"يحيا سعادة الرئيس"

"يحيا سعادة الرئيس"

من كتاب: صحفيون خلف أسماء مستعارة 

 

 

 

في بلدي أضحت ممارسة الصحافة مرتبطة في الذهنية العامة بممارسة التسول؛ فالصحافة لدى الرأي العام هنا "تسول" والصحفي "متسول"، حاله حال من يقف على الرصيف يسأل المارة، وإن اختلفت وسيلة التسول وآليته.

واقع أفرزته حالة التمييع التي تعيشها مهنة الإعلام في البلاد، والتي تتحمل السلطة مسؤوليتها بالدرجة الأولى، بل إنها ترعى واقع التمييع هذا خدمة لمصالحها.

في سياق كهذا يجد الصحافي المؤمن بمهنة الصحافة ومهنيتها نفسه كـ "القابض على الجمر"، وتجد وسيلة الإعلام الخارجة على هذا المنطق نفسها "تغرد خارج السرب".

هذا الواقع أفرز شيوع ظاهرة "البيع والشراء" و"التأثير" و"الضغط" وغير ذلك، مما قد يكتشفه كل من عمل صحافيا في بلادي. حيث لا مناص من أحد خيارين، مسايرة الواقع، أو العيش على الهامش، وسائل الضغط كثيرة جدا، لكن أرى أن تدخل السلطة السياسية بكل الآليات، يشكل عائقا حقيقيا أمام ممارسة الصحافة، بالمنع من تغطية الأحداث وتجفيف منابع الإشهار، وإنزال غرامات جبائية، ورعونة السياسيين، يسيج عمل الصحافيين، ويصيرون لدى الرأي العام بعد أن تجف منابع الأخبار مجرد "متسولين"، ليس هذا فقط، بل إن السياسيين يلجؤون إلى الضغط الشديد على الصحافيين حينما يثيرون قضايا حساسة مثل "الاسترقاق" و"التفاوت الاجتماعي". 

في مجتمع متعدد الأعراق والشرائح والألسن، تتحول بعض المواضيع إلى تابوهات، لا يخلو تناولها الإعلامي من بعض "المحظورات" مجتمعيا ورسميا.

وهكذا، ففي بلدي بات تناول ملفات حقوقية واجتماعية من قبيل "الاسترقاق" و"التفاوت الاجتماعي" و"تكافؤ الفرص" بين مختلف المكونات، لا يخلو من تكييف التهم للمؤسسة الصحافية، وللصحافي الذي يتناول الموضوع أيضا. 

وهكذا تتحول مجرد تغطية حدث لأصحاب بعض المطالب من مختلف شرائح المجتمع، إلى تهمة بـ "التحريض" و"إثارة الفتنة" و"زعزعة الاستقرار".

وكان مرة أن استضافت المؤسسة الصحافية التي عملت بها على مدى 7 سنوات، أحد الناجين من "تصفية عرقية" تعرض لها بعض عسكريي إحدى شرائح المجتمع عام 1980، وذلك بمناسبة حلول ذكراها.

وما إن تم الإعلان عن الحوار، حتى بدأت الاتصالات ترد من كل الجهات الرسمية الأمنية، والسياسية، وغيرها بهدف إلغاء الموضوع "تجنبا لإثارة الفتنة" على اعتبار أن الموضوع حساس، وأن النبش في أحداث الماضي يثير من المخاوف أكثر مما قد يجلب من المصالح.

وقد طلبت سلطة الصحافة، باعتبار دورها الإشرافي إلغاء الموضوع، أو اطلاعها عليه مسبقا، كي ترى مستوى قابلية خروجه للعلن وللرأي العام.

لكن أيا من ذلك لم يحصل، فلا الإلغاء تقرر ولا إطلاع السلطة على مضمون النقاش حصل، فتم ما كان مقررا مسبقا، وروى الضيف الذي كان شاهدا على تلك الأحداث ما حصل، وكيف استطاع أن ينجو من القتل.

فتحركت التهم من جديد ضد المؤسسة، وأصدرت سلطة الصحافة بيانا طويلا عريضا، تبدي فيه ما تراه من مآخذ على مضمون الحوار، وأعادت فيه ذكر تهم سابقة جاهزة لديها.

