في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2016، كان ميشيل ويلبون، وهو إعلامي أمريكي يَجرُّ خلفه 30 سنة من الخبرة في مجال الصحافة الرياضية، وكان مهوّسا بحبُّ نادي شيكاغو كابز للبيسبول، مُنصهراً وسط جماهير تملأ مدرجات ملعب "وريغلي" في مباراة محمومة وحماسية أمام دودجرز. ظلَّ صاحب أحد أعمدة الرأي بصحيفة "واشنطن بوست" لعقدين من الزَّمن مُنسلخا من صفته وهويته الإعلامية، بل كان متماهياً مع الأنصار ومُرتدياً جلباب المشجع، عندما يكون خارج عمله.
تعاقبت دقائق المباراة إلى أن رنَّ هاتف ويلبون. سحبه أحد مُنتجي قنوات "ESPN" التي كان يشتغل معها كذلك من أجواء التشجيعات والأهازيج الجماهيرية، وطلب منه إعداد مراسلة تلفزيونية بعد نهاية اللقاء من أرضية الميدان. فوجئ ميشيل بذلك، ولم يستوعب إمكانية تحوّله في غضون لحظات من مُناصر يصدح مؤازراً لفريقه المفضل إلى إعلامي يَصِف من قلب الحدث ما يُحيط بالمباراة.
حاول ويلبون التنصُّل من هذا "المأزق" الذي يُلامس خطوط التماس بين الفِعل التشجيعي والممارسة الصحفية، فقال للمُنتج: "إنني أرتدي الآن قميص إيرني بانكس (لاعب سابق لشيكاغو كابز)، فكيف لي أن أُعِدّ المراسلة"؟ فأجابه مُحدّثه في الاتصال الهاتفي: "لا أحد سيكترث أو يُبالي بذلك".
تأتي هذه الواقعة لتعكس بالملموس الخط الفاصل والمُلتبس الذي يكاد لا يُرى بين العمل الصحفي المُتطلِّب للموضوعية وبين ما تُحرِكه النّفس من أهواء واصطفافات وانتماءات، فقد يجد الإعلامي نفسه في كثير من الأحيان خاضعاً لاختبار التحلل من مشاعره وميولاته.
تفتح النازلة المذكورة أعلاه الباب أمام أسئلة شائكة تختلف حولها الآراء والمواقف، والدائرة أساساً حول مدى مشروعية إِفصاح الصحفي الرياضي عن الاتجاهات التي يُناصرها في مجال عمله وهويات الأندية التي يشجعها أو يتعاطف معها، وهل يفقد مصداقيته إذا فعل ذلك؟
المدرسة الإسبانية وإباحة الجَهر بالانتماء
في مقابل الحدود الضيقة التي تُطوّق الصحفيين في بلدان عديدة دون إفساح المجال لهم لإقحام بعض الذّاتية في عملهم، يُبيح الإعلام الرياضي في إسبانيا هذه الإمكانية كعرف، إذ تشيع داخله ثقافة الاصطفاف إلى جانب نادٍ أو أندية معيّنة، بمواكبة مستجداتها حصراً وكذلك الدفاع عنها في النقاشات والإنتاجات الصحفية.
تُعبَّر صحيفتا "آس" و"ماركا" من جهة و"سبورت" و"موندو ديبورتيفو" بجلاء عن هذه المُعادلة؛ فالثّنائية الأولى تشتهر بتركيزها على نادي ريال مدريد، بينما تذهب الثانية في اتجاه الإحاطة بنادي برشلونة وأخباره، حتى صار المُتلقّي مُطبّعاً مع هذه القاعدة، ومتقبّلاً لآليات اشتغالها.
يُجسّد "الشيرينغيتو"، أحد أكثر البرامج الرياضية مُشاهدة في إسبانيا، ما يحظى به الصحفيون هناك من حُرية في تصنيف أنفسهم حسب النّادي المُفضّل، ويجمع هذا البرنامج صحفيين مُوالين لريال مدريد وبرشلونة، ويشهد نقاشات ساخنة تحضر فيها المُحاججة والتدافع حول الأفكار ذات الصلة بقطبي الكرة الإسبانية.
رغم الهامش الذي يملكه الإعلاميون في إسبانيا، والذي يُتيح لهم الكشف عن ميولهم لنادٍ من الأندية أو منهجية الاشتغال القائمة على مواكبة طرف واحد قصراً دون غيره، فإن الحدود الفاصلة بين الذاتية والموضوعية قليلاً ما يتم انتهاكها، فتركيز العمل على نادٍ أو طرف واحد لا يعني الدّفاع عنه "ظالما أو مظلوما"، وليس مرادفاً للتغليط والالتفاف على الحقائق في سبيل الانتصار والانحياز لجهة على حساب أخرى.
