من حيث الكم، تعيش الصحافة حالياً في أبهى عصورها؛ فالإنترنت مكّن مئات الصحف الرقمية من الظهور؛ فتضاعف عدد مديري النشر، وازداد عدد الصحفيين، وتعدّدت الميكروفونات الصحفية.
وفي كل عام، يعلن عن مولود جديد، أو مواليد جديدة بين المؤسسات الصحفية لدرجة أن الانفجار في عدد المنصات الرقمية أو المواقع الإلكترونية خلال فترة من الفترات قد يكون دافعاً في التفكير في تنظيم النسل داخل جسم المقاولات الصحفية، وتفادي التناسل العشوائي، خصوصا أنه في بلد كالمغرب، أنشأت مؤسسات وشركات صغيرة قبل سنوات أكثر من موقع صحفي، بالمحتوى تقريباً، حتى تقوّي حضورها في الساحة وطبعاً حتى تقوّي حضورها للحصول على الدعم.
لكن من حيث الكيف، هل هذه الوفرة في المواقع والمنصات الرقمية رفعت من قيم الصحافة أو حافظت عليها على الأقل؟ هل تستمر قيم كمساءلة السلطة ومراقبتها والقيام بدور السلطة الرابعة كما كانت عليه من قبل؟ وهل يتم استحضار خدمة الصالح العام؟ وهل هناك حرص على تنوير الرأي العام؟
طبعاً في السابق لم يكن الوضع ورديا تماماً وكانت هناك الكثير من العثرات والإخفاقات، لكن مع ذلك كانت الصحف الورقية - وحتى الجيل الأول للصحف الرقمية - تملك نوعاً من السلطة الاعتبارية خصوصاً غداة إثارة ملفات معينة، ومن ذلك في المغرب تتبع لوائح اقتصاد الريع، وتشريح مجال الأعمال المرتبط بالسلطة، وأخيرا واقعة "خدام الدولة" عام 2016 التي كشفت شراء نافذين لقطع أرضية في مكان راق بأثمنة بخسة.
كلما كان المحتوى الصحفي عاطفياً ومتسقاً مع الاتجاه العام للجمهور كلما انتشر، وزيادة الانتشار هي الوصفة الأكثر تعبيراً عن النجاح حالياً بالنسبة للمؤسسات الصحفية.
والملاحظ أنه في الوقت الذي كثرت فيه عناوين المقاولات الصحفية في المنطقة قلّت فيه التعددية الصحفية، وأكثر ما ضاقت مساحته هو نقد السلطة ومساءلتها؛ إذ نجحت أنظمة عربية في جعل الخط الرسمي للدولة من أساسيات الأمن القومي، واستغلت بشكل كبير خيبات الربيع العربي، وإحباط فئات كبيرة من الشباب في تحقيق التغيير المنشود، لتمرّر فكرة أن السياسات الرسمية هي القادرة على تحقيق التقدم. وفي غمرة البحث عن تحقيق هدف مماثل، أدركت هذه الأنظمة أن الصحافة ساهمت - ولو بنزر قليل - في معرفة الجمهور بحقائق تثير الغضب الجماعي وبالنتيجة تحريك الشارع في تلك الانتفاضات، لذلك كان تطويع وترويض هذه الصحافة أمراً ضرورياً، ومن ذلك دفعها لتتخلى عن وظيفة مساءلة السلطة.
تراجع الاستقصاء وصعود الترند
من أكثر الأجناس الصحفية التي كانت تدفع نحو مساءلة السلطة ومحاسبتها، التحقيقات الاستقصائية لكونها تبتعد عن اليومي وتهتم أكثر بالكشف عما يراد له أن يكون مخفياً.
تراجع هذا النوع بشكل كبير في الصحافة العربية، خصوصاً منها الرقمية. ويحدّد الصحفي مصعب الشوابكة أربعة أسباب تفسر هذا التعثر، أولا عودة الاستبداد السياسي بشكل قوي، ثم وجود ترسانة تشريعية تكبل الصحفيين و"تكرس مصلحة السلطة"، وغياب قوانين تسهل الولوج إلى المعلومات، وتحوّل القضاء إلى أحد "ملحقات السلطة في العديد من السلطويات العربية" (1).
نتيجة لذلك، أضحت جلّ المنصات تركّز على الأخبار التي لا تتجاوز 300 أو 500 كلمة، وعلى مواضيع الترند سواء أكان هذا الترند يحمل قيمة إخبارية تهم الرأي العام، أو غارقاً في الشعبوية ولا يخدم أيّ نقاش عام، والملاحظ أن تتبع الترند لا يهمّ فقط مؤسسات صحفية تبحث عن رفع أرقام المتابعة، ومن ثمة جلب المعلنين، ولكن كذلك مؤسسات صحفية مموّلة بشكل مباشر أو غير مباشر من جيوب دافعي الضرائب، وهي أيضا لا ترغب أن تكون خارج سوق التفاعل الرقمي.
فما هو الأهم؟ الترند وجلب اهتمام مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي بما يجعل من مقطع فيديو يتعدى مليون مشاهدة في ظرف أيام؟ أو إنجاز تحقيق يأخذ الكثير من الوقت وقد يخلق مشاكل للصحفي وللمؤسسة وقد ينتشر بشكل ضعيف، اللهم إذا كان قوياً ويفرض نفسه على الجمهور؟ الخيار الأول فيما يبدو أسلم للكثير من المؤسسات.
لكن كذلك لا يجب لوم الصحفيين، فمنصة أريج (2) – مثلا – تنشر من حين لآخر تحقيقات استقصائية مميزة، لكن حجم التفاعل معها على منصات التواصل يبقى ضعيفاً ولا يزيد أحياناً عن بضعة نقرات من الإعجاب وبضعة تعليقات لمواد صحفية بُذل فيها مجهود كبير. وهناك مثال آخر وهو موقع مغربي صاعد يدعى "هوامش" (3) ينشر من حين لآخر روبورتاجات معمقة وتحقيقات تكشف فسادا لدى بعض الدوائر في السلطة، ومع ذلك فمقارنة تفاعل الجمهور مع هذه التحقيقات يبقى أقل من التفاعل على صفحة الموقع ذاته من مقاطع فيديو لم تحتج إلى مجهود كبير من أجل الإنجاز.
الملاحظ أنه في الوقت الذي كثرت فيه عناوين المقاولات الصحفية في المنطقة قلّت فيه التعددية الصحفية، وأكثر ما ضاقت مساحته هو نقد السلطة ومساءلتها.
عوامل خارج الصحافة
كما أن ما يساعد استمرار الصحافة في أداء دور المراقب هو حجم ثقة الجمهور في أدوارها ووجود تصوّر اجتماعي إيجابي تجاه العمل الصحفي. في منطقتنا عموماً، نظرة الناس إلى الصحفي كثيرا ما تتأثر بسلوكيات إعلام الإثارة أو بخرق عدد من الصحفيين لمواثيق الأخلاقيات وضعف إعدادهم، وغالباً ما يتم تنميط الصحفيين في قوالب سلبية، بينما في البلدان التي تتزعم ترتيب حرية الصحافة ومنها الدانمارك والمملكة المتحدة يظهر أن المواطنين عموماً راضون عن دور المراقبة في الصحافة، وخصوصاً التغطية السياسية، حتى وإن كان هناك خلط لدى الجمهور فيما يخصّ مفاهيم كالموضوعية والجودة والنقد (4).
العامل الآخر الذي يؤثر بشكل كبير على قدرة الصحافة القيام بهذا الدور هو اقتصادي بحت؛ فالأزمة الاقتصادية التي تعيشها الصحافة بسبب تراجع المداخيل ومحدودية نموذجها الاقتصادي القائم بشكل كبير على الإعلانات جعلت عدة مؤسسات صحفية تضحي بأقسام الاستقصاء، وحسب ما يذكره استطلاع لمؤشر الإعلام لأجل الديمقراطية عام 2021، فالصحافة الاستقصائية، ورغم أدوارها الكبيرة في المسار الديمقراطي، فقد باتت باهظة السعر، ما أدى إلى تقزيم الميزانيات المخصصة لها عبر العالم، وخفض عدد الصحفيين العاملين فيها، ما نجم عنه تأثير سلبي على الإعلام الرقابي (watchdog journalism) في العالم أجمع، رغم إيمان مواطني عدة بلدان متقدمة بأهمية هذا النوع من الصحافة (5).
الصالح العام وتنوير الجمهور.. آخر الاهتمامات
لكن المعضلة لا تخصّ فقط التحقيقات الاستقصائية؛ فإذا كان إنجاز هذه الأخيرة مكلفاً للغاية فإن الإنتاج الصحفي على المنصات الرقمية بشكل عام لا يراعي بالضرورة ما يهم الصالح العام.
هذا المفهوم بدوره أضحى "جد ملتبس، خصوصاً في قضاياً الحياة الخاصة"، ومن ذلك القصص التي تتبع الأسرار العائلية للشخصيات العامة، فضلاً عن وجود ارتباك في "ربط كل ما يشدّ انتباه فئات معينة بالصالح العام" حسب ما تشير إليه شبكة الصحافة الأخلاقية التي تؤكد أن ما "يهم الصالح العام يعني وجود مجتمع صحي يقوم بأدواره، حيث تلعب الصحافة دوراً رئيسيا داخل النسق الديمقراطي، عبر منح المواطنين المعلومة التي تجعلهم يساهمون في هذا المسار الديمقراطي"(6).
فهل ما ينشر حالياً في الكثير من المواقع يساهم في بناء مسار ديمقراطي في منطقة تأخر فيها وصول هذا المسار إلى هدفه؟ أحياناً يظهر الأمر كذلك عندما يتعلق الأمر بصحافة تمارس دور الإخبار – ونادرا التحليل والكشف - في قضايا تشهد نقاشاً عمومياً صحياً، وقد يظهر حتى عندما يتعلّق الأمر بالترفيه ككرة القدم والفنون، لكن كثيراً ما تنزاح التغطية نحو الشعبوية وتغطية انفعالية تخاطب العواطف لا العقول، والبتر من السياق، ومسايرة وسائل التواصل في نقاشات تستنزف الوقت وتنتهي كما بدأت دون نتيجة، وغلبة أخبار الدعاية وتزويق الرواية الرسمية وغير ذلك ممّا يضلل الرأي العام ولا يخدم مصلحته.
ما يساعد استمرار الصحافة في أداء دور المراقب هو حجم ثقة الجمهور في أدوارها ووجود تصوّر اجتماعي إيجابي تجاه العمل الصحفي.
وأيا كانت نظرتنا إليها، فالصحافة ولاسيما الرقمية تملك دوراً كبيراً في تشكيل الوعي لدى الجمهور، أو على الأقل تكريس قناعاته حول قضايا معينة وأحياناً إقناعه بوجهات نظر معيّنة مغلفة في طريقة انتقاء وتقديم وصياغة الأخبار – ما يتدثر تحت عبارة الخط التحريري للمؤسسة.
مثال ذلك أن تغطية عدد من المواقع العربية للغزو الروسي لأوكرانيا نحا نحو انتقاء ما يبرز تناقضات الغرب وإخفاقه في امتحان القيم، مقابل تجاهل كبير للواقعة الأصل؛ أي انتهاك سيادة دولة واحتلالها، والملاحظ أنه كلما كانت التغطية الإخبارية تتماهى مع ما يخدم الأفكار المسبقة للجمهور كلما حققت المواد الإخبارية، ومنها السياسية، انتشاراً كبيراً، ما يجعل الصحافة في المنطقة تكرّس الأفكار النمطية الجاهزة بدل تنوير الرأي العام، خصوصا مع مقاومة هذا الأخير للمحتوى النقدي الذي يسائل ما هو سائد.
وباختصار، فكلما كان المحتوى الصحفي عاطفياً ومتسقاً مع الاتجاه العام للجمهور كلما انتشر، وزيادة الانتشار هي الوصفة الأكثر تعبيراً عن النجاح حالياً بالنسبة للمؤسسات الصحفية.
صحيح أن الوضع ليس مظلماً بشكل تام، وهناك محاولات متعددة لخلق صحافة رقمية عربية جادة مقتنعة بتنوير الرأي العام، لكن التحديات الكبيرة، سواء منها الاقتصادي أو السياسي أو التقني المتجسد في خوارزميات زكّت صعود محتوى الإثارة والأخبار الكاذبة، تجعل الصحافة بين خيارين: الأول مسايرة الوضع مع ما يعنيه ذلك من ادخار في الجهد والمال وتفادي المشاكل مع السلطة، والثاني محاولة القبض على جمر قيم الصحافة مع ما قد ينتج عنه من تحديات قد تنتهي بإغلاق المنصات ذات يوم تحت اقتناع بالآية القرآنية "لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها".
أضحت جلّ المنصات تركّز على الأخبار التي لا تتجاوز 300 أو 500 كلمة، وعلى مواضيع الترند سواء أكان هذا الترند يحمل قيمة إخبارية تهم الرأي العام، أو غارقاً في الشعبوية.
مراجع
1) عن أسباب تعثر الصحافة الاستقصائية في العالم العربي – مصعب الشوابكة – مجلة الصحافةhttps://institute.aljazeera.net/ar/ajr/article/1972
4) Is Watchdog Journalism Satisfactory Journalism? Nael Jebril University of Oxford, UK
5) Investigative journalism and the watchdog role of news media
6)
https://ethicaljournalismnetwork.org/the-public-interest