غير أن تلك التهم لكثرتها، والإجراءات العقابية والتضييقية على تعددها وتنوعها، لم تعد تثير الانتباه، فالواضح منها أن السلطات تريد إعلاما خاصا بسقف حرية واطئ، ومقيس من طرفها.

وأمام رفض ذلك، تظل العقوبات تطل برأسها من حين لآخر أمام كل تغطية لا تعجب السلطة الحاكمة، أو تناول لحدث آني أو غابر من تاريخ المشهد السياسي أو الاجتماعي أو الحقوقي في البلاد مزعج لها، لكن دون جدوى، فلا هي أغلقت المؤسسة بشكل نهائي، ولا هي أيضا استطاعت تغيير الخط التحريري الذي اختطته لنفسها.

العقوبات التي تفرض أو يهدد بفرضها، يكون سببها في بعض الأحيان تناول قضية تصنف في إطار الدائرة الحساسة بالمجتمع، ويتعلق الأمر بموضوع الشرائحية، الذي يعتبر أحد أهم المستعجلات الوطنية في البلاد، سبيلا إلى ترسيخ فرص التعايش والسلم الأهلي في مجتمع متعدد الشرائح والأعراق.

ويجد الإعلام الخاص في بلدي صعوبة في تناول المواضيع المرتبطة بالشرائحية، والعرقية والحقوقية، فالسلطة تعتبر الإعلام الخاص سببا رئيسيا في حدة التجاذب الحاصل على مستوى الشرائح، والذي يأخذ منحى تصاعديا وتصعيديا في بعض الأحيان، والمنظمات الحقوقية تعتبر الإعلام مرتهنا لأجندات السلطة، ويتغافل عن القضايا الجوهرية، المتعلقة بضرورة "تكافؤ الفرص" بين مختلف الشرائح في مختلف الدوائر الرسمية وغير الرسمية.

بل إن المؤسسات الإعلامية الخاصة تجد نفسها في بعض الأحيان أمام سهام النقد من الطرفين الرسمي والحقوقي، لأنها لم تورد في حواراتها أو تغطياتها من ينحدرون من مختلف شرائح المجتمع، ويصل الأمر أحيانا حد اتهام المؤسسة الإعلامية نفسها على أنها لا تمثل إلا شريحة واحدة، وذلك إذا لم تكن واجهتها تعكس كل الشرائح، وفقا لمنطق المحاصصة.

 

قصة الوزير

 

مكنني عملي كرئيس تحرير بإحدى المؤسسات الإعلامية الخاصة لسبع سنوات، من نسج علاقات واسعة مع الوزراء والسفراء والمديرين وغيرهم، علاقات حرصت على أن تكون قائمة على أصول المهنية، بعيدا عن المنطق الشائع الذي يسيء للمهنة وللمهني.

لكن ذلك لم يمنع من محاولات كسر الحاجز، وأذكر هنا أن أولى المحاولات حصلت معي حينما استقبلت ذات ليلة من عام 2015 اتصالا هاتفيا من وزير سابق للاتصال وصيٍّ على قطاع الإعلام، ليطلب لقائي، وهو ما لفت انتباهي لأن الوقت كان قد تأخر، فحاولت التنصل من اللقاء بهدوء، لكن دون جدوى.

وتحت الإلحاح قبلت اللقاء، كان الوزير يرتدي زيا غير رسمي، ويركب سيارة تحمل لوحة رسمية، التقينا ودار حديث ودي تمهيدي.

بعدها خيرني الوزير بين أن أقبل عرضا ماليا نتفق عليه، مقابل تمرير أجندته وما يمليه عبر وسيلة الإعلام التي أشتغل فيها، معتبرا الأمر عاديا وسريا، وبين أن أغادر وسيلة الإعلام باتجاه أخرى عمومية.

رفضت الخيارين بهدوء واعتذرت للوزير، لكنه استشاط غضبا ورد علي بأسلوب لا يخلو من رعونة، بأن وسيلة الإعلام التي أعمل بها لن تحضر منذ تلك اللحظة نشاطا رسميا، ولن يقبل انتداب أي من صحفييها لدى أي مؤسسة عمومية، ولا لحوار أي مسؤول.

أوضحت للوزير أن هذا السلوك يتنافى مع الشعارات التي ترفعها الدولة، لكنه لن يقودنا إلى رد غير مسؤول أو غير مهني.

فتحدثت مع المسؤولين في المؤسسة بشأن ما حصل، وانتظرنا قليلا لنعرف هل الأمر مجرد تهديد ومحاولة للضغط، أم بالفعل سينفذ الوزير ما توعد به.

وبالفعل "أنجز وزير ما توعد"، وجدت المؤسسة نفسها محاصرة ومستثناة من تغطية أو حضور أي نشاط رسمي مهما كانت طبيعته، فعززت علاقاتها مع مختلف المؤسسات الإعلامية المنافسة، وصارت تأخذ من عندها "المواد الخام" المتعلقة بصور النشاطات الرسمية وتصريحات المسؤولين وتعالجها بطريقة مهنية.

 

الضغط من خلال الإعلانات

 

الإشهار الذي يعد أحد الموارد الرئيسية للمؤسسة الإعلامية هو الآخر في بلدي، يأخذ طابع الضغط على وسيلة الإعلام، فيصبح بمثابة درع وقاية للمؤسسة المعلنة، من خلاله تحاول ضمان عدم تناولها أو تداولها في أي قضية إعلامية.

وكان أن تظاهر ذات مرة عمال إحدى شركات الاتصال في بلادي، واتصلوا بي باعتباري رئيس تحرير لتغطية احتجاجهم المطالب للإدارة بتطبيق اتفاق كانت قد وقعته معهم في وقت سابق.

فبعثت بفريق للتغطية، وغطى الاحتجاج. وبعد انتهاء المهمة اتصل بي أحد مديري الشركة لم يكن لي به سابق معرفة، مطالبا بعدم نشر الخبر على اعتبار أن الشركة متعاقدة مع المؤسسة بشأن إعلانات تجارية. أجبته بأن الإعلان التجاري لا يمنع من نشر خبر عن الشركة، بل إن إدارتي "الإعلان" و"الأخبار" منفصلتان، فما كان منه إلا أن هدد بفسخ عقد الإعلان التجاري إذا تم النشر، وبالفعل نشر الخبر وفسخ العقد من طرف واحد.

 

يوم طردني الرئيس

 

في سياق مسلسل التضييق على الإعلام والإعلاميين، الخارجين على صف "التطبيل" لكل ما هو رسمي، طردني رئيس بلدي ذات مرة.

كان أن علمت عبر مصادري أنه سيحضر نشاطا رسميا في مكان ما بالعاصمة فقصدت المكان، ووجدت الكثير من الإعلاميين هناك، وبعد انتهاء النشاط الرسمي علمت أن الرئيس سيقوم بجولة في المنطقة، فكنت وفريقي والإعلام الرسمي الوحيدين الذين تقفينا أثره في تلك الجولة، وما إن وصل المكان المقصود حتى وصلناه، فلما أنهى الجولة قرر الإدلاء بتصريح، لكنه منعني من ذلك قائلا إنه خاص بالإعلام الرسمي فحسب.

وقد أخبرت لاحقا من طرف أحدهم أن السبب هو كوني الصحفي الوحيد الذي كشف عن خطأ تصويته في انتخابات سابقة، يومها تقرر منعي والمؤسسة التي أعمل بها من أية تغطية لحدث رسمي.

وبالفعل حصل ذلك في انتخابات ماضية، يومها أخطأ الرئيس في التصويت وطلب من رئيس لجنة الانتخابات تغيير إحدى البطاقات الأربع ففعل، فنشرت الخبر لأنني كنت شاهدا عليه.

 

تدخلات سلطة الصحافة

 

لا تفتأ السلطات الرسمية في بلدي تتخذ أساليب عدة للضغط على وسائل الإعلام الخاصة، للحد من تأثيرها ودورها في نقل جانب آخر من ممارساتها لا ينقله الإعلام العمومي عادة.

في هذا السياق زار رئيس الدولة إحدى مدن الداخل النائية، وفيما استقبله بعض المواطنين برفع الصور والأعلام مرحبين بقدومه، استقبله آخرون ببراميل المياه الفارغة تعبيرا عن معاناتهم مع العطش، وردد آخرون شعارات مناوئة للزيارة، بل إن بعضهم رمى موكب الرئيس بالحجارة.

وكان التلفزيون الرسمي للبلاد ينقل مجريات الزيارة وأجواء الاستقبال، ليقطع بثه المباشر، مباشرة بعد أن انبرى من ضمن المستقبلين من يرفض الزيارة.

على إثر الحادثة الموثقة اتصل بالمؤسسة رئيس سلطة الصحافة، وهو منصب رسمي يتولى رئيس الدولة تعيين صاحبه، ويؤدي اليمين "على أن يؤدي مهامه على أكمل وجه"، طلب الرئيس في اتصاله من المؤسسة عدم نشر الجانب الآخر من الزيارة، وهو الجانب المتعلق بالمطالب الاجتماعية التي يناهض أصحابها قدوم الرئيس إليهم، ما لم يكن مصحوبا بما ينهي معاناتهم.

وقد رفضت المؤسسة الطلب بقوة، معتبرة أنه يتنافى مع دور سلطة الصحافة ورئيس السلطة، الذي يفترض أن يكون راعيا للحرية الإعلامية والتعددية الصحفية.

تم نشر ما لا تريد السلطة نشره، وإلى جانبه نشر الوجه "المضيء" للزيارة ضمن تغطية متوازنة، لا تغبط المتظاهرين حقهم ولا تغيب حق المرحبين بـ "مقدم" الرئيس.

ولأن ذلك عكس ما أرادت السلطات، أصدرت سلطة الصحافة بيانا تستنكر فيه ما حصل، ولوحت باتخاذ عقوبة بحق المؤسسة، تمثلت لاحقا في توقيف جزئي لأحد أهم برامجها.

وقد أثار القرار ردود فعل رافضة وجلب مساندة واسعة للمؤسسة من طرف الفاعلين في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها.

ومن حيث لا تشعر سلطة الصحافة ورئيسها، خرجت المؤسسة من العقوبة أصلب عودا، وأكثر جماهيرية، وهو وقود ساعدها كثيرا في مواصلة رفض الرضوخ لمنطق الإملاء، وضرورة تمجيد السلطة والرئيس. 

 

 

1

 

 

تتالت بيانات السلطة وعقوباتها في كل مرة لا يتم فيها الانصياع لأوامرها تارة، ولطلباتها تارة أخرى، وظلت المؤسسة حريصة على التمسك بخطها رغم المصاعب والإكراهات الجمة التي تتعرض لها.

وجاء موسم الانتخابات، حيث كل المؤسسات الرسمية وكل العاملين بالوظيفة العمومية تتنافس ويتنافسون على تأييد الرئيس ومشروعه، وحشد الدعم والتعبئة من أجل فوزه بولاية رئاسية جديدة.

لم يخرج رئيس سلطة الصحافة عن الإطار العام، حيث إن مثل هذه المناسبات إما أن تكون "رافعة" للموظفين فيترقون في سلم التوظيف عبر الترقيات والتعيينات، أو أن تكون "خافضة" لهم من خلال الإقالات، أو النزول بهم إلى أرذل سلم التراتبية الوظيفية.

في مثل هذا الجو تبنى رئيس سلطة الصحافة بعض المبادرات الداعمة والمؤيدة لرئيس الدولة، واستغل منصبه من أجل الحصول على أكبر تغطية إعلامية، فراح يطوف المؤسسات الإعلامية مطالبا بالنشر والبث.

وكان أن رفضت له المؤسسة ـ حيث أشتغل ـ نشر مادته، فدعا لإدراجها ضمن "الإعلان المعوض" فرفض له ذلك أيضا، وكان من نتائج الرفض هذا أن صنفت المؤسسة الأخيرة ترتيبا في أدنى مستوياته، من حيث حجم التغطية خلال الحملة الدعائية والاقتراع.

وفاز رئيس الدولة كما كان متوقعا، حيث صناديق الاقتراع لا تترك لها الكلمة غالبا في بلدان العالم الثالث، والانتخابات ليست بذلك المستوى من الشفافية.

ومن إيجابيات فوز الرئيس أن جدد لرئيس سلطة الصحافة للبقاء ولاية أخرى على رأس السلطة، ورُقيَ البعض، وتقلد الآخرون مناصب جديدة، وأزيح البعض لتزداد الخطوط الحمراء اتساعا.

استمر التضييق وأتى الدور هذه المرة على مؤسسة إعلامية أخرى خاصة، حيث تم توقيف أحد أشهر برامج إحدى الإذاعات الحرة، رأت فيه السلطة برنامجا "غير مهني" لأن المجال يفتح فيه أمام مناهضي ومؤيدي السياسات العامة للحكومة معا.

لاحقا اهتدت السلطات إلى أسلوب تضييقي أكثر "نعومة"، فصارت كلما تم رفض طلب لها، تلجأ إلى تعبئة هيئة البث التلفزي والإذاعي، أو سلطة الضرائب، فتجد المؤسسات الخاصة نفسها أمام الإغلاق بفعل تراكم حجم المديونية.

أسلوب تحولت إزاءه الدولة إلى خصم للإعلام الخاص، الذي تريد من وجوده أن يبرز بمظهر احترام الحرية والتعددية، وفي الوقت نفسه أن ينساق مع الإعلام العمومي في أحاديته، فيغيب بذلك أصحاب الرأي الآخر ومنتقدو أداء السلطات، وأصحاب المظالم والمطالب، الذين تجد السلطات في الغالب نفسها محرجة أمامهم، ولا تجد من سبيل لإسكاتهم سوى القمع وإغلاق منابر الإعلام أمامهم.

 

رياح الربيع

 

ألهمت ثورات الربيع العربي التي كان مهدها بتونس باقي بلدان منطقتنا على كسر جدار الصمت، والخروج ضد حكامها وسياستهم، ورغم تباين مستويات نجاح أو فشل الثورات هنا وهناك، إلا أنها مكنت الشعوب من القطيعة مع الخوف، والاستكانة للواقع، ولعبت في ذلك وسائل الإعلام ـ الافتراضي منها والواقعي - دورا كبيرا.

وفي بلدي الذي لم يكن استثناء من حالة الرفض العامة تلك، صنفت السلطات كل احتجاج ضدها "فتنة" و"عنفا" و"استيرادا لأفكار خارجية".

وطال التصنيف وسائل الإعلام الخاصة، خصوصا منها الرافض للسير في فلك الإعلام الرسمي وما تمليه السلطات.

وهكذا اتهمت وسيلة الإعلام حيث أعمل بأنها "مؤسسة لبث الفتنة" و"التحريض على العنف" و"استيراد فكر الثورات العربية"، ووجه لها ذلك رسميا من طرف السلطات العمومية، والناطق باسم الحكومة.

وكان السبب الرئيسي لذلك أنها تنقل الاحتجاجات وأصداءها، وتمنح الفرصة لأصحابها للحديث، بنفس الحيز الذي تمنحه للطرف الآخر المدافع عن السلطات العمومية.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فحسب، بل إن سلطة الصحافة أصدرت في أكثر من مرة بيانات تؤكد فيها التهم الرسمية لوسيلة الإعلام والعاملين بها، وتصف ما ينشر بأنه "مخالف للمهنية"، والواقع أنه "مخالف لهوى السلطات" فحسب.

وقد أطلقت حملة "شيطنة" كبرى ضد المؤسسة، اتخذت طابعا شموليا، واصلت خلاله السلطات كيل اتهاماتها ومنع المؤسسة من تغطية أي نشاط رسمي، وتم حظر الحديث إليها من طرف كل من يحمل صفة رسمية، إضافة إلى إطلاق حملة موازية على وسائل التواصل الاجتماعي.

لكن كل ذلك لم يثن المؤسسة عن المواصلة، رغم اتساع مستوى إحكام تضييق الخناق، فواصلت السير على نهج ما تراه مناسبا.

وقد سعت السلطات الرسمية جاهدة، سواء من خلال رئيس سلطة الصحافة أو من خلال وزير الاتصال، وهو الناطق باسم الحكومة، إلى تغيير منحى اهتمام المؤسسة وخطها التحريري، عبر عقد عدة جلسات مع إدارتها تحث فيها على ضرورة توخي الحذر من الانجراف نحو ما آلت إليه أوضاع بلدان أخرى، محملة وسائل الإعلام كامل المسؤولية في ذلك.

