بكل وضوح يقول رئيس شركة غوغل ومديرها التنفيذي السابق إيرك شميت: "إن الإنترنت أكبر تجربة فوضوية عرفها التاريخ". ولعل الطبيعة الفوضوية التي يتسم بها النظام العالمي اليوم هي ما حوّل البيانات إلى "بترول" العصر الحديث.
لا عجب إذا أن يمتلك الاحتلال الإسرائيلي اثنين من أهم المكاتب العالمية لمحرك البحث غوغل وموقع فيسبوك اللذين يقعان بوادي السيليكون في تل أبيب. ينبهنا ذلك لأن نطرح تساؤلا مهماً عن حاجة الاحتلال الإسرائيلي إلى كمية البيانات الكبيرة التي يستوردها من أهم مخزنيْن للـ"Big Data" عالميا؟
يكشف كتاب "ملف غوغل" (1) للكاتبين تورستن فريكه وأولريش نوفاك، المترجم عن "عالم المعرفة" لعددها رقم 450؛ عن حساسية البيانات وأهميتها في عالم الاستخبارات التي تعتمد بشكل كبير على الاستخبارات المفتوحة المصدر كأهم مرجع أولي لدورة حياة إدارة المعرفة.
في أغسطس/آب 2013 قدمت صحيفة "الغارديان" البريطانية أدلة قاطعة على ضلوع غوغل في التجسس على البيانات بالمشاركة مع مؤسسة الاستخبