"يحيا سعادة الرئيس"

من كتاب: صحفيون خلف أسماء مستعارة 

 

 

 

في بلدي أضحت ممارسة الصحافة مرتبطة في الذهنية العامة بممارسة التسول؛ فالصحافة لدى الرأي العام هنا "تسول" والصحفي "متسول"، حاله حال من يقف على الرصيف يسأل المارة، وإن اختلفت وسيلة التسول وآليته.

واقع أفرزته حالة التمييع التي تعيشها مهنة الإعلام في البلاد، والتي تتحمل السلطة مسؤوليتها بالدرجة الأولى، بل إنها ترعى واقع التمييع هذا خدمة لمصالحها.

في سياق كهذا يجد الصحافي المؤمن بمهنة الصحافة ومهنيتها نفسه كـ "القابض على الجمر"، وتجد وسيلة الإعلام الخارجة على هذا المنطق نفسها "تغرد خارج السرب".

هذا الواقع أفرز شيوع ظاهرة "البيع والشراء" و"التأثير" و"الضغط" وغير ذلك، مما قد يكتشفه كل من عمل صحافيا في بلادي. حيث لا مناص من أحد خيارين، مسايرة الواقع، أو العيش على الهامش، وسائل الضغط كثيرة جدا، لكن أرى أن تدخل السلطة السياسية بكل الآليات، يشكل عائقا حقيقيا أمام ممارسة الصحافة، بالمنع من تغطية الأحداث وتجفيف منابع الإشهار، وإنزال غرامات جبائية، ورعونة السياسيين، يسيج عمل الصحافيين، ويصيرون لدى الرأي العام بعد أن تجف منابع الأخبار مجرد "متسولين"، ليس هذا فقط، بل إن السياسيين يلجؤون إلى الضغط الشديد على الصحافيين حينما يثيرون قضايا حساسة مثل "الاسترقاق" و"التفاوت الاجتماعي". 

في مجتمع متعدد الأعراق والشرائح والألسن، تتحول بعض المواضيع إلى تابوهات، لا يخلو تناولها الإعلامي من بعض "المحظورات" مجتمعيا ورسميا.

وهكذا، ففي بلدي بات تناول ملفات حقوقية واجتماعية من قبيل "الاسترقاق" و"التفاوت الاجتماعي" و"تكافؤ الفرص" بين مختلف المكونات، لا يخلو من تكييف التهم للمؤسسة الصحافية، وللصحافي الذي يتناول الموضوع أيضا. 

وهكذا تتحول مجرد تغطية حدث لأصحاب بعض المطالب من مختلف شرائح المجتمع، إلى تهمة بـ "التحريض" و"إثارة الفتنة" و"زعزعة الاستقرار".

وكان مرة أن استضافت المؤسسة الصحافية التي عملت بها على مدى 7 سنوات، أحد الناجين من "تصفية عرقية" تعرض لها بعض عسكريي إحدى شرائح المجتمع عام 1980، وذلك بمناسبة حلول ذكراها.

وما إن تم الإعلان عن الحوار، حتى بدأت الاتصالات ترد من كل الجهات الرسمية الأمنية، والسياسية، وغيرها بهدف إلغاء الموضوع "تجنبا لإثارة الفتنة" على اعتبار أن الموضوع حساس، وأن النبش في أحداث الماضي يثير من المخاوف أكثر مما قد يجلب من المصالح.

وقد طلبت سلطة الصحافة، باعتبار دورها الإشرافي إلغاء الموضوع، أو اطلاعها عليه مسبقا، كي ترى مستوى قابلية خروجه للعلن وللرأي العام.

لكن أيا من ذلك لم يحصل، فلا الإلغاء تقرر ولا إطلاع السلطة على مضمون النقاش حصل، فتم ما كان مقررا مسبقا، وروى الضيف الذي كان شاهدا على تلك الأحداث ما حصل، وكيف استطاع أن ينجو من القتل.

فتحركت التهم من جديد ضد المؤسسة، وأصدرت سلطة الصحافة بيانا طويلا عريضا، تبدي فيه ما تراه من مآخذ على مضمون الحوار، وأعادت فيه ذكر تهم سابقة جاهزة لديها.

غير أن تلك التهم لكثرتها، والإجراءات العقابية والتضييقية على تعددها وتنوعها، لم تعد تثير الانتباه، فالواضح منها أن السلطات تريد إعلاما خاصا بسقف حرية واطئ، ومقيس من طرفها.

وأمام رفض ذلك، تظل العقوبات تطل برأسها من حين لآخر أمام كل تغطية لا تعجب السلطة الحاكمة، أو تناول لحدث آني أو غابر من تاريخ المشهد السياسي أو الاجتماعي أو الحقوقي في البلاد مزعج لها، لكن دون جدوى، فلا هي أغلقت المؤسسة بشكل نهائي، ولا هي أيضا استطاعت تغيير الخط التحريري الذي اختطته لنفسها.

العقوبات التي تفرض أو يهدد بفرضها، يكون سببها في بعض الأحيان تناول قضية تصنف في إطار الدائرة الحساسة بالمجتمع، ويتعلق الأمر بموضوع الشرائحية، الذي يعتبر أحد أهم المستعجلات الوطنية في البلاد، سبيلا إلى ترسيخ فرص التعايش والسلم الأهلي في مجتمع متعدد الشرائح والأعراق.

ويجد الإعلام الخاص في بلدي صعوبة في تناول المواضيع المرتبطة بالشرائحية، والعرقية والحقوقية، فالسلطة تعتبر الإعلام الخاص سببا رئيسيا في حدة التجاذب الحاصل على مستوى الشرائح، والذي يأخذ منحى تصاعديا وتصعيديا في بعض الأحيان، والمنظمات الحقوقية تعتبر الإعلام مرتهنا لأجندات السلطة، ويتغافل عن القضايا الجوهرية، المتعلقة بضرورة "تكافؤ الفرص" بين مختلف الشرائح في مختلف الدوائر الرسمية وغير الرسمية.

بل إن المؤسسات الإعلامية الخاصة تجد نفسها في بعض الأحيان أمام سهام النقد من الطرفين الرسمي والحقوقي، لأنها لم تورد في حواراتها أو تغطياتها من ينحدرون من مختلف شرائح المجتمع، ويصل الأمر أحيانا حد اتهام المؤسسة الإعلامية نفسها على أنها لا تمثل إلا شريحة واحدة، وذلك إذا لم تكن واجهتها تعكس كل الشرائح، وفقا لمنطق المحاصصة.

 

قصة الوزير

 

مكنني عملي كرئيس تحرير بإحدى المؤسسات الإعلامية الخاصة لسبع سنوات، من نسج علاقات واسعة مع الوزراء والسفراء والمديرين وغيرهم، علاقات حرصت على أن تكون قائمة على أصول المهنية، بعيدا عن المنطق الشائع الذي يسيء للمهنة وللمهني.

لكن ذلك لم يمنع من محاولات كسر الحاجز، وأذكر هنا أن أولى المحاولات حصلت معي حينما استقبلت ذات ليلة من عام 2015 اتصالا هاتفيا من وزير سابق للاتصال وصيٍّ على قطاع الإعلام، ليطلب لقائي، وهو ما لفت انتباهي لأن الوقت كان قد تأخر، فحاولت التنصل من اللقاء بهدوء، لكن دون جدوى.

وتحت الإلحاح قبلت اللقاء، كان الوزير يرتدي زيا غير رسمي، ويركب سيارة تحمل لوحة رسمية، التقينا ودار حديث ودي تمهيدي.

بعدها خيرني الوزير بين أن أقبل عرضا ماليا نتفق عليه، مقابل تمرير أجندته وما يمليه عبر وسيلة الإعلام التي أشتغل فيها، معتبرا الأمر عاديا وسريا، وبين أن أغادر وسيلة الإعلام باتجاه أخرى عمومية.

رفضت الخيارين بهدوء واعتذرت للوزير، لكنه استشاط غضبا ورد علي بأسلوب لا يخلو من رعونة، بأن وسيلة الإعلام التي أعمل بها لن تحضر منذ تلك اللحظة نشاطا رسميا، ولن يقبل انتداب أي من صحفييها لدى أي مؤسسة عمومية، ولا لحوار أي مسؤول.

أوضحت للوزير أن هذا السلوك يتنافى مع الشعارات التي ترفعها الدولة، لكنه لن يقودنا إلى رد غير مسؤول أو غير مهني.

فتحدثت مع المسؤولين في المؤسسة بشأن ما حصل، وانتظرنا قليلا لنعرف هل الأمر مجرد تهديد ومحاولة للضغط، أم بالفعل سينفذ الوزير ما توعد به.

وبالفعل "أنجز وزير ما توعد"، وجدت المؤسسة نفسها محاصرة ومستثناة من تغطية أو حضور أي نشاط رسمي مهما كانت طبيعته، فعززت علاقاتها مع مختلف المؤسسات الإعلامية المنافسة، وصارت تأخذ من عندها "المواد الخام" المتعلقة بصور النشاطات الرسمية وتصريحات المسؤولين وتعالجها بطريقة مهنية.

 

الضغط من خلال الإعلانات

 

الإشهار الذي يعد أحد الموارد الرئيسية للمؤسسة الإعلامية هو الآخر في بلدي، يأخذ طابع الضغط على وسيلة الإعلام، فيصبح بمثابة درع وقاية للمؤسسة المعلنة، من خلاله تحاول ضمان عدم تناولها أو تداولها في أي قضية إعلامية.

وكان أن تظاهر ذات مرة عمال إحدى شركات الاتصال في بلادي، واتصلوا بي باعتباري رئيس تحرير لتغطية احتجاجهم المطالب للإدارة بتطبيق اتفاق كانت قد وقعته معهم في وقت سابق.

فبعثت بفريق للتغطية، وغطى الاحتجاج. وبعد انتهاء المهمة اتصل بي أحد مديري الشركة لم يكن لي به سابق معرفة، مطالبا بعدم نشر الخبر على اعتبار أن الشركة متعاقدة مع المؤسسة بشأن إعلانات تجارية. أجبته بأن الإعلان التجاري لا يمنع من نشر خبر عن الشركة، بل إن إدارتي "الإعلان" و"الأخبار" منفصلتان، فما كان منه إلا أن هدد بفسخ عقد الإعلان التجاري إذا تم النشر، وبالفعل نشر الخبر وفسخ العقد من طرف واحد.

 

يوم طردني الرئيس

 

في سياق مسلسل التضييق على الإعلام والإعلاميين، الخارجين على صف "التطبيل" لكل ما هو رسمي، طردني رئيس بلدي ذات مرة.

كان أن علمت عبر مصادري أنه سيحضر نشاطا رسميا في مكان ما بالعاصمة فقصدت المكان، ووجدت الكثير من الإعلاميين هناك، وبعد انتهاء النشاط الرسمي علمت أن الرئيس سيقوم بجولة في المنطقة، فكنت وفريقي والإعلام الرسمي الوحيدين الذين تقفينا أثره في تلك الجولة، وما إن وصل المكان المقصود حتى وصلناه، فلما أنهى الجولة قرر الإدلاء بتصريح، لكنه منعني من ذلك قائلا إنه خاص بالإعلام الرسمي فحسب.

وقد أخبرت لاحقا من طرف أحدهم أن السبب هو كوني الصحفي الوحيد الذي كشف عن خطأ تصويته في انتخابات سابقة، يومها تقرر منعي والمؤسسة التي أعمل بها من أية تغطية لحدث رسمي.

وبالفعل حصل ذلك في انتخابات ماضية، يومها أخطأ الرئيس في التصويت وطلب من رئيس لجنة الانتخابات تغيير إحدى البطاقات الأربع ففعل، فنشرت الخبر لأنني كنت شاهدا عليه.

 

تدخلات سلطة الصحافة

 

لا تفتأ السلطات الرسمية في بلدي تتخذ أساليب عدة للضغط على وسائل الإعلام الخاصة، للحد من تأثيرها ودورها في نقل جانب آخر من ممارساتها لا ينقله الإعلام العمومي عادة.

في هذا السياق زار رئيس الدولة إحدى مدن الداخل النائية، وفيما استقبله بعض المواطنين برفع الصور والأعلام مرحبين بقدومه، استقبله آخرون ببراميل المياه الفارغة تعبيرا عن معاناتهم مع العطش، وردد آخرون شعارات مناوئة للزيارة، بل إن بعضهم رمى موكب الرئيس بالحجارة.

وكان التلفزيون الرسمي للبلاد ينقل مجريات الزيارة وأجواء الاستقبال، ليقطع بثه المباشر، مباشرة بعد أن انبرى من ضمن المستقبلين من يرفض الزيارة.

على إثر الحادثة الموثقة اتصل بالمؤسسة رئيس سلطة الصحافة، وهو منصب رسمي يتولى رئيس الدولة تعيين صاحبه، ويؤدي اليمين "على أن يؤدي مهامه على أكمل وجه"، طلب الرئيس في اتصاله من المؤسسة عدم نشر الجانب الآخر من الزيارة، وهو الجانب المتعلق بالمطالب الاجتماعية التي يناهض أصحابها قدوم الرئيس إليهم، ما لم يكن مصحوبا بما ينهي معاناتهم.

وقد رفضت المؤسسة الطلب بقوة، معتبرة أنه يتنافى مع دور سلطة الصحافة ورئيس السلطة، الذي يفترض أن يكون راعيا للحرية الإعلامية والتعددية الصحفية.

تم نشر ما لا تريد السلطة نشره، وإلى جانبه نشر الوجه "المضيء" للزيارة ضمن تغطية متوازنة، لا تغبط المتظاهرين حقهم ولا تغيب حق المرحبين بـ "مقدم" الرئيس.

ولأن ذلك عكس ما أرادت السلطات، أصدرت سلطة الصحافة بيانا تستنكر فيه ما حصل، ولوحت باتخاذ عقوبة بحق المؤسسة، تمثلت لاحقا في توقيف جزئي لأحد أهم برامجها.

وقد أثار القرار ردود فعل رافضة وجلب مساندة واسعة للمؤسسة من طرف الفاعلين في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها.

ومن حيث لا تشعر سلطة الصحافة ورئيسها، خرجت المؤسسة من العقوبة أصلب عودا، وأكثر جماهيرية، وهو وقود ساعدها كثيرا في مواصلة رفض الرضوخ لمنطق الإملاء، وضرورة تمجيد السلطة والرئيس. 

 

 

1

 

 

تتالت بيانات السلطة وعقوباتها في كل مرة لا يتم فيها الانصياع لأوامرها تارة، ولطلباتها تارة أخرى، وظلت المؤسسة حريصة على التمسك بخطها رغم المصاعب والإكراهات الجمة التي تتعرض لها.

وجاء موسم الانتخابات، حيث كل المؤسسات الرسمية وكل العاملين بالوظيفة العمومية تتنافس ويتنافسون على تأييد الرئيس ومشروعه، وحشد الدعم والتعبئة من أجل فوزه بولاية رئاسية جديدة.

لم يخرج رئيس سلطة الصحافة عن الإطار العام، حيث إن مثل هذه المناسبات إما أن تكون "رافعة" للموظفين فيترقون في سلم التوظيف عبر الترقيات والتعيينات، أو أن تكون "خافضة" لهم من خلال الإقالات، أو النزول بهم إلى أرذل سلم التراتبية الوظيفية.

في مثل هذا الجو تبنى رئيس سلطة الصحافة بعض المبادرات الداعمة والمؤيدة لرئيس الدولة، واستغل منصبه من أجل الحصول على أكبر تغطية إعلامية، فراح يطوف المؤسسات الإعلامية مطالبا بالنشر والبث.

وكان أن رفضت له المؤسسة ـ حيث أشتغل ـ نشر مادته، فدعا لإدراجها ضمن "الإعلان المعوض" فرفض له ذلك أيضا، وكان من نتائج الرفض هذا أن صنفت المؤسسة الأخيرة ترتيبا في أدنى مستوياته، من حيث حجم التغطية خلال الحملة الدعائية والاقتراع.

وفاز رئيس الدولة كما كان متوقعا، حيث صناديق الاقتراع لا تترك لها الكلمة غالبا في بلدان العالم الثالث، والانتخابات ليست بذلك المستوى من الشفافية.

ومن إيجابيات فوز الرئيس أن جدد لرئيس سلطة الصحافة للبقاء ولاية أخرى على رأس السلطة، ورُقيَ البعض، وتقلد الآخرون مناصب جديدة، وأزيح البعض لتزداد الخطوط الحمراء اتساعا.

استمر التضييق وأتى الدور هذه المرة على مؤسسة إعلامية أخرى خاصة، حيث تم توقيف أحد أشهر برامج إحدى الإذاعات الحرة، رأت فيه السلطة برنامجا "غير مهني" لأن المجال يفتح فيه أمام مناهضي ومؤيدي السياسات العامة للحكومة معا.

لاحقا اهتدت السلطات إلى أسلوب تضييقي أكثر "نعومة"، فصارت كلما تم رفض طلب لها، تلجأ إلى تعبئة هيئة البث التلفزي والإذاعي، أو سلطة الضرائب، فتجد المؤسسات الخاصة نفسها أمام الإغلاق بفعل تراكم حجم المديونية.

أسلوب تحولت إزاءه الدولة إلى خصم للإعلام الخاص، الذي تريد من وجوده أن يبرز بمظهر احترام الحرية والتعددية، وفي الوقت نفسه أن ينساق مع الإعلام العمومي في أحاديته، فيغيب بذلك أصحاب الرأي الآخر ومنتقدو أداء السلطات، وأصحاب المظالم والمطالب، الذين تجد السلطات في الغالب نفسها محرجة أمامهم، ولا تجد من سبيل لإسكاتهم سوى القمع وإغلاق منابر الإعلام أمامهم.

 

رياح الربيع

 

ألهمت ثورات الربيع العربي التي كان مهدها بتونس باقي بلدان منطقتنا على كسر جدار الصمت، والخروج ضد حكامها وسياستهم، ورغم تباين مستويات نجاح أو فشل الثورات هنا وهناك، إلا أنها مكنت الشعوب من القطيعة مع الخوف، والاستكانة للواقع، ولعبت في ذلك وسائل الإعلام ـ الافتراضي منها والواقعي - دورا كبيرا.

وفي بلدي الذي لم يكن استثناء من حالة الرفض العامة تلك، صنفت السلطات كل احتجاج ضدها "فتنة" و"عنفا" و"استيرادا لأفكار خارجية".

وطال التصنيف وسائل الإعلام الخاصة، خصوصا منها الرافض للسير في فلك الإعلام الرسمي وما تمليه السلطات.

وهكذا اتهمت وسيلة الإعلام حيث أعمل بأنها "مؤسسة لبث الفتنة" و"التحريض على العنف" و"استيراد فكر الثورات العربية"، ووجه لها ذلك رسميا من طرف السلطات العمومية، والناطق باسم الحكومة.

وكان السبب الرئيسي لذلك أنها تنقل الاحتجاجات وأصداءها، وتمنح الفرصة لأصحابها للحديث، بنفس الحيز الذي تمنحه للطرف الآخر المدافع عن السلطات العمومية.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فحسب، بل إن سلطة الصحافة أصدرت في أكثر من مرة بيانات تؤكد فيها التهم الرسمية لوسيلة الإعلام والعاملين بها، وتصف ما ينشر بأنه "مخالف للمهنية"، والواقع أنه "مخالف لهوى السلطات" فحسب.

وقد أطلقت حملة "شيطنة" كبرى ضد المؤسسة، اتخذت طابعا شموليا، واصلت خلاله السلطات كيل اتهاماتها ومنع المؤسسة من تغطية أي نشاط رسمي، وتم حظر الحديث إليها من طرف كل من يحمل صفة رسمية، إضافة إلى إطلاق حملة موازية على وسائل التواصل الاجتماعي.

لكن كل ذلك لم يثن المؤسسة عن المواصلة، رغم اتساع مستوى إحكام تضييق الخناق، فواصلت السير على نهج ما تراه مناسبا.

وقد سعت السلطات الرسمية جاهدة، سواء من خلال رئيس سلطة الصحافة أو من خلال وزير الاتصال، وهو الناطق باسم الحكومة، إلى تغيير منحى اهتمام المؤسسة وخطها التحريري، عبر عقد عدة جلسات مع إدارتها تحث فيها على ضرورة توخي الحذر من الانجراف نحو ما آلت إليه أوضاع بلدان أخرى، محملة وسائل الإعلام كامل المسؤولية في ذلك.

وقد أبدت السلطات انزعاجها من المصطلحات التحريرية المعتمدة لدى المؤسسة، فتسمية الرئيس ونسبته إلى الدولة تعتبرها "منافية لقيم المواطنة"، وتصنفها في دائرة "التحريض"، أما من يستخدم صفة "رئيس الجمهورية" فهو "مسالم" في نظرها و"مهني".

وشمل "القاموس المزعج" عديد العبارات والجمل الأخرى، فوصف فض اعتصام بالقوة "تحريضي"، و"الإصابات بجروح متفاوتة الخطورة" يعتبر "دعوة للعنف" و"القوات المدججة بالسلاح" تصنف "دعوة للحرب".

وهكذا وجدت المؤسسة نفسها أمام مساعي السلطات الرسمية إلى فرض "خط تحرير على مقاسها" يكون منزوع نقل الوقائع والأحداث، وما يستدعيه ذلك من استخدام مصطلحات حقلية معينة.

ومن أجل تحقيق ذلك كانت تضغط من ناحية أخرى على زر إثقال كاهل المؤسسة بالجبايات، حتى إن إدارة الضرائب أغلقت المؤسسة ذات مرة لساعات بدعوى عدم التسديد، رغم أن مهلة الدفع لم تنته بعد.

وكان يشفع للمؤسسة، رغم قوة إزعاجها للسلطة وللنظام الحاكم، كون العديد من مكونات وفئات المجتمع تجد ذاتها من خلالها، وهو ما جعل السلطات تهاب إغلاقها وإسكاتها بشكل نهائي، لأن ذلك قد يوقع السلطة في الذي تخاف الوقوع فيه، فآثرت أن تتخذ الضغط والتهديد والتخويف أسلوبا لمحاولة التخفيف مما تعتبره "حدة" و"تهويلا".

وبالتزامن مع ذلك أغلقت وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية أمام المعارضين، والمطالبين برحيل النظام من مختلف المكونات الاجتماعية والحقوقية والسياسية، وهي آلية نجحت من خلالها في جعل وسائل الإعلام الخاصة - رغم قلتها مقارنة بنظيراتها الممجدة للسلطة - لا تقدم إلا الرأي المعارض للسلطة، لأن الرأي الآخر محظور عليها.

أكثر من ذلك عمدت السلطات إلى اعتقال بعض صحفيي المؤسسة الذين لدى بعضهم اهتمامات حقوقية وسياسية معارضة للنظام القائم، ووجهت لهم تهما مختلفة في محاولة للضغط من أجل الانصياع لسقف الحرية الذي تريد أن تكون هي من يحدده.

أساليب مألوفة في العالم الثالث، حيث الأنظمة تخيفها الحريات وانتشار الوعي، لأن ذلك لا يخدم بقاءها واستمرار ممارساتها، فتلجأ بهذا إلى استهداف كل من يشكل خطرا على ذلك.

وهو جزء من حالة عامة شهدتها ويشهدها عدد من دول المنطقة العربية والإفريقية، التي يراد فيها للحكام أن يتصرفوا وفقا لهواهم، وللمحكومين أن يظلوا راضخين.

 

 

المزيد من المقالات

لماذا يقلب "الرأسمال" الحقائق في الإعلام الفرنسي حول حرب غزة؟

التحالف بين الأيديولوجيا والرأسمال، يمكن أن يكون التفسير الأبرز لانحياز جزء كبير من الصحافة الفرنسية إلى الرواية الإسرائيلية. ما أسباب هذا الانحياز؟ وكيف تواجه "ماكنة" منظمة الأصوات المدافعة عن سردية بديلة؟

نزار الفراوي نشرت في: 29 نوفمبر, 2023
السياق الأوسع للغة اللاإنسانية في وسائل إعلام الاحتلال الإسرائيلي في حرب غزة

من قاموس الاستعمار تنهل غالبية وسائل الإعلام الإسرائيلية خطابها الساعي إلى تجريد الفلسطينيين من صفاتهم الإنسانية ليشكل غطاء لجيش الاحتلال لتبرير جرائم الحرب. من هنا تأتي أهمية مساءلة الصحافة لهذا الخطاب ومواجهته.

شيماء العيسائي نشرت في: 26 نوفمبر, 2023
استخدام الأرقام في تغطية الحروب.. الإنسان أولاً

كيف نستعرض أرقام الذين قتلهم الاحتلال الإسرائيلي دون طمس هوياتهم وقصصهم؟ هل إحصاء الضحايا في التغطية الإعلامية يمكن أن يؤدي إلى "السأم من التعاطف"؟ وكيف نستخدم الأرقام والبيانات لإبقاء الجمهور مرتبطا بالتغطية الإعلامية لجرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في غزة؟

أروى الكعلي نشرت في: 14 نوفمبر, 2023
الصحافة ومعركة القانون الدولي لمواجهة انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي

من وظائف الصحافة رصد الانتهاكات أثناء الأزمات والحروب، والمساهمة في فضح المتورطين في جرائم الحرب والإبادات الجماعية، ولأن الجرائم في القانون الدولي لا تتقادم، فإن وسائل الإعلام، وهي تغطي حرب إسرائيل على فلسطين، ينبغي أن توظف أدوات القانون الدولي لتقويض الرواية الإسرائيلية القائمة على "الدفاع عن النفس".

نهلا المومني نشرت في: 8 نوفمبر, 2023
"الضحية" والمظلومية.. عن الجذور التاريخية للرواية الإسرائيلية

تعتمد رواية الاحتلال الموجهة بالأساس إلى الرأي العام الغربي على ركائز تجد تفسيرها في الذاكرة التاريخية، محاولة تصوير الإسرائيليين كضحايا للاضطهاد والظلم مؤتمنين على تحقيق "الوعد الإلهي" في أرض فلسطين. ماهي بنية هذه الرواية؟ وكيف ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تفتيتها؟

حياة الحريري نشرت في: 5 نوفمبر, 2023
كيف تُعلق حدثاً في الهواء.. في نقد تغطية وسائل الإعلام الفرنسية للحرب في فلسطين

أصبحت وسائل الإعلام الأوروبية، متقدمةً على نظيرتها الأنغلوساكسونية بأشواط في الانحياز للسردية الإسرائيلية خلال تغطيتها للصراع. وهذا الحكم، ليس صادراً عن متعاطف مع القضية الفلسطينية، بل إن جيروم بوردون، مؤرخ الإعلام وأستاذ علم الاجتماع في جامعة تل أبيب، ومؤلف كتاب "القصة المستحيلة: الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ووسائل الإعلام"، وصف التغطية الجارية بــ" الشيء الغريب".

أحمد نظيف نشرت في: 2 نوفمبر, 2023
الجانب الإنساني الذي لا يفنى في الصحافة في عصر ثورة الذكاء الاصطناعي

توجد الصحافة، اليوم، في قلب نقاش كبير حول التأثيرات المفترضة للذكاء الاصطناعي على شكلها ودورها. مهما كانت التحولات، فإن الجانب الإنساني لا يمكن تعويضه، لاسيما فهم السياق وإعمال الحس النقدي وقوة التعاطف.

