"يحيا سعادة الرئيس"

من كتاب: صحفيون خلف أسماء مستعارة 

 

 

 

في بلدي أضحت ممارسة الصحافة مرتبطة في الذهنية العامة بممارسة التسول؛ فالصحافة لدى الرأي العام هنا "تسول" والصحفي "متسول"، حاله حال من يقف على الرصيف يسأل المارة، وإن اختلفت وسيلة التسول وآليته.

واقع أفرزته حالة التمييع التي تعيشها مهنة الإعلام في البلاد، والتي تتحمل السلطة مسؤوليتها بالدرجة الأولى، بل إنها ترعى واقع التمييع هذا خدمة لمصالحها.

في سياق كهذا يجد الصحافي المؤمن بمهنة الصحافة ومهنيتها نفسه كـ "القابض على الجمر"، وتجد وسيلة الإعلام الخارجة على هذا المنطق نفسها "تغرد خارج السرب".

هذا الواقع أفرز شيوع ظاهرة "البيع والشراء" و"التأثير" و"الضغط" وغير ذلك، مما قد يكتشفه كل من عمل صحافيا في بلادي. حيث لا مناص من أحد خيارين، مسايرة الواقع، أو العيش على الهامش، وسائل الضغط كثيرة جدا، لكن أرى أن تدخل السلطة السياسية بكل الآليات، يشكل عائقا حقيقيا أمام ممارسة الصحافة، بالمنع من تغطية الأحداث وتجفيف منابع الإشهار، وإنزال غرامات جبائية، ورعونة السياسيين، يسيج عمل الصحافيين، ويصيرون لدى الرأي العام بعد أن تجف منابع الأخبار مجرد "متسولين"، ليس هذا فقط، بل إن السياسيين يلجؤون إلى الضغط الشديد على الصحافيين حينما يثيرون قضايا حساسة مثل "الاسترقاق" و"التفاوت الاجتماعي". 

في مجتمع متعدد الأعراق والشرائح والألسن، تتحول بعض المواضيع إلى تابوهات، لا يخلو تناولها الإعلامي من بعض "المحظورات" مجتمعيا ورسميا.

وهكذا، ففي بلدي بات تناول ملفات حقوقية واجتماعية من قبيل "الاسترقاق" و"التفاوت الاجتماعي" و"تكافؤ الفرص" بين مختلف المكونات، لا يخلو من تكييف التهم للمؤسسة الصحافية، وللصحافي الذي يتناول الموضوع أيضا. 

وهكذا تتحول مجرد تغطية حدث لأصحاب بعض المطالب من مختلف شرائح المجتمع، إلى تهمة بـ "التحريض" و"إثارة الفتنة" و"زعزعة الاستقرار".

وكان مرة أن استضافت المؤسسة الصحافية التي عملت بها على مدى 7 سنوات، أحد الناجين من "تصفية عرقية" تعرض لها بعض عسكريي إحدى شرائح المجتمع عام 1980، وذلك بمناسبة حلول ذكراها.

وما إن تم الإعلان عن الحوار، حتى بدأت الاتصالات ترد من كل الجهات الرسمية الأمنية، والسياسية، وغيرها بهدف إلغاء الموضوع "تجنبا لإثارة الفتنة" على اعتبار أن الموضوع حساس، وأن النبش في أحداث الماضي يثير من المخاوف أكثر مما قد يجلب من المصالح.

وقد طلبت سلطة الصحافة، باعتبار دورها الإشرافي إلغاء الموضوع، أو اطلاعها عليه مسبقا، كي ترى مستوى قابلية خروجه للعلن وللرأي العام.

لكن أيا من ذلك لم يحصل، فلا الإلغاء تقرر ولا إطلاع السلطة على مضمون النقاش حصل، فتم ما كان مقررا مسبقا، وروى الضيف الذي كان شاهدا على تلك الأحداث ما حصل، وكيف استطاع أن ينجو من القتل.

فتحركت التهم من جديد ضد المؤسسة، وأصدرت سلطة الصحافة بيانا طويلا عريضا، تبدي فيه ما تراه من مآخذ على مضمون الحوار، وأعادت فيه ذكر تهم سابقة جاهزة لديها.

غير أن تلك التهم لكثرتها، والإجراءات العقابية والتضييقية على تعددها وتنوعها، لم تعد تثير الانتباه، فالواضح منها أن السلطات تريد إعلاما خاصا بسقف حرية واطئ، ومقيس من طرفها.