وقد أبدت السلطات انزعاجها من المصطلحات التحريرية المعتمدة لدى المؤسسة، فتسمية الرئيس ونسبته إلى الدولة تعتبرها "منافية لقيم المواطنة"، وتصنفها في دائرة "التحريض"، أما من يستخدم صفة "رئيس الجمهورية" فهو "مسالم" في نظرها و"مهني".

وشمل "القاموس المزعج" عديد العبارات والجمل الأخرى، فوصف فض اعتصام بالقوة "تحريضي"، و"الإصابات بجروح متفاوتة الخطورة" يعتبر "دعوة للعنف" و"القوات المدججة بالسلاح" تصنف "دعوة للحرب".

وهكذا وجدت المؤسسة نفسها أمام مساعي السلطات الرسمية إلى فرض "خط تحرير على مقاسها" يكون منزوع نقل الوقائع والأحداث، وما يستدعيه ذلك من استخدام مصطلحات حقلية معينة.

ومن أجل تحقيق ذلك كانت تضغط من ناحية أخرى على زر إثقال كاهل المؤسسة بالجبايات، حتى إن إدارة الضرائب أغلقت المؤسسة ذات مرة لساعات بدعوى عدم التسديد، رغم أن مهلة الدفع لم تنته بعد.

وكان يشفع للمؤسسة، رغم قوة إزعاجها للسلطة وللنظام الحاكم، كون العديد من مكونات وفئات المجتمع تجد ذاتها من خلالها، وهو ما جعل السلطات تهاب إغلاقها وإسكاتها بشكل نهائي، لأن ذلك قد يوقع السلطة في الذي تخاف الوقوع فيه، فآثرت أن تتخذ الضغط والتهديد والتخويف أسلوبا لمحاولة التخفيف مما تعتبره "حدة" و"تهويلا".

وبالتزامن مع ذلك أغلقت وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية أمام المعارضين، والمطالبين برحيل النظام من مختلف المكونات الاجتماعية والحقوقية والسياسية، وهي آلية نجحت من خلالها في جعل وسائل الإعلام الخاصة - رغم قلتها مقارنة بنظيراتها الممجدة للسلطة - لا تقدم إلا الرأي المعارض للسلطة، لأن الرأي الآخر محظور عليها.

أكثر من ذلك عمدت السلطات إلى اعتقال بعض صحفيي المؤسسة الذين لدى بعضهم اهتمامات حقوقية وسياسية معارضة للنظام القائم، ووجهت لهم تهما مختلفة في محاولة للضغط من أجل الانصياع لسقف الحرية الذي تريد أن تكون هي من يحدده.

أساليب مألوفة في العالم الثالث، حيث الأنظمة تخيفها الحريات وانتشار الوعي، لأن ذلك لا يخدم بقاءها واستمرار ممارساتها، فتلجأ بهذا إلى استهداف كل من يشكل خطرا على ذلك.

وهو جزء من حالة عامة شهدتها ويشهدها عدد من دول المنطقة العربية والإفريقية، التي يراد فيها للحكام أن يتصرفوا وفقا لهواهم، وللمحكومين أن يظلوا راضخين.

 

 

More Articles

Challenges of Unequal Data Flow on Southern Narratives

The digital revolution has widened the gap between the Global South and the North. Beyond theories that attribute this disparity to the North's technological dominance, the article explores how national and local policies in the South shape and influence its narratives.

Hassan Obeid
Hassan Obeid Published on: 14 Jan, 2025
Decolonise How? Humanitarian Journalism is No Ordinary Journalism

Unlike most journalism, which involves explaining societies to themselves, war reporting and foreign correspondence explain the suffering of exoticised communities to audiences back home, often within a context of profound ignorance about these othered places. Humanitarian journalism seeks to counter this with empathetic storytelling that amplifies local voices and prioritises ethical representation.