راكمت الصحافة الرياضية الإسبانية سنوات من التجربة على مستوى هذا النمط، وأضحت تُجيد العمل به، دون أن ينقلب ضدّها ويطعن في رأسمال الموثوقية الذي تتمتع به، فالاصطفافات مُباحة والتخندق جائز، لكن بعيداً عن القفز على الموضوعية اللازمة، والمُتعارضة، قطعاً، مع ترويج المُغالطات والانحياز "الأعمى"، رغم الحُرية المُتاحة على مستوى الدفاع المشروع عما يتم الاقتناع به، بكل نزاهة وصِدق.
إشهار الانتماء في المغرب.. صَيحة شائعة
في العقود السابقة، سادَ الإعلام الرياضي المغربي تحفُّظٌ من طرف الصحفيين على إبداء تشجيعهم لنادٍ مُعيَّن أو مؤازرتهم لهذا الفريق على حساب ذاك من نفس البلد، وإنَّما كان المنتخب الوطني المغربي هو الذي يُوحّد كافة الأطياف الإعلامية ويلتف حوله الجميع.
كان رجال الإعلام، حينها، يحرصون على اتخاذ مسافة واحدة من جميع الأندية الوطنية، دون أن يخرقوا مبدأ الحياد الذي ظل "مُقدّساً" ورافداً أساسياً من روافد الممارسة الصحفية. يقول أمين العمري، صحفي رياضي مغربي: "تاريخيا، كان الصحفي الرياضي المغربي يلتزم بالموضوعية والحيادية التامة. فهناك من امتهن وتقاعد دون أن يعرف الجمهور العريض ولو فكرة عن فريقه المفضل".
ويُضيف العمري في تصريح لـ "مجلة للصحافة": "أظن أن الولاء الوحيد الذي كان سائدا هو الدّعم الذي كان يُقدّم للمنتخب الوطني المغربي أو الأندية المغربية في مشاركاتها القارية والدولية.. أما في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، فيصعب على الصحفي الالتزام بالحيادية المطلقة والمحمودة في الممارسة".
أفضى انتشار منصات التواصل الاجتماعي التي أضحت تحتضن جزءا مهماً من الممارسة الإعلامية إلى إحداث تحوُّلات على مستوى النَّمط والمبادئ التي تؤدّى بها المهمة الصحفية. لقد صار منطق الاصطفافات بين الصحفيين هو الغالب في المشهد العام. يُشْهر الإعلامي علناً هوية النادي الذي يحتل جانبه العاطفي، ويشرع في الانتصار له في كل القضايا، بعيداً عن النقد المطلوب وتسليط الضوء على مكامن الخلل.
مقارنةً بالمثال الإسباني الذي سبق ذكره، يتخطَّى الكثير من الإعلاميين في المغرب حدود الإعلان عن الانتماء لنادٍ مُعيّن أو تركيز التغطية الصحفية على فريق دون آخر، إلى الانحياز وتغليب كفَّة طرف على آخر.
يُفسِّر العمري هذه الظاهرة الآخذة في الانتشار داخل المغرب ببحث العديد من الصحفيين عن وسيلة سريعة لتحقيق الشُّهرة وحصد مُتابعة أكبر، إذ يتَّخذون هذا "القالب" مطية لاختصار المسافات نحو مُراكمة الشعبية لدى المتلقي، وهو ما قد يعجزون عنه عند تبنّي الموضوعية في القضايا ذات الصلة بالنادي المعني الذي يشتغلون عليه.
تبحث هذه الفئة من الصحفيين في أغلب الأحيان عن مُخاطبة عواطف الجماهير التي تُناصر النادي الذي يُغطّون مستجداته أو يُشجعه الإعلامي بنفسه، حيث ينكب هذا الأخير، في كل القضايا الشائكة أو الصراعات التي يكون فيها "فريقه" طرفاً، على محاولة الالتفاف على الحقائق والتغليط ونشر "الدِّعاية المُوجَّهة"، حتى يكسب رضا الأنصار ويؤمِّن بالتالي ديمومة الشعبية التي يحظى بها وتزيد أيضاً في التعاظم.
يقول العمري: "مجرد متابعة الصحفي لأخبار نادٍ معين يجعل منه تارة موضوع الثناء إذا كانت تغطيته تُحيط بالمسار الإيجابي لذلك الفريق، وتَارة محط السب والقدح إذا وجَّه سهام نَقده لما يرتبط بالنادي.. أعتقد أن العديد من الصحفيين يفصحون عن انتمائهم الكروي بغية جذب أكبر عدد من المتتبعين، شأنهم في ذلك شأن ما أصبح يصطلح عليه بـ"المؤثرين".