وأمام رفض ذلك، تظل العقوبات تطل برأسها من حين لآخر أمام كل تغطية لا تعجب السلطة الحاكمة، أو تناول لحدث آني أو غابر من تاريخ المشهد السياسي أو الاجتماعي أو الحقوقي في البلاد مزعج لها، لكن دون جدوى، فلا هي أغلقت المؤسسة بشكل نهائي، ولا هي أيضا استطاعت تغيير الخط التحريري الذي اختطته لنفسها.

العقوبات التي تفرض أو يهدد بفرضها، يكون سببها في بعض الأحيان تناول قضية تصنف في إطار الدائرة الحساسة بالمجتمع، ويتعلق الأمر بموضوع الشرائحية، الذي يعتبر أحد أهم المستعجلات الوطنية في البلاد، سبيلا إلى ترسيخ فرص التعايش والسلم الأهلي في مجتمع متعدد الشرائح والأعراق.

ويجد الإعلام الخاص في بلدي صعوبة في تناول المواضيع المرتبطة بالشرائحية، والعرقية والحقوقية، فالسلطة تعتبر الإعلام الخاص سببا رئيسيا في حدة التجاذب الحاصل على مستوى الشرائح، والذي يأخذ منحى تصاعديا وتصعيديا في بعض الأحيان، والمنظمات الحقوقية تعتبر الإعلام مرتهنا لأجندات السلطة، ويتغافل عن القضايا الجوهرية، المتعلقة بضرورة "تكافؤ الفرص" بين مختلف الشرائح في مختلف الدوائر الرسمية وغير الرسمية.

بل إن المؤسسات الإعلامية الخاصة تجد نفسها في بعض الأحيان أمام سهام النقد من الطرفين الرسمي والحقوقي، لأنها لم تورد في حواراتها أو تغطياتها من ينحدرون من مختلف شرائح المجتمع، ويصل الأمر أحيانا حد اتهام المؤسسة الإعلامية نفسها على أنها لا تمثل إلا شريحة واحدة، وذلك إذا لم تكن واجهتها تعكس كل الشرائح، وفقا لمنطق المحاصصة.

 

قصة الوزير

 

مكنني عملي كرئيس تحرير بإحدى المؤسسات الإعلامية الخاصة لسبع سنوات، من نسج علاقات واسعة مع الوزراء والسفراء والمديرين وغيرهم، علاقات حرصت على أن تكون قائمة على أصول المهنية، بعيدا عن المنطق الشائع الذي يسيء للمهنة وللمهني.

لكن ذلك لم يمنع من محاولات كسر الحاجز، وأذكر هنا أن أولى المحاولات حصلت معي حينما استقبلت ذات ليلة من عام 2015 اتصالا هاتفيا من وزير سابق للاتصال وصيٍّ على قطاع الإعلام، ليطلب لقائي، وهو ما لفت انتباهي لأن الوقت كان قد تأخر، فحاولت التنصل من اللقاء بهدوء، لكن دون جدوى.

وتحت الإلحاح قبلت اللقاء، كان الوزير يرتدي زيا غير رسمي، ويركب سيارة تحمل لوحة رسمية، التقينا ودار حديث ودي تمهيدي.

بعدها خيرني الوزير بين أن أقبل عرضا ماليا نتفق عليه، مقابل تمرير أجندته وما يمليه عبر وسيلة الإعلام التي أشتغل فيها، معتبرا الأمر عاديا وسريا، وبين أن أغادر وسيلة الإعلام باتجاه أخرى عمومية.

رفضت الخيارين بهدوء واعتذرت للوزير، لكنه استشاط غضبا ورد علي بأسلوب لا يخلو من رعونة، بأن وسيلة الإعلام التي أعمل بها لن تحضر منذ تلك اللحظة نشاطا رسميا، ولن يقبل انتداب أي من صحفييها لدى أي مؤسسة عمومية، ولا لحوار أي مسؤول.

أوضحت للوزير أن هذا السلوك يتنافى مع الشعارات التي ترفعها الدولة، لكنه لن يقودنا إلى رد غير مسؤول أو غير مهني.

فتحدثت مع المسؤولين في المؤسسة بشأن ما حصل، وانتظرنا قليلا لنعرف هل الأمر مجرد تهديد ومحاولة للضغط، أم بالفعل سينفذ الوزير ما توعد به.

وبالفعل "أنجز وزير ما توعد"، وجدت المؤسسة نفسها محاصرة ومستثناة من تغطية أو حضور أي نشاط رسمي مهما كانت طبيعته، فعززت علاقاتها مع مختلف المؤسسات الإعلامية المنافسة، وصارت تأخذ من عندها "المواد الخام" المتعلقة بصور النشاطات الرسمية وتصريحات المسؤولين وتعالجها بطريقة مهنية.

 

الضغط من خلال الإعلانات

 

الإشهار الذي يعد أحد الموارد الرئيسية للمؤسسة الإعلامية هو الآخر في بلدي، يأخذ طابع الضغط على وسيلة الإعلام، فيصبح بمثابة درع وقاية للمؤسسة المعلنة، من خلاله تحاول ضمان عدم تناولها أو تداولها في أي قضية إعلامية.

وكان أن تظاهر ذات مرة عمال إحدى شركات الاتصال في بلادي، واتصلوا بي باعتباري رئيس تحرير لتغطية احتجاجهم المطالب للإدارة بتطبيق اتفاق كانت قد وقعته معهم في وقت سابق.

فبعثت بفريق للتغطية، وغطى الاحتجاج. وبعد انتهاء المهمة اتصل بي أحد مديري الشركة لم يكن لي به سابق معرفة، مطالبا بعدم نشر الخبر على اعتبار أن الشركة متعاقدة مع المؤسسة بشأن إعلانات تجارية. أجبته بأن الإعلان التجاري لا يمنع من نشر خبر عن الشركة، بل إن إدارتي "الإعلان" و"الأخبار" منفصلتان، فما كان منه إلا أن هدد بفسخ عقد الإعلان التجاري إذا تم النشر، وبالفعل نشر الخبر وفسخ العقد من طرف واحد.

 

يوم طردني الرئيس

 

في سياق مسلسل التضييق على الإعلام والإعلاميين، الخارجين على صف "التطبيل" لكل ما هو رسمي، طردني رئيس بلدي ذات مرة.

كان أن علمت عبر مصادري أنه سيحضر نشاطا رسميا في مكان ما بالعاصمة فقصدت المكان، ووجدت الكثير من الإعلاميين هناك، وبعد انتهاء النشاط الرسمي علمت أن الرئيس سيقوم بجولة في المنطقة، فكنت وفريقي والإعلام الرسمي الوحيدين الذين تقفينا أثره في تلك الجولة، وما إن وصل المكان المقصود حتى وصلناه، فلما أنهى الجولة قرر الإدلاء بتصريح، لكنه منعني من ذلك قائلا إنه خاص بالإعلام الرسمي فحسب.

وقد أخبرت لاحقا من طرف أحدهم أن السبب هو كوني الصحفي الوحيد الذي كشف عن خطأ تصويته في انتخابات سابقة، يومها تقرر منعي والمؤسسة التي أعمل بها من أية تغطية لحدث رسمي.

وبالفعل حصل ذلك في انتخابات ماضية، يومها أخطأ الرئيس في التصويت وطلب من رئيس لجنة الانتخابات تغيير إحدى البطاقات الأربع ففعل، فنشرت الخبر لأنني كنت شاهدا عليه.

 

تدخلات سلطة الصحافة

 

لا تفتأ السلطات الرسمية في بلدي تتخذ أساليب عدة للضغط على وسائل الإعلام الخاصة، للحد من تأثيرها ودورها في نقل جانب آخر من ممارساتها لا ينقله الإعلام العمومي عادة.

في هذا السياق زار رئيس الدولة إحدى مدن الداخل النائية، وفيما استقبله بعض المواطنين برفع الصور والأعلام مرحبين بقدومه، استقبله آخرون ببراميل المياه الفارغة تعبيرا عن معاناتهم مع العطش، وردد آخرون شعارات مناوئة للزيارة، بل إن بعضهم رمى موكب الرئيس بالحجارة.

وكان التلفزيون الرسمي للبلاد ينقل مجريات الزيارة وأجواء الاستقبال، ليقطع بثه المباشر، مباشرة بعد أن انبرى من ضمن المستقبلين من يرفض الزيارة.

على إثر الحادثة الموثقة اتصل بالمؤسسة رئيس سلطة الصحافة، وهو منصب رسمي يتولى رئيس الدولة تعيين صاحبه، ويؤدي اليمين "على أن يؤدي مهامه على أكمل وجه"، طلب الرئيس في اتصاله من المؤسسة عدم نشر الجانب الآخر من الزيارة، وهو الجانب المتعلق بالمطالب الاجتماعية التي يناهض أصحابها قدوم الرئيس إليهم، ما لم يكن مصحوبا بما ينهي معاناتهم.

وقد رفضت المؤسسة الطلب بقوة، معتبرة أنه يتنافى مع دور سلطة الصحافة ورئيس السلطة، الذي يفترض أن يكون راعيا للحرية الإعلامية والتعددية الصحفية.

تم نشر ما لا تريد السلطة نشره، وإلى جانبه نشر الوجه "المضيء" للزيارة ضمن تغطية متوازنة، لا تغبط المتظاهرين حقهم ولا تغيب حق المرحبين بـ "مقدم" الرئيس.

ولأن ذلك عكس ما أرادت السلطات، أصدرت سلطة الصحافة بيانا تستنكر فيه ما حصل، ولوحت باتخاذ عقوبة بحق المؤسسة، تمثلت لاحقا في توقيف جزئي لأحد أهم برامجها.

وقد أثار القرار ردود فعل رافضة وجلب مساندة واسعة للمؤسسة من طرف الفاعلين في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها.

ومن حيث لا تشعر سلطة الصحافة ورئيسها، خرجت المؤسسة من العقوبة أصلب عودا، وأكثر جماهيرية، وهو وقود ساعدها كثيرا في مواصلة رفض الرضوخ لمنطق الإملاء، وضرورة تمجيد السلطة والرئيس. 

 

 

1

 

 

تتالت بيانات السلطة وعقوباتها في كل مرة لا يتم فيها الانصياع لأوامرها تارة، ولطلباتها تارة أخرى، وظلت المؤسسة حريصة على التمسك بخطها رغم المصاعب والإكراهات الجمة التي تتعرض لها.

وجاء موسم الانتخابات، حيث كل المؤسسات الرسمية وكل العاملين بالوظيفة العمومية تتنافس ويتنافسون على تأييد الرئيس ومشروعه، وحشد الدعم والتعبئة من أجل فوزه بولاية رئاسية جديدة.

لم يخرج رئيس سلطة الصحافة عن الإطار العام، حيث إن مثل هذه المناسبات إما أن تكون "رافعة" للموظفين فيترقون في سلم التوظيف عبر الترقيات والتعيينات، أو أن تكون "خافضة" لهم من خلال الإقالات، أو النزول بهم إلى أرذل سلم التراتبية الوظيفية.

في مثل هذا الجو تبنى رئيس سلطة الصحافة بعض المبادرات الداعمة والمؤيدة لرئيس الدولة، واستغل منصبه من أجل الحصول على أكبر تغطية إعلامية، فراح يطوف المؤسسات الإعلامية مطالبا بالنشر والبث.

وكان أن رفضت له المؤسسة ـ حيث أشتغل ـ نشر مادته، فدعا لإدراجها ضمن "الإعلان المعوض" فرفض له ذلك أيضا، وكان من نتائج الرفض هذا أن صنفت المؤسسة الأخيرة ترتيبا في أدنى مستوياته، من حيث حجم التغطية خلال الحملة الدعائية والاقتراع.

وفاز رئيس الدولة كما كان متوقعا، حيث صناديق الاقتراع لا تترك لها الكلمة غالبا في بلدان العالم الثالث، والانتخابات ليست بذلك المستوى من الشفافية.

ومن إيجابيات فوز الرئيس أن جدد لرئيس سلطة الصحافة للبقاء ولاية أخرى على رأس السلطة، ورُقيَ البعض، وتقلد الآخرون مناصب جديدة، وأزيح البعض لتزداد الخطوط الحمراء اتساعا.

استمر التضييق وأتى الدور هذه المرة على مؤسسة إعلامية أخرى خاصة، حيث تم توقيف أحد أشهر برامج إحدى الإذاعات الحرة، رأت فيه السلطة برنامجا "غير مهني" لأن المجال يفتح فيه أمام مناهضي ومؤيدي السياسات العامة للحكومة معا.

لاحقا اهتدت السلطات إلى أسلوب تضييقي أكثر "نعومة"، فصارت كلما تم رفض طلب لها، تلجأ إلى تعبئة هيئة البث التلفزي والإذاعي، أو سلطة الضرائب، فتجد المؤسسات الخاصة نفسها أمام الإغلاق بفعل تراكم حجم المديونية.

أسلوب تحولت إزاءه الدولة إلى خصم للإعلام الخاص، الذي تريد من وجوده أن يبرز بمظهر احترام الحرية والتعددية، وفي الوقت نفسه أن ينساق مع الإعلام العمومي في أحاديته، فيغيب بذلك أصحاب الرأي الآخر ومنتقدو أداء السلطات، وأصحاب المظالم والمطالب، الذين تجد السلطات في الغالب نفسها محرجة أمامهم، ولا تجد من سبيل لإسكاتهم سوى القمع وإغلاق منابر الإعلام أمامهم.

 

رياح الربيع

 

ألهمت ثورات الربيع العربي التي كان مهدها بتونس باقي بلدان منطقتنا على كسر جدار الصمت، والخروج ضد حكامها وسياستهم، ورغم تباين مستويات نجاح أو فشل الثورات هنا وهناك، إلا أنها مكنت الشعوب من القطيعة مع الخوف، والاستكانة للواقع، ولعبت في ذلك وسائل الإعلام ـ الافتراضي منها والواقعي - دورا كبيرا.