Patrick Gathara
Patrick Gathara Published on: 8 Jan, 2025
Mastering Journalistic Storytelling: The Power of Media Practices

Narration in journalism thrives when it's grounded in fieldwork and direct engagement with the story. Its primary goal is to evoke impact and empathy, centering on the human experience. However, the Arab press has often shifted this focus, favoring office-based reporting over firsthand accounts, resulting in narratives that lack genuine substance.

AJR logo
Zainab Tarhini Published on: 7 Jan, 2025
I Resigned from CNN Over its Pro-Israel Bias

  Developing as a young journalist without jeopardizing your morals has become incredibly difficult.

Ana Maria Monjardino
Ana Maria Monjardino Published on: 2 Jan, 2025
Digital Colonialism: The Global South Facing Closed Screens

After the independence of the Maghreb countries, the old resistance fighters used to say that "colonialism left through the door only to return through the window," and now it is returning in new forms of dominance through the window of digital colonialism. This control is evident in the acquisition of major technological and media companies, while the South is still looking for an alternative.

Ahmad Radwan
Ahmad Radwan Published on: 31 Dec, 2024
Independent Syrian Journalism: From Revolution to Assad's Fall

Independent Syrian journalism played a pivotal role in exposing regime corruption and documenting war crimes during the 13-year revolution, despite immense risks to journalists, including imprisonment, assassination, and exile. Operating from abroad, these journalists pioneered investigative and open-source reporting, preserving evidence, and shaping narratives that challenged the Assad regime's propaganda.

Ahmad Haj Hamdo
Ahmad Haj Hamdo Published on: 17 Dec, 2024
Bolivia’s Mines and Radio: A Voice of the Global South Against Hegemony

Miners' radio stations in the heart of Bolivia's mining communities, played a crucial role in shaping communication within mining communities, contributing to social and political movements. These stations intersected with anarchist theatre, educational initiatives, and alternative media, addressing labour rights, minority groups, and imperialism.

Khaldoun Shami PhD
Khaldoun H. Shami Published on: 16 Dec, 2024
How Does Misinformation Undermine Public Trust in Journalism?

Reports reveal a growing loss of trust in the media, driven by the extent of misinformation that undermines professional journalism's ability to influence public discourse. The platforms of misinformation, now supported by states and private entities during conflicts and wars, threaten to strip the profession of its core roles of accountability and oversight.

Muhammad Khamaiseh 1
Muhammad Khamaiseh Published on: 13 Nov, 2024
Challenging the Narrative: Jeremy Scahill on the Need for Adversarial Journalism

Investigative journalist Jeremy Scahill calls for a revival of "adversarial journalism" to reinstate crucial professional and humanitarian values in mainstream Western media, especially regarding the coverage of the Gaza genocide.

Mohammad Zeidan
Mohammad Zeidan Published on: 10 Nov, 2024
Freedom of the Press in Jordan and Unconstitutional Interpretations

Since the approval of the Cybercrime Law in Jordan, freedom of opinion and expression has entered a troubling phase marked by the arrest of journalists and restrictions on media. Musab Shawabkeh offers a constitutional reading based on interpretations and rulings that uphold freedom of expression in a context where the country needs diverse opinions in the face of the Israeli ultra right wing politics.

Musab Shawabkeh
Musab Al Shawabkeh Published on: 8 Nov, 2024
Voting in a Time of Genocide

The upcoming U.S. presidential election occurs against the backdrop of the ongoing genocide in Gaza, with AJ Plus prioritising marginalised voices and critically analysing Western mainstream media narratives while highlighting the undemocratic aspects of the U.S. electoral system.

Tony Karon Published on: 22 Oct, 2024
Journalists Should Not Embrace the Artificial Intelligence Hype

What factors should journalists take into account while discussing the use of AI in the media?

Jorge Sagastume Muralles
Jorge Sagastume Published on: 16 Oct, 2024
A Year of Genocide and Bias: Western Media's Whitewashing of Israel's Ongoing War on Gaza

Major Western media outlets continue to prove that they are a party in the war of narratives, siding with the Israeli occupation. The article explains how these major Western media outlets are still refining their techniques of bias in favor of the occupation, even a year after the genocide in Palestine.

Mohammad Zeidan
Mohammad Zeidan Published on: 9 Oct, 2024
A Half-Truth is a Full Lie

Misinformation is rampant in modern conflicts, worsened by the internet and social media, where false news spreads easily. While news agencies aim to provide unbiased, fact-based reporting, their focus on brevity and hard facts often lacks the necessary context, leaving the public vulnerable to manipulation and unable to fully grasp the complexities of these issues.

Ilya
Ilya U Topper Published on: 30 Sep, 2024
Testimonies of the First Witness of the Sabra & Shatila Massacre

The Sabra and Shatila massacre in 1982 saw over 3,000 unarmed Palestinian refugees brutally killed by Phalangist militias under the facilitation of Israeli forces. As the first journalist to enter the camps, Japanese journalist Ryuichi Hirokawa provides a harrowing first-hand account of the atrocity amid a media blackout. His testimony highlights the power of bearing witness to a war crime and contrasts the past Israeli public outcry with today’s silence over the ongoing genocide in Gaza.

Mei Shigenobu مي شيغينوبو
Mei Shigenobu Published on: 18 Sep, 2024
Anonymous Sources in the New York Times... Covering the War with One Eye

The use of anonymous sources in journalism is considered, within professional and ethical standards, a “last option” for journalists. However, analysis of New York Times data reveals a persistent pattern in the use of “anonymity” to support specific narratives, especially Israeli narratives.

Mohammad Zeidan
Mohammad Zeidan Published on: 8 Sep, 2024
India and Pakistan; Journalists building Bridges for Understanding

Amid decades of tension, journalists from India and Pakistan are uniting to combat hostile narratives and highlight shared challenges. Through collaboration, they’re fostering understanding on pressing issues like climate change and healthcare, proving that empathy can transcend borders. Discover how initiatives like the Journalists' Exchange Programme are paving the way for peace journalism and a more nuanced narrative.

Safina
Safina Nabi Published on: 12 Aug, 2024
From TV Screens to YouTube: The Rise of Exiled Journalists in Pakistan

Pakistani journalists are leveraging YouTube to overcome censorship, connecting with global audiences, and redefining independent reporting in their homeland.

Anam Hussain
Anam Hussain Published on: 28 Jul, 2024
How AI Synthesised Media Shapes Voter Perception: India's Case in Point

The recent Indian elections witnessed the unprecedented use of generative AI, leading to a surge in misinformation and deepfakes. Political parties leveraged AI to create digital avatars of deceased leaders, Bollywood actors

Suvrat Arora
Suvrat Arora Published on: 12 Jun, 2024
The Rise of Podcasting: How Digital Audio Is Revolutionising Journalism

In this age of digital transformation and media convergence, podcasts stand out as a testament to the enduring power of journalism—a medium that transcends borders, sparks conversations, and brings the world closer together.

Anam Hussain
Anam Hussain Published on: 6 Jun, 2024
Under Fire: The Perilous Reality for Journalists in Gaza's War Zone

Journalists lack safety equipment and legal protection, highlighting the challenges faced by journalists in Gaza. While Israel denies responsibility for targeting journalists, the lack of international intervention leaves journalists in Gaza exposed to daily danger.

Linda Shalash
Linda Shalash Published on: 9 May, 2024
Your Words Are Your Weapon — You Are a Soldier in a Propaganda War

Narrative warfare and the role of journalists in it is immense; the context of the conflict, the battleground has shifted to the realm of narratives, where journalists play a decisive role in shaping the narrative.

Ilya
Ilya U Topper Published on: 21 Apr, 2024
The Privilege and Burden of Conflict Reporting in Nigeria: Navigating the Emotional Toll

The internal struggle and moral dilemmas faced by a conflict reporter, as they grapple with the overwhelming nature of the tragedies they witness and the sense of helplessness in the face of such immense suffering. It ultimately underscores the vital role of conflict journalism in preserving historical memory and giving a voice to the voiceless.

Hauwa Shaffii Nuhu
Hauwa Shaffii Nuhu Published on: 17 Apr, 2024
Journalism in chains in Cameroon

Investigative journalists in Cameroon sometimes use treacherous means to navigate the numerous challenges that hamper the practice of their profession: the absence of the Freedom of Information Act, the criminalisation of press offenses, and the scare of the overly-broad anti-terrorism law.

Nalova Akua
Nalova Akua Published on: 12 Apr, 2024