تعود بدايات ظهور عبارة "صحافة المواطنة" إلى العام 1963 في الولايات المتحدة، حين صوّر حشد من المواطنين عفويا بكاميراتهم جريمة اغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي أثناء زيارته لمدينة دالاس.
وقد بيعت اللقطة الموثقة لتفاصيل الاغتيال إلى القنوات التلفزية ووكالات الأنباء بمبالغ طائلة، فلاقى المواطنون الشاهدون استحسان وسائل الإعلام آنذاك، وجاءت فكرة إشراك المواطن في نقل الأحداث.
أما في العالم العربي -ورغم مجاراتنا سرعة التكنولوجيا- فلم يظهر مصطلح "صحافة المواطنة" جليا إلا بعد ثورات الربيع العربي، ولا يعود ذلك إلى غيابها عن الساحة، بل إلى غياب الصور المجسدة لها فعليا.
قد يلحظ الدور الكبير للثورة التونسية عام 2011 في ذلك؛ فهي لم تعزز تأجج الطموح لدى الصحفي فقط بالبحث عن المعلومة ونقلها، بل خلقت لدى المواطن أيضا نوعا من
الرغبة في المشاركة الفعلية في تصوير الحدث ونقله، وربما أبعد من ذلك، خلقت فرصة للبعض للولوج كليا إلى عالم الصحافة وممارستها، ليس كهواية وترجمة لفكرة "الصحافة التشاركية" فحسب، بل كمهنة رسمية بعيدا عن الشروط والمقررات الكلاسيكية.
فهل يعد بروز أفراد من اختصاصات أخرى ونشطاء إلى عالم الصحافة ضربا من ضروب الارتقاء بها عن المعايير الكلاسيكية، أم محاولة لاختراق "مركزيتها" كاختصاص مستقل؟
سرعة الأحداث وتغير المعايير
مع تطور التكنولوجيا الحديثة في البلدان العربية، وقيام الهبات الشعبية التي نادت بإسقاط الأنظمة، برز مفهوم مصطلح "المواطن الصحفي" الذي بدا للوهلة الأولى غريبا على آذاننا، إلا أنه سرعان ما أصبح مألوفا أمام أعيننا، فصرنا نجد طالب الطب أحيانا مراسلا تلفزيونيا ودارس العلوم يحمل الميكروفون وينقل الأحداث السياسية والاجتماعية بعيدا عن الشروط والمعايير المتعارف عليها لمفهوم "الاحتراف".
يدخل البعض عالم الصحافة من أبواب الدراية والمتابعة والشغف بالسياسة.. خليل الكلاعي، الصحفي وخريج الهندسة أبرز مثال على ذلك.
يربط خليل الخطوة الأولى لالتحاقه بالصحافة بنشاطه السياسي ومشاركته في الاحتجاجات الشعبية، كما يربط نجاح الثورة بنجاح بعض النشطاء في البروز كصحفيين محترفين.. "نشطتُ في حزب معارض بين عامي 2007 و2011، ومع قيام الثورة في بلدي تونس وتغير المناخ السياسي، بالإضافة إلى مواكبتي للوقائع الاجتماعية ونشاطي في حزب معارض لبن علي في سنوات ما قبل الثورة، وكذا وجودي في قلب الحراك الشعبي، وجدتُ أن الحلم بالتغيير بات قريبا، وتعزَّز آنذاك شغفي بمهنة الصحافة، فلم أتردد في التقدم إلى العمل بقناة الجنوبية التي كانت مستهل تجاربي المهنية المتواصلة حتى اللحظة".
لم يختلف مسار أمان الله المنصوري أيضا، إذ كانت ثورة 14 يناير/كانون الثاني ونشاطه السياسي النقطتين الفاصلتين في تغيير بوصلته المهنية.
فعندما أراد المنصوري فك العزلة الإعلامية عن والده السجين السياسي الذي خاض حرب الأمعاء الخاوية بإضرابه عن الطعام لمدة 33 يوما، لم يجد غير التدوين متنفسا لكسر سياسة التعتيم الإعلامي وفرصة للتواصل مع العالم الخارجي للتعريف بقضيته، بعد تجاهله من طرف الإعلام المحلي الخاضع لسلطة الرقابة.
وهكذا كانت البداية مع إنشاء صفحة فيسبوك تهتم بالوقائع السياسية في البلاد والتدوين النقدي، لكنها تعرضت للحجب والتتبع الأمني. ومع قيام الثورة وبروز اسمه كمدون سياسي وناقل للأخبار الوطنية، أصبحت العروض متاحة للمنصوري في كبرى القنوات.. ويعلق على ذلك بقوله "ترددت كثيرا، خاصة أنني لم أدرس الصحافة.. كنت أعتقد أن بيئة العمل الصحفي مقتصرة على خريجي جامعاته المتخصصة، لكن بعد تجربتي الأولى التي كانت بلبنان، فهمت أن الدورات التدريبية والمهارات المعرفية كافية لاكتساب الخبرة، ودافع لامتهان الصحافة على الوجه الأكمل".
بين الثورة الشعبية والثورة الرقمية يسطع نجم "المواطن الصحفي"
لئن ربط البعض بروز وجوه جديدة عرفت بنشاطها السياسي بقيام ثورة 14 يناير، يشير البعض الآخر إلى "الثورة الرقمية".. يقول الناشط الحقوقي والصحفي السوري عمر الشيخ إبراهيم "مع قيام الثورات، لا ننسى الحدث الذي سبق، وهو الانتشار الواسع للهواتف المحمولة، مما خلق نسبة ميول فردية كبيرة ليساهم المواطن في نقل الواقع ونقل آلام الشعوب الثائرة، وجعل من المواطن والناشط السياسي صحفيا".
أحبَّ عمر مهنة الصحافة لكنه لم يمتهنها بصفة رسمية إلا بعد قيام ثورتي تونس وسوريا، فقد كان يتنقل بين تنظيم المؤتمرات والمظاهرات السلمية، لكن خبرته بالواقعين السياسيين التونسي والسوري جعلت عمله صحفيا خيارا متاحا وسهلا.. "تزامنت فترة إقامتي بتونس مع الطفرة الكبيرة التي شهدها واقعها الإعلامي.. نشطتُ بداية في تنظيم المظاهرات والمؤتمرات التي تهتم بالداخل السوري من تونس، وقد ساعدني اطلاعي بعد مدة وجيزة على المناخ الحزبي والشخصيات السياسية في تونس على أن أعمل صحفيا بإذاعة "كلمة"، ومن هناك كانت البداية التي تنوعت فيها المهام وتعددت الأماكن من تونس إلى ليبيا ومن ليبيا إلى تركيا".
صعوبات ونقائص
لم تخلُ قصص الولوج إلى المجال الإعلامي من العنصر الأنثوي، فشهادة مريم العثماني -وهي واحدة من الصحفيات والمذيعات اللاتي حجزن مقعدا إعلاميا في قناة "الزيتونة" التونسية- تشير إلى أن الموهبة والشغف والطموح الذي يعلو ولا يعلى عليه؛ "معيار نجاح الصحفي".
ومع إيمانها بذلك وجدت مريم صعوبات كثيرة وبعض النقد، خاصة أنها لم تكن خريجة كلية الإعلام.. "يكفي أن نجد ميولا إلى العمل الصحفي حتى نبدع ونتألق، كما يجب أن نركز على فك طلاسم العبارات الصحفية بالمطالعة وتكثيف الدورات التدريبية في المراكز المختصة حتى ننجح. فقبل أن أدخل المجال، تدربت كثيرا أمام الكاميرات ومع مراكز أجنبية، ومع هذا، لا أنكر تعرضي للنقد المباشر وغير المباشر بسبب ولوجي إلى هذا العالم؛ فقط لأنني لست خريجة معهد الصحافة".
أهمية التكوين الأكاديمي المختص
قد تعكس آراء بعض الصحفيين المحترفين إقرارا بنجاح البعض ممن تحولوا من نشطاء وأصحاب اختصاصات أخرى إلى صحفيين، لكنهم في الوقت ذاته يجمعون على ضرورة التكوين الأكاديمي المختص حتى لا تقع أخطاء هؤلاء على واقع المجال ومستقبله.
لم تنكر الصحفية سميحة الهلالي التي تعمل بجريدة "الصحافة"، وجود العشرات من النشطاء الوافدين إلى قطاع الإعلام ممن تألقوا بشكل ملحوظ، لكنها ربطت هذا النجاح فقط بالاعتماد على الدورات التدريبية وتوجيه زملائهم من المحترفين.
وتصر سميحة في الوقت ذاته على ضرورة تقيد أي شخص مهما كان موهوبا بالتكوين الأكاديمي بمعهد الصحافة، ليكون ملما وعلى دراية بأخلاقيات المهنة التي تعد خطا أحمر.. "صحيح أن الموهبة مهمة جدا، وهناك من يشتغل في مؤسستنا وهو ليس خريج إعلام، لكنني ضد فتح الباب على مصراعيه للجميع لامتهان الصحافة، ولا أهلل بهذا الشيء الذي ربما يفقد مهنتنا في المستقبل القريب خصوصيتها، خاصة أننا نعيش في عصر الاختصاصات وتكامل الأدوار".
ناصر المكني -وهو أكاديمي بمعهد الصحافة، درَّس أجيالا ومارس العمل الصحفي منذ التسعينيات- يعارض بدوره فكرة التحاق أفراد من آفاق مختلفة بمهنة الصحافة دون تلقي تكوين أكاديمي لسنتين على الأقل في معاهد مختصة.. "صار هناك خلط بين المفاهيم وخطأ في فهم المواثيق الدولية.. صحيح أنها تجيز للمواطن الحرية في التعبير عن رأيه، لكن نجد أن الغالبية فهموا هذه المواثيق خطأ.. حرية التعبير عن الرأي ليست أن يزعم من لم يتحصل على شهادة جامعية في الصحافة أنه صحفي.. كلنا يعلم أن مهنة الصحافة تعد مجالا خاصا ولها شروط خاصة يحددها القانون، فحتى أستاذ التاريخ يكتب والأديب كذلك والسينمائي ينقل الواقع، لكنهم لا يحملون صفة صحفي، على عكس هؤلاء الذين تحصلوا عليها".
بتغيّر المفاهيم وسرعة الأحداث التي تدور رحاها سريعا وبقيام ثورات الربيع العربي، ظهرت الحاجة إلى إعلام بديل يساهم فيه الصحفي والمواطن سويا. ولئن ظهر عدد ملحوظ من الناشطين والسياسيين على شاشات الأخبار في السنوات الأخيرة كمحررين ومذيعين، ففي المقابل انصرف بعض الصحفيين إلى عالم السياسة، ولربما يكون هذا بداية عصر جديد يشهده مجال الصحافة!