وفي بلدي الذي لم يكن استثناء من حالة الرفض العامة تلك، صنفت السلطات كل احتجاج ضدها "فتنة" و"عنفا" و"استيرادا لأفكار خارجية".

وطال التصنيف وسائل الإعلام الخاصة، خصوصا منها الرافض للسير في فلك الإعلام الرسمي وما تمليه السلطات.

وهكذا اتهمت وسيلة الإعلام حيث أعمل بأنها "مؤسسة لبث الفتنة" و"التحريض على العنف" و"استيراد فكر الثورات العربية"، ووجه لها ذلك رسميا من طرف السلطات العمومية، والناطق باسم الحكومة.

وكان السبب الرئيسي لذلك أنها تنقل الاحتجاجات وأصداءها، وتمنح الفرصة لأصحابها للحديث، بنفس الحيز الذي تمنحه للطرف الآخر المدافع عن السلطات العمومية.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فحسب، بل إن سلطة الصحافة أصدرت في أكثر من مرة بيانات تؤكد فيها التهم الرسمية لوسيلة الإعلام والعاملين بها، وتصف ما ينشر بأنه "مخالف للمهنية"، والواقع أنه "مخالف لهوى السلطات" فحسب.

وقد أطلقت حملة "شيطنة" كبرى ضد المؤسسة، اتخذت طابعا شموليا، واصلت خلاله السلطات كيل اتهاماتها ومنع المؤسسة من تغطية أي نشاط رسمي، وتم حظر الحديث إليها من طرف كل من يحمل صفة رسمية، إضافة إلى إطلاق حملة موازية على وسائل التواصل الاجتماعي.

لكن كل ذلك لم يثن المؤسسة عن المواصلة، رغم اتساع مستوى إحكام تضييق الخناق، فواصلت السير على نهج ما تراه مناسبا.

وقد سعت السلطات الرسمية جاهدة، سواء من خلال رئيس سلطة الصحافة أو من خلال وزير الاتصال، وهو الناطق باسم الحكومة، إلى تغيير منحى اهتمام المؤسسة وخطها التحريري، عبر عقد عدة جلسات مع إدارتها تحث فيها على ضرورة توخي الحذر من الانجراف نحو ما آلت إليه أوضاع بلدان أخرى، محملة وسائل الإعلام كامل المسؤولية في ذلك.

وقد أبدت السلطات انزعاجها من المصطلحات التحريرية المعتمدة لدى المؤسسة، فتسمية الرئيس ونسبته إلى الدولة تعتبرها "منافية لقيم المواطنة"، وتصنفها في دائرة "التحريض"، أما من يستخدم صفة "رئيس الجمهورية" فهو "مسالم" في نظرها و"مهني".

وشمل "القاموس المزعج" عديد العبارات والجمل الأخرى، فوصف فض اعتصام بالقوة "تحريضي"، و"الإصابات بجروح متفاوتة الخطورة" يعتبر "دعوة للعنف" و"القوات المدججة بالسلاح" تصنف "دعوة للحرب".

وهكذا وجدت المؤسسة نفسها أمام مساعي السلطات الرسمية إلى فرض "خط تحرير على مقاسها" يكون منزوع نقل الوقائع والأحداث، وما يستدعيه ذلك من استخدام مصطلحات حقلية معينة.

ومن أجل تحقيق ذلك كانت تضغط من ناحية أخرى على زر إثقال كاهل المؤسسة بالجبايات، حتى إن إدارة الضرائب أغلقت المؤسسة ذات مرة لساعات بدعوى عدم التسديد، رغم أن مهلة الدفع لم تنته بعد.

وكان يشفع للمؤسسة، رغم قوة إزعاجها للسلطة وللنظام الحاكم، كون العديد من مكونات وفئات المجتمع تجد ذاتها من خلالها، وهو ما جعل السلطات تهاب إغلاقها وإسكاتها بشكل نهائي، لأن ذلك قد يوقع السلطة في الذي تخاف الوقوع فيه، فآثرت أن تتخذ الضغط والتهديد والتخويف أسلوبا لمحاولة التخفيف مما تعتبره "حدة" و"تهويلا".

وبالتزامن مع ذلك أغلقت وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية أمام المعارضين، والمطالبين برحيل النظام من مختلف المكونات الاجتماعية والحقوقية والسياسية، وهي آلية نجحت من خلالها في جعل وسائل الإعلام الخاصة - رغم قلتها مقارنة بنظيراتها الممجدة للسلطة - لا تقدم إلا الرأي المعارض للسلطة، لأن الرأي الآخر محظور عليها.

أكثر من ذلك عمدت السلطات إلى اعتقال بعض صحفيي المؤسسة الذين لدى بعضهم اهتمامات حقوقية وسياسية معارضة للنظام القائم، ووجهت لهم تهما مختلفة في محاولة للضغط من أجل الانصياع لسقف الحرية الذي تريد أن تكون هي من يحدده.

أساليب مألوفة في العالم الثالث، حيث الأنظمة تخيفها الحريات وانتشار الوعي، لأن ذلك لا يخدم بقاءها واستمرار ممارساتها، فتلجأ بهذا إلى استهداف كل من يشكل خطرا على ذلك.

وهو جزء من حالة عامة شهدتها ويشهدها عدد من دول المنطقة العربية والإفريقية، التي يراد فيها للحكام أن يتصرفوا وفقا لهواهم، وللمحكومين أن يظلوا راضخين.

 

 

المزيد من المقالات

حرية الصحافة بالأردن والقراءة غير الدستورية

منذ إقرار قانون الجرائم الإلكترونية بالأردن، دخلت حرية الرأي والتعبير مرحلة مقلقة موسومة باعتقال الصحفيين والتضييق على وسائل الإعلام. يقدم مصعب شوابكة قراءة دستورية مستندة على اجتهادات وأحكام تنتصر لحرية التعبير في ظرفية تحتاج فيها البلاد لتنوع الآراء في مواجهة اليمين الإسرائيلي.

مصعب الشوابكة نشرت في: 8 سبتمبر, 2024
المصادر المجهّلة في نيويورك تايمز.. تغطية الحرب بعين واحدة

ينظر إلى توظيف المصادر المجهلة ضمن المعايير المهنية والأخلاقية بأنها "الخيار الأخير" للصحفيين، لكن تحليل بيانات لصحيفة نيويورك تايمز يظهر نمطا ثابتا يوظف "التجهيل" لخدمة سرديات معينة خاصة الإسرائيلية.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 5 سبتمبر, 2024
إرهاق الأخبار وتجنبها.. ما الذي عكر مزاج جمهور وسائل الإعلام؟

أبرزت دراسة  أجريت على 12 ألف بالغ أمريكي، أن الثلثين منهم يعترفون بأنهم "منهكون" بسبب الكم الهائل من الأخبار التي تقدم لهم. لماذا يشعر الجمهور بالإرهاق من الأخبار؟ وهل أصبح يتجنبها وتؤثر عليه نفسيا؟ وكيف يمكن لوسائل الإعلام أن تستعيد الثقة في جمهورها؟

عثمان كباشي نشرت في: 1 سبتمبر, 2024
كليات الصحافة في الصومال.. معركة الأنفاس الأخيرة

لا تزال كليات الصحافة في الصومال تسير بخطى بطيئة جدا متأثرة بسياق سياسي مضطرب. أكاديمية الصومال للإعلام الرقمي تحاول بشراكة مع الجامعات بناء صحفيي المستقبل.

الشافعي أبتدون نشرت في: 27 أغسطس, 2024
كيف تستفيد الصحافة من أدوات العلوم الاجتماعية؟

حينما سئل عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو عن رأيه في مساهمة الضواحي في الانتخابات، أجاب أنه لا يمكن اختصار عقود كاملة من الاستعمار والمشاكل المعقدة في 10 دقائق. تظهر قيمة العلوم الاجتماعية في إسناد الصحافة حين تعالج قضايا المجتمع والسلطة والهوية في سبيل صحافة أكثر جودة.

رحاب ظاهري نشرت في: 21 أغسطس, 2024
هذه تجربتي في تعلم الصحافة في الجامعة الجزائرية

تقدم فاطمة الزهراء زايدي في هذه الورقة تجربتها في تعلم الصحافة في الجامعة الجزائرية. صعوبة الولوج إلى التدريب، عتاقة المناهج الدراسية، أساليب التلقين التلقيدية، والتوظيف بـ "الواسطة" يفرخ "جيشا" من الصحفيين يواجهون البطالة.

فاطمة الزهراء الزايدي نشرت في: 11 أغسطس, 2024
البودكاست في الصحافة الرياضية.. الحدود بين التلقائية والشعبوية

في مساحة تتخلّلها إضاءة خافتة في أغلب الأحيان، بينما الصمت الذي يوحي به المكان تُكسِّره أصوات تحمل نبرة منخفضة، يجلس شخصان أو أكثر ليتبادلا أطراف الحديث، يجولان بين الماض

أيوب رفيق نشرت في: 4 أغسطس, 2024
نظرة على تقرير رويترز للأخبار الرقمية 2024

يتحدث التقرير عن استمرار الأزمة التي تعانيها الصحافة الرقمية عالميا، وهي تحاول التكيّف مع التغييرات المتواصلة التي تفرضها المنصات، وهي تغييرات تتقصد عموما تهميش الأخبار والمحتوى السياسي لصالح المحتوى الترفيهي، ومنح الأولوية في بنيتها الخوارزمية للمحتوى المرئي (الفيديو تحديدا) على حساب المحتوى المكتوب.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 21 يوليو, 2024
في الحرب على غزة.. كيف تحكي قصة إنسانية؟

بعد تسعة أشهر من حرب الإبادة الجماعية على فلسطين، كيف يمكن أن يحكي الصحفيون القصص الإنسانية؟ وما القصص التي ينبغي التركيز عليها؟ وهل تؤدي التغطية اليومية والمستمرة لتطورات الحرب إلى "التطبيع مع الموت"؟

يوسف فارس نشرت في: 17 يوليو, 2024
حرية الصحافة في الأردن بين رقابة السلطة والرقابة الذاتية

رغم التقدم الحاصل على مؤشر منظمة "مراسلون بلا حدود" لحرية الصحافة، يعيش الصحفيون الأردنيون أياما صعبة بعد حملة تضييقات واعتقالات طالت منتقدين للتطبيع أو بسبب مقالات صحفية. ترصد الزميلة هدى أبو هاشم في هذا المقال واقع حرية التعبير في ظل انتقادات حادة لقانون الجرائم الإلكترونية.

هدى أبو هاشم نشرت في: 12 يونيو, 2024
الاستشراق والإمبريالية وجذور التحيّز في التغطية الغربية لفلسطين

تقترن تحيزات وسائل الإعلام الغربية الكبرى ودفاعها عن السردية الإسرائيلية بالاستشراق والعنصرية والإمبريالية، بما يضمن مصالح النخب السياسية والاقتصادية الحاكمة في الغرب، بيد أنّها تواجه تحديًا من الحركات العالمية الساعية لإبراز حقائق الصراع، والإعراب عن التضامن مع الفلسطينيين.

جوزيف ضاهر نشرت في: 9 يونيو, 2024
"صحافة الهجرة" في فرنسا: المهاجر بوصفه "مُشكِلًا"

كشفت المناقشات بشأن مشروع قانون الهجرة الجديد في فرنسا، عن الاستقطاب القوي حول قضايا الهجرة في البلاد، وهو جدل يمتد إلى بلدان أوروبية أخرى، ولا سيما أن القارة على أبواب الحملة الانتخابية الأوروبية بعد إقرار ميثاق الهجرة. يأتي ذلك في سياق تهيمن عليه الخطابات والمواقف المعادية للهجرة، في ظل صعود سياسي وشعبي أيديولوجي لليمين المتشدد في كل مكان تقريبا.

أحمد نظيف نشرت في: 5 يونيو, 2024
أنس الشريف.. "أنا صاحب قضية قبل أن أكون صحفيا"

من توثيق جرائم الاحتلال على المنصات الاجتماعية إلى تغطية حرب الإبادة الجماعية على قناة الجزيرة، كان الصحفي أنس الشريف، يتحدى الظروف الميدانية الصعبة، وعدسات القناصين. فقد والده وعددا من أحبائه لكنه آثر أن ينقل "رواية الفلسطيني إلى العالم". في هذه المقابلة نتعرف على وجه وملامح صحفي فلسطيني مجرد من الحماية ومؤمن بأنّ "التغطية مستمرة".

أنس الشريف نشرت في: 3 يونيو, 2024
كيف نفهم تصدّر موريتانيا ترتيب حريّات الصحافة عربياً وأفريقياً؟

تأرجحت موريتانيا على هذا المؤشر كثيرا، وخصوصا خلال العقدين الأخيرين، من التقدم للاقتراب من منافسة الدول ذات التصنيف الجيد، إلى ارتكاس إلى درك الدول الأدنى تصنيفاً على مؤشر الحريات، فكيف نفهم هذا الصعود اليوم؟

 أحمد محمد المصطفى ولد الندى
أحمد محمد المصطفى نشرت في: 8 مايو, 2024
تدريس طلبة الصحافة.. الحرية قبل التقنية

ثمة مفهوم يكاد يكون خاطئا حول تحديث مناهج تدريس الصحافة، بحصره في امتلاك المهارات التقنية، بينما يقتضي تخريج طالب صحافة تعليمه حرية الرأي والدفاع عن حق المجتمع في البناء الديمقراطي وممارسة دوره في الرقابة والمساءلة.