مي شيغينوبو نشرت في: 8 أكتوبر, 2023
هل يستطيع الصحفي التخلي عن التعليم الأكاديمي في العصر الرقمي؟

هل يستطيع التعليم الأكاديمي وحده صناعة صحفي ملم بالتقنيات الجديدة ومستوعب لدوره في البناء الديمقراطي للمجتمعات؟ وهل يمكن أن تكون الدورات والتعلم الذاتي بديلا عن التعليم الأكاديمي؟

إقبال زين نشرت في: 1 أكتوبر, 2023
العمل الحر في الصحافة.. الحرية مقابل التضحية

رغم أن مفهوم "الفريلانسر" في الصحافة يطلق، عادة، على العمل الحر المتحرر من الالتزامات المؤسسية، لكن تطور هذه الممارسة أبرز أشكالا جديدة لجأت إليها الكثير من المؤسسات الإعلامية خاصة بعد جائحة كورونا.

لندا شلش نشرت في: 18 سبتمبر, 2023
إعلام المناخ وإعادة التفكير في الممارسات التحريرية

بعد إعصار ليبيا الذي خلف آلاف الضحايا، توجد وسائل الإعلام موضع مساءلة حقيقية بسبب عدم قدرتها على التوعية بالتغيرات المناخية وأثرها على الإنسان والطبيعة. تبرز شادن دياب في هذا المقال أهم الممارسات التحريرية التي يمكن أن تساهم في بناء قصص صحفية موجهة لجمهور منقسم ومتشكك، لحماية أرواح الناس.

شادن دياب نشرت في: 14 سبتمبر, 2023
تلفزيون لبنان.. هي أزمة نظام

عاش تلفزيون لبنان خلال الأيام القليلة الماضية احتجاجات وإضرابات للصحفيين والموظفين بسبب تردي أوضاعهم المادية. ترتبط هذه الأزمة، التي دفعت الحكومة إلى التلويح بإغلاقه، مرتبطة بسياق عام مطبوع بالطائفية السياسية. هل تؤشر هذه الأزمة على تسليم "التلفزيون" للقطاع الخاص بعدما كان مرفقا عاما؟

حياة الحريري نشرت في: 15 أغسطس, 2023
وسائل الإعلام في الهند.. الكراهية كاختيار قومي وتحريري

أصبحت الكثير من وسائل الإعلام في خدمة الخطاب القومي المتطرف الذي يتبناه الحزب الحاكم في الهند ضد الأقليات الدينية والعرقية. في غضون سنوات قليلة تحول خطاب الكراهية والعنصرية ضد المسلمين إلى اختيار تحريري وصل حد اتهامهم بنشر فيروس كورونا.

هدى أبو هاشم نشرت في: 1 أغسطس, 2023
مشروع قانون الجرائم الإلكترونية في الأردن.. العودة إلى الوراء مرة أخرى

أثار مشروع قانون الجرائم الإلكترونية في الأردن جدلا كبيرا بين الصحفيين والفقهاء القانونين بعدما أضاف بنودا جديدة تحاول مصادرة حرية الرأي والتعبير على وسائل التواصل الاجتماعي. تقدم هذه الورقة قراءة في الفصول المخالفة للدستور التي تضمنها مشروع القانون، والآليات الجديدة التي وضعتها السلطة للإجهاز على آخر "معقل لحرية التعبير".

مصعب الشوابكة نشرت في: 23 يوليو, 2023
لماذا يفشل الإعلام العربي في نقاش قضايا اللجوء والهجرة؟

تتطلب مناقشة قضايا الهجرة واللجوء تأطيرها في سياقها العام، المرتبط بالأساس بحركة الأفراد في العالم و التناقضات الجوهرية التي تسم التعامل معها خاصة من الدول الغربية. الإعلام العربي، وهو يتناول هذه القضية يبدو متناغما مع الخط الغربي دون مساءلة ولا رقابة للاتفاقات التي تحول المهاجرين إلى قضية للمساومة السياسية والاقتصادية.

أحمد أبو حمد نشرت في: 22 يونيو, 2023
ضحايا المتوسط.. "مهاجرون" أم "لاجئون"؟

هل على الصحفي أن يلتزم بالمصطلحات القانونية الجامدة لوصف غرق مئات الأشخاص واختفائهم قبالة سواحل اليونان؟ أم ثمة اجتهادات صحفية تحترم المرجعية الدولية لحقوق الإنسان وتحفظ الناس كرامتهم وحقهم في الحماية، وهل الموتى مهاجرون دون حقوق أم لاجئون هاربون من جحيم الحروب والأزمات؟

محمد أحداد نشرت في: 20 يونيو, 2023
كيف حققت في قصة اغتيال والدي؟ 

لكل قصة صحفية منظورها الخاص، ولكل منها موضوعها الذي يقتفيه الصحفي ثم يرويه بعد البحث والتقصّي فيه، لكن كيف يكون الحال حين يصبح الصحفي نفسه ضحية لحادثة فظيعة كاغتيال والده مثلا؟ هل بإمكانه البحث والتقصّي ثم رواية قصته وتقديمها كمادة صحفية؟ وأي معايير تفرضها أخلاقيات الصحافة في ذلك كله؟ الصحفية الكولومبية ديانا لوبيز زويلتا تسرد قصة تحقيقها في مقتل والدها.

ديانا لوبيز زويلتا نشرت في: 11 يونيو, 2023
ملاحظات حول التغطية الإعلامية للصراع المسلح في السودان

تطرح التغطية الصحفية للصراع المسلح في السودان تحديات مهنية وأخلاقية على الصحفيين خاصة الذين يغطون من الميدان. وأمام شح المعلومات وانخراط بعض وسائل الإعلام في الدعاية السياسية لأحد الأطراف، غابت القصص الحقيقية عن المآسي الإنسانية التي خلفتها هذه الأزمة.  

محمد ميرغني نشرت في: 7 يونيو, 2023
الصحافة والذكاء الاصطناعي وجهاً لوجه

تبنت الكثير من المنصات والمنظمات نقاش تأثير الذكاء الاصطناعي على الصحافة دون أن تكون ثمة رؤية علمية ودقيقة عن حدود هذا التأثير وإمكانيات توظيفه. جوهر مهنة الصحافة لا يمكن أن يتغير، لكن يمكن أن يشكل  الذكاء الاصطناعي آلية تقنية لمحاربة الأخبار الكاذبة ومساعدة الصحفيين على إنجاز مهامهم.

أميرة زهرة إيمولودان نشرت في: 6 يونيو, 2023
أين مصلحة المجتمع في تفاعل الجمهور مع الإعلام؟

استطاعت وسائل التواصل الاجتماعي تحويل التفاعل مع المحتوى الإعلامي إلى سلعة، وتم اختزال مفهوم التفاعل إلى لحظة آنية تُحتسب بمجرّد التعرّض للمحتوى. فكان لهذا أثره على تطوّر المواد الإعلامية لتصبح أكثر تركيزاً على اللحظة الراهنة للمشاهدة دون النظر إلى ما يتركه المحتوى من أثر على الفرد أو المجتمع.

أحمد أبو حمد نشرت في: 4 يونيو, 2023
دراسات الجمهور الإعلامي العربي ومأزق المقاربة السوسيولوجيّة

قد تسعف القراءة السوسيولوجية لمفهوم الجمهور في وسائل الإعلام في فهم العلاقة بين الصحافة والجمهور، بعدما سيطرت المقاربة الرقمية الإحصائية على الدراسات الخاصة في هذا الموضوع. 

وفاء أبو شقرا نشرت في: 31 مايو, 2023
السلبية والغضب والانتشار.. هل هي معايير كافية لتقييم المحتوى الصحفي؟

من هو حارس البوابة في الصحافة؟ الجمهور أم غرف الأخبار؟ ما الذي يمنح القيمة الصحفية لحدث ما؟ قوة الانتشار أم قوة التأثير؟ كيف توجِه الأرقام والمنصات الرقمية العمل الصحفي؟ وهل على الصحفيين الاستسلام لسياسات المنصات الرقمية؟ أسئلة تشكل أساس هذه الورقة حول معايير تقييم المحتوى الصحفي والتغيرات التي طرأت عليها.

محمد الشاذلي نشرت في: 21 مايو, 2023
عمل المراسل الصحفي هو أن يسأل الناس، لا أن يملي عليهم

هل على المراسل الصحفي أن يعبر عن قناعاته السياسية وينخرط في الصراع الانتخابي؟ تظهر التغطية الصحفية للانتخابات التركية انتهاكات للمعايير المهنية والأخلاقية تضرب في العمق مبدأ الحياد.

إيليا توبر نشرت في: 14 مايو, 2023
الصحفي والسلطة.. وجها لوجه

تلجأ السلطة إلى أساليب مختلفة لإخضاع الصحفي وتطويعه، باستنزاف قضائيا، وتعقب حياته الخاصة، وتنمية الإحساس بالرقابة الذاتية… باختصار، يجب أن "تجعله يعاني" كما قال جورج أورويل. 

منتصر مرعي نشرت في: 3 مايو, 2023
تشات جي بي تي والذكاء الاصطناعي والأخبار

نشرت كولومبيا جورناليزم ريفيو مقالا عن النقاش الدائر اليوم عن استخدامات الذكاء الاصطناعي وحدود استعماله في مجال الصحافة ومخاطره على الملكية الفكرية ونشر الأخبار الزائفة.

ماثيو إنغرام نشرت في: 30 أبريل, 2023