أصدرت محكمة العدل الدولية، يوم الجمعة 26 يناير/كانون الأول 2024، قرارها بشأن التدابير الاحترازية المؤقتة الداعية إلى وقف الأعمال التي قد تشكل إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، والحيلولة دون وقوع "أضرار لا يمكن إصلاحها" بحق أشكال الحياة القائمة في القطاع، بما يشمل تخفيف الحصار وإتاحة دخول ما يلزم من المساعدات العاجلة.
إلا أن المحكمة، ورغم تبني قرارها السردية الفلسطينية والخطاب القانوني السائد فيما يخص وصف الجرائم المرتكبة في القطاع منذ السابع من أكتوبر، لم تصدر قرارا بشأن إلزام إسرائيل بالوقف الفوري للعمليات العسكرية في غزة واستهداف سكانها، وهو المطلب الأساسي الذي اشتملت عليه الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا، باعتبار أن الهدف الأساسي هو وقف عمليات الإبادة، والسماح بتدفق المساعدات الإنسانية، ثم الفصل في القضية ومحاسبة الجناة في حال ثبوت الادعاء.
رغم ذلك، فإن قرارات المحكمة والتدابير الاحترازية المؤقتة الصادرة عنها بالإجماع قد شكلت ذروة غير مسبوقة في تاريخها وفي تاريخ القضية الفلسطينية، ولا سيما أن النشاط العسكري الجاري في قطاع غزة -الذي تنفذه دولة لطالما حرصت على الاستحواذ الخطابي على صورة الضحية والاستلاب العملي لمفهوم الإبادة وتجييره لصالحها- قد يرقى على الأقل إلى الإبادة الجماعية ويصح النظر فيه قانونيا من هذا المنطلق؛ إذ لا يخلو من انتهاكات محتملة لقوانين الحرب، وهو ما يجد مراقبون أنّه يسهم في كسر "حالة الاستثناء" بشأن حصانة إسرائيل في المنظومة العالمية القائمة، كما يفتح المجال بشكل أكبر في وسائل الإعلام لتسليط الضوء على الانتهاكات الإسرائيلية.
وعليه، فإن الاتهام الرسمي بارتكاب إبادة جماعية قائم عمليا وما يزال منظورا أمام المحكمة، كما أن الإجراءات الطارئة التي جرى النطق بها تعني في ذاتها -وبصرف النظر عن الحكم اللاحق الذي قد يتطلب البتّ فيه عدة شهور أو سنوات- اعترافا بفظاعة الظروف التي خلقتها الحرب الإسرائيلية على غزة على المستويات الإنسانية والحضرية بكل أبعادها، وذلك بمجرد النظر الأولي إلى الأدلة والمراجعة العاجلة لها، التي ارتأت المحكمة بموجبها معقولية القضية التي تواجهها إسرائيل.
إلا أن تعامل عدد من وسائل الإعلام الغربية مع قضية الإبادة قد اتسم بالقفز عن كل تلك المقدمات التي أدت إلى إثارة قضية بهذه الحساسية والفداحة ورفعها إلى محكمة العدل الدولية؛ فبحسب مقال تحريري نشر في الإيكونيميست قبل أيام من صدور قرار المحكمة ضد إسرائيل وقبولها حق النظر في القضية ومتابعتها، فإنّ اتهام إسرائيل بالإبادة "يجعل من هذه المحكمة أضحوكة".
تبنّت الإيكونيميست في مقالاتها المعدودة التي تناولت المسألة موقفا يسعى إلى الانتقاص من القضيّة المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية، بناء على مواقف انطباعية تنُمّ عن تحيز مبدئي لإسرائيل.
في هذا المقال، ارتأت المجلة البريطانية أن تبادر للتعبير عن موقف قطعي يرى أن إسرائيل "لا تقتل الناس في غزة لمجرد كونهم فلسطينيين، وإنما تستهدف مقاتلي حماس ردا على هجوم قاتل على أراضيها". كما وجد المقال -وبجرعة من اليقينية- أنّه "رغم استخدام بعض السياسيين من اليمين المتطرف الإسرائيلي للغة كريهة، فإنهم لم يكونوا يعبرون عن سياسة الحكومة"، وهو ما أشار قرار المحكمة إلى احتمال وقوع خلافه؛ فقد ذكَّرت المحكمة وعلى نحو دالّ بالتصريحات التي صدرت عن كبار المسؤولين الإسرائيليين منذ بداية الحرب، فأدرجت من بين ذلك تصريحا ليوآف غالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي، في التاسع من أكتوبر، قال فيه: "لقد أمرت بحصار مطلق على غزة" وأنه لن يصلها "كهرباء ولا طعام ولا وقود"، وأن "كل شيء مغلق عليها". كما ذكَّرت المحكمة بتصريحات غالانت التي قال فيها "نحن نحارب حيوانات بشرية.. غزة لن تعود كما كانت عليه من قبل". وقد ضمنت المحكمة تصريحات أخرى من هذا القبيل، صدرت عن الرئيس الإسرائيلي، ووزير الطاقة والبنى التحتية، واشتملت جميعها على تعابير "إبادوية" في حق سكان القطاع جميعهم.
عمد المقال أيضًا إلى استهجان مطلب جنوب أفريقيا وقفَ الحرب في غزة، بدعوى أنه "سيترك إسرائيل غير قادرة على الدفاع عن نفسها في مواجهة حماس"، رغم أن استمرار الحرب على النحو الحالي قد يعني تعمد دولة الاحتلال الإخلال بالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، في حال لم يتوقّف جيشها عن ارتكاب الأعمال التي تدخل في نطاق المادة الثانية من الاتفاقية. كما انضوى قرار المحكمة على رفض التذرع بالدفاع عن النفس لارتكاب أفعال تندرج ضمن محذورات الإبادة.
كما ادّعى المقال -بانفصال كامل عن الاشتباك الموضوعي والإنساني مع الكارثة التي يشهدها القطاع جراء العدوان الإسرائيلي، وبما يستبطن استخفافا بحياة الفلسطينيين مقابل غيرهم- أنّ "قضية جنوب أفريقيا واهيةٌ للغاية، حتى إنّه سيكون من الصادم لو اقتنع القضاة بحججها التي تتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية". غير أن المحكمة أوهنت بدورها هذا الموقف؛ إذ تبنت الرأي الموضوعي المدعَّم بالأدلة بشأن معقولية اتهام إسرائيل بتعريض الفلسطينيين في غزة إلى خطر الإبادة الجماعية، وضرورة حمايتهم من هذا الخطر، وأنّ بعض الأفعال المتهمة إسرائيل بارتكابها في غزة، على الأقل، يمكن أن تندرج ضمن أحكام اتفاقية الإبادة الجماعية.
لقد تبنّت الإيكونيميست في مقالاتها المعدودة التي تناولت المسألة موقفا يسعى إلى الانتقاص من القضيّة المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية، بناء على مواقف انطباعية تنُمّ عن تحيز مبدئي لإسرائيل واستعداد لتبرير انتهاكاتها للقوانين والأعراف الدولية. وعلى الرغم من هذا التحيّز العام المرصود منذ بداية هذه الحرب في وسائل إعلام غربية سائدة، وما أفرزه من أنماط غير مسبوقة من التضليل والتضحية بالموضوعية والإخلال بالقيم الصحفية والإنسانية الأساسية، فإنّ مراقبين يرون أن قرار المحكمة الأخير من شأنه أن يزيد من مقدار التضامن مع فلسطين عالميا. فبحسب استطلاع حديث، فإن نصف الأمريكيين الشباب (بين 18-29 عامًا)، يرون وبشكل متزايد أن العمليات الإسرائيلية في قطاع غزة ترقى إلى جرائم حرب وإبادة في حق الفلسطينيين، كما تشير استطلاعات أخرى إلى تراجع ثقة هذه الفئة ذاتها في الصحافة السائدة والعاملين فيها، وهو تطور لا ينفصل عن ملاحظة طبيعة التحيز وازدواجية تطبيق المعايير فيما يخص القضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين، بفضل تزايد اعتماد هذه الفئة على وسائل التواصل الاجتماعي للوصول إلى الأخبار.
ادّعى المقال، بانفصال كامل عن الاشتباك الموضوعي والإنساني مع الكارثة التي يشهدها القطاع جراء العدوان الإسرائيلي، وبما يستبطن استخفافا بحياة الفلسطينيين مقابل غيرهم- أنّ "قضية جنوب أفريقيا واهيةٌ للغاية.
إن من شأن هذه التطورات أن تشكل ضغطا على وسائل الإعلام لأداء دور أكثر مسؤولية فيما يخص تغطية الانتهاكات الإسرائيلية لمقتضى ما تنص عليه الإجراءات الاحترازية التي أوعزت بها المحكمة، التي وجّهت بحسب ما يرى الصحفي الأمريكي كريس هيدجز، "ضربةً مدمّرة للأسطورة التأسيسية التي قامت عليها إسرائيل، والتي لطالما سعت إلى تأبيد صورتها بوصفها دولة للمضطهَدين، لكنها اليوم تجد نفسها في قفص الاتهام المعقول بارتكابها جريمة الإبادة الجماعية في حق الفلسطينيين بغزة. إن الشعب الذي كان مرّةً بحاجة للحماية من الإبادة، بات متّهما اليوم باقترافها".