أفنان عوينات نشرت في: 29 أبريل, 2024
الصحافة و"بيادق" البروباغندا

في سياق سيادة البروباغندا وحرب السرديات، يصبح موضوع تغطية حرب الإبادة الجماعية في فلسطين صعبا، لكن الصحفي الإسباني إيليا توبر، خاض تجربة زيارة فلسطين أثناء الحرب ليخرج بخلاصته الأساسية: الأكثر من دموية الحرب هو الشعور بالقنوط وانعدام الأمل، قد يصل أحيانًا إلى العبث.

Ilya U. Topper
إيليا توبر Ilya U. Topper نشرت في: 9 أبريل, 2024
الخلفية المعرفية في العلوم الإنسانية والاجتماعية وعلاقتها بزوايا المعالجة الصحفية

في عالم أصبحت فيه القضايا الإنسانية أكثر تعقيدا، كيف يمكن للصحفي أن ينمي قدرته على تحديد زوايا معالجة عميقة بتوظيف خلفيته في العلوم الاجتماعية؟ وماهي أبرز الأدوات التي يمكن أن يقترضها الصحفي من هذا الحقل وما حدود هذا التوظيف؟

سعيد الحاجي نشرت في: 20 مارس, 2024
وائل الدحدوح.. أيوب فلسطين

يمكن لقصة وائل الدحدوح أن تكثف مأساة الإنسان الفلسطيني مع الاحتلال، ويمكن أن تختصر، أيضا، مأساة الصحفي الفلسطيني الباحث عن الحقيقة وسط ركام الأشلاء والضحايا.. قتلت عائلته بـ "التقسيط"، لكنه ظل صامدا راضيا بقدر الله، وبقدر المهنة الذي أعاده إلى الشاشة بعد ساعتين فقط من اغتيال عائلته. وليد العمري يحكي قصة "أيوب فلسطين".

وليد العمري نشرت في: 4 مارس, 2024
الإدانة المستحيلة للاحتلال: في نقد «صحافة لوم الضحايا»

تعرضت القيم الديمقراطية التي انبنى عليها الإعلام الغربي إلى "هزة" كبرى في حرب غزة، لتتحول من أداة توثيق لجرائم الحرب، إلى جهاز دعائي يلقي اللوم على الضحايا لتبرئة إسرائيل. ما هي أسس هذا "التكتيك"؟

أحمد نظيف نشرت في: 15 فبراير, 2024
قرار محكمة العدل الدولية.. فرصة لتعزيز انفتاح الصحافة الغربية على مساءلة إسرائيل؟

هل يمكن أن تعيد قرارات محكمة العدل الدولية الاعتبار لإعادة النظر في المقاربة الصحفية التي تصر عليها وسائل إعلام غربية في تغطيتها للحرب الإسرائيلية على فلسطين؟

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 31 يناير, 2024
عن جذور التغطية الصحفية الغربية المنحازة للسردية الإسرائيلية

تقتضي القراءة التحليلية لتغطية الصحافة الغربية لحرب الاحتلال الإسرائيلي على فلسطين، وضعها في سياقها التاريخي، حيث أصبحت الصحافة متماهية مع خطاب النخب الحاكمة المؤيدة للحرب.

أسامة الرشيدي نشرت في: 17 يناير, 2024
أفكار حول المناهج الدراسية لكليات الصحافة في الشرق الأوسط وحول العالم

لا ينبغي لكليات الصحافة أن تبقى معزولة عن محيطها أو تتجرد من قيمها الأساسية. التعليم الأكاديمي يبدو مهما جدا للطلبة، لكن دون فهم روح الصحافة وقدرتها على التغيير والبناء الديمقراطي، ستبقى برامج الجامعات مجرد "تكوين تقني".

كريغ لاماي نشرت في: 31 ديسمبر, 2023
لماذا يقلب "الرأسمال" الحقائق في الإعلام الفرنسي حول حرب غزة؟

التحالف بين الأيديولوجيا والرأسمال، يمكن أن يكون التفسير الأبرز لانحياز جزء كبير من الصحافة الفرنسية إلى الرواية الإسرائيلية. ما أسباب هذا الانحياز؟ وكيف تواجه "ماكنة" منظمة الأصوات المدافعة عن سردية بديلة؟

نزار الفراوي نشرت في: 29 نوفمبر, 2023
السياق الأوسع للغة اللاإنسانية في وسائل إعلام الاحتلال الإسرائيلي في حرب غزة

من قاموس الاستعمار تنهل غالبية وسائل الإعلام الإسرائيلية خطابها الساعي إلى تجريد الفلسطينيين من صفاتهم الإنسانية ليشكل غطاء لجيش الاحتلال لتبرير جرائم الحرب. من هنا تأتي أهمية مساءلة الصحافة لهذا الخطاب ومواجهته.

شيماء العيسائي نشرت في: 26 نوفمبر, 2023