التخلي عن الحياد والتمسُّك بالموضوعية
في أدبيات الصحافة، يُلقَّن الحياد كشرط أساسي للأداء السليم للرسالة التي تحملها المهنة، فكل الطلبة ومن يسيرون في طريق التحصيل الدراسي للإعلام، يُراكمون المعارف وهم متشبعون بضرورة التقيُّد بالحياد عند المُمارسة، لكن الميدان يُحيل على واقع آخر، يُخرَق فيه هذا المبدأ، ولا يعني ذلك أن الصحفي قد تجاوز ما هو مُباح على مستوى الُعرف على الأقل.
لِنتّفق على أن الحياد لن يفوق الموضوعية أهميةً من حيث القيم التي يجب على الصحفي أن يحوزها، فالتخلّي عن الحياد والميل إلى جانب واحد لا ينبغي أن يكون مُرادفاً لـ"الانحياز الأعمى" كما ذكرنا سلفاً، وإنما الثّبات على إبراز الوقائع كما هي، دون بَهارات أو تدخُّل كي تتطابق مع ما يخدم أهواءنا أو مصالحنا.
نقول هذا لأن الحياد في الممارسة الإعلامية يكاد يكون عسيراً على أن يتحققّ حسب كثيرين، فالانفصال عن الذّات بصورة كُلية وقطعية يبقى خارج المألوف، إذ إن البنية النفسية للإنسان بشكل عام يحضر فيها الذاتي إلى حد اعتباره غريزة أو فطرة.
تتبنَّى ماريون فان رينتيرغهيم، وهي إعلامية فرنسية، هذا الطّرح، وتعتبر أن الحياد غائب في الصحافة كما في غيرها من الميادين، وتقول: "يجب أن نفهم أن الحياد غير موجود. ليس بوسع أي إنسان أن يكون مُحايداً".
تذهب الإعلامية ذاتها إلى أبعد من ذلك، وترسم طابعاً سلبياً للحياد، وترى بأنه يُمكن أن يحمل بين طياته انحيازاً مبطّناً، ويستخدم لمحاولة خداع المتلقي وإقناعه بمصداقية وهمية، تقف خلفها دوافع ذاتية. وتقول في هذا السياق: "باسم الحياد، يحدث أن نُبرّر الأخبار الزائفة، لأن الحقائق فقدت طابعها المُقدّس. الأساسي أن نبحث عن حقيقة الوقائع وتكون لنا نظرة عادلة".
بالنسبة لأنطوان موران، إعلامي فرنسي ومُعلّق بقنوات "بي ان سبورتس"، فالحياد لا يعني إسقاط الموضوعية. يتحدّث الصحفي الذي اشتغل كذلك بقنوات "كانال بلس" عن مهمته التي تُلزمه بوضع تقييم بالنقاط للاعبين بعد المباريات، ورغم ذلك يحرص على أن يظل موضوعياً لأقصى درجة، رغم إقراره بأنه يُفضِّل أندية على أخرى ويؤْثِر لاعبين على حساب آخرين.
يقول موران: "أحاول دائماً أن أكون موضوعياً، وأحرص على اتخاذ مسافة معينة. هناك بالفعل أندية أُفضِّلها على أخرى، ولاعبين أُحبّهم أكثر من آخرين، لكنني أظل مُنفتحاً على الدوام، ليس ثمة شخص يملك العلم اليقيني في كرة القدم".
ثمة شبه إجماعٍ، إذن، على أن اختلاف المسافات التي تفصل الإعلامي عن أطراف مُختلفة أمرٌ يُمكن التّطبيع معه، كما أنه جائز في مجموعة من المدارس الصحفية في بلدان عديدة، لكن شريطةً ألا يُوقع صاحبه في فخ انتهاك الموضوعية، مثلما يحدث كثيراً في الحقل الإعلامي المغربي.
يغيب الحياد حينما يختار الصحفي أن يُفْرِد تغطية ومواكبة أكبر من حيث الكّم لصالح هذه الجهة مقارنةً بأخرى، بيد أن ما يكتسي خطوة أكبر هو أن يعمى الإعلامي عن إعمال الموضوعية في معالجته للقضايا المتعلقة بالطرف الذي يشتغل عليه، وعندها تنتفي كافة القيم التي توصي بها أخلاقيات المهنة، وتصير المُمارسة الإعلامية عُنوانا للعشوائية والذاتية وخِدمة المصالح الشخصية.