومات على المنصات التقنية أو أي من وسائل الإعلام الإذاعية أو التلفزيونية أو المطبوعة أو الرقمية يعد جريمة يعاقب مرتكبها، ما يعني أن بإمكان أي قاض تجريم أي صحفي أو مواطن ينشر معلومات مصدرها تلك العصابات.
تسبب عدم تحديد مفاهيم كـ"القلق" و"الذعر" في حالة من التوجس والارتباك بين الصحفيين السلفادوريين، حيث إن القضاة هم أنفسهم من يحدد ما إذا كان منشور بعينه يخرق القانون. المشكلة الأخرى أن الحزب الحاكم (نويفاس إيدياس) كان قد قرر بأمر من الرئيس تسريح غالبية أعضاء السلطة القضائية العليا، فضلا عن إقالة مئات القضاة من مختلف المستويات، وعيّن مكانهم أشخاصا تابعين لرئيس الحكومة.
ليلة تعديل قانون العقوبات، أكد غييرمو غاييغوس، وهو عضو البرلمان عن التحالف الكبير من أجل الوحدة (GANA)، أحد الأحزاب السياسية الموالية لبوكيلة، أن الهدف من التعديل هو التصدي لوسائل الإعلام والصحفيين الذين "تربطهم علاقة بالعصابات"، وأضاف: "فليحذر من يفعل ذلك من أنه سيُلقى في السجن".
وقالت عضو البرلمان عن الحزب الحاكم، مارسيلا بينيدا، بأنه من الآن لن يجرؤ أحد على أن يقول: "إن العصابات هي من يحكم"، في إشارة إلى المناطق التي فقدت الدولة السيطرة عليها، فرسالة كهذه صارت تعد جريمة.
عصابات السلفادور شأنها شأن عصابات تجارة المخدرات في بعض مناطق المكسيك وعصابات الجريمة في بعض الأحياء الفقيرة بالبرازيل، تسيطر على أجزاء من تلك الأراضي، وتدير حياة كل من يقيم فيها.
يشبه كارلوس إيرمان بروخ وهو عضو البرلمان عن الحزب الحاكم، تعديلات قانون العقوبات في السلفادور بالقوانين الألمانية التي تجرّم تمجيد النازية والتعاطف معها، غير أنه أغفل في المقابل أن أذرع الرقابة الشرعية على العنف ومعاداة السامية ليست تنال من الباحثين والصحفيين الألمان، وأنه في الواقع هناك أكثر من 120 ألفا من المؤلفات –بأشكال نشر مختلفة– تتحدث عن حياة أدولف هتلر.
"هي محاولة واضحة لفرض الرقابة"، يستخلص ذلك كاسترو فاغواغا، الذي ذكر أيضا أنه خلال الأعوام الخمسة والعشرين الماضية كان الأكاديميون والصحفيون هم من يجرون التحقيقات وينشرون التقارير عن أعمال العنف التي ترتكبها العصابات بحق الفئات الأشد فقرا في البلاد، وعن تحولها إلى مافيات عابرة للحدود تربطها صلات بمجموعات مماثلة في الولايات المتحدة، وعن المحادثات التي أجرتها حكومة الرئيس السابق مع قادة العصابات لخفض عدد ضحايا الجرائم اليومية وإن كان بشكل مصطنع، وعن الإغراءات التي قدمها مرشحو الرئاسة في عامي 2014 و2015 لعناصر العصابات كي يكسبوا أصواتهم، وكذلك عن المفاوضات السرية التي تجريها حكومة نجيب بوكيلة لتقليل جرائم القتل.
"لعبت الصحافة دورا حيويا في فهم تلك العصابات"، يقول فاغواغا.
بعد ثلاثة أيام من إجراء التعديلات، أعلن أحد موظفي الحزب الحاكم، يعرّف نفسه على شبكات التواصل باسم كيفين سانشيز، أنه سيقدم شكوى رسمية ضد الصحفية غابرييلا كاسيريس من صحيفة "إل فارو" الرقمية، بعد أن نشرت تقريرا بعنوان "وثيقة من أحد القضاة تؤكد إطلاق سراح (كروك) رغم عدم انتهاء المحاكمة"، أوضحت فيه أن قائد عصابة "MS-13" إيلمير كاناليس ريفيرا الملقب بـ"كروك" قد أُخلِي سبيله من دون إذن القاضي.
هذا العام نشرت إلفارو ولابرينسا كرافيكا ومنظمة إنسايت كريم تحقيقات صحفية تشير إلى أن حكومة بوكيلة عرقلت تسليم 14 من قادة عصابة (MS-13) للولايات المتحدة، التي تطالب بجلبهم لمحاكمتهم عن تهم تتعلق بالإرهاب والقتل وغير ذلك.
في إبريل/نيسان الماضي، جاء الرئيس بوكيلة بجزء مقتطف من تقرير لـ "أر تي"، يعرض مقابلة مع الأنثروبولوجي خوان خوسيه مارتينيز داوبويسون، مؤلف العشرات من التحقيقات، من بينها تحقيق بعنوان "طفل هوليوود: كيف عملت الولايات المتحدة والسلفادور على تشكيل أحد مجرمي مارا سالفاتروتشا". أخذ الرئيس ذاك المقتطف ونشره على حساباته في شبكات التواصل الاجتماعي وعلق عليه: "هذا القمامة، سليل أحد مجرمي الإبادة الجماعية، يقول إن العصابات تؤدي دورا اجتماعيا ضروريا في السلفادور! هذه إذن مصادر المعلومات لدى المجتمع الدولي؟ كم هذا سخيف!".
أثار منشور الرئيس دوامة من التعليقات على شبكات التواصل، كما تسبب في نفي المختص الأنثروبولوجي، الذي بحسب إلفارو هرب إلى "مكان آمن"، رغم أنه لم يقدم طلبا للّجوء بعد، كما أوضحت الصحيفة أن كثيرا من مصادره الإعلامية نزحوا من أماكن إقامتهم بعد تصريحات الرئيس.
"في 11 سطرا أدان الرئيس ورجاله أعمالي، وضعوا مصادري كلها في دائرة الخطر"، هكذا يقول الأنثروبولوجي في مقال نشره بعنوان "بوكيلة حوّلني إلى رجل عصابات لأنني أعمل باحثا فحسب!"، نشر في 18 إبريل/نيسان في واشنطن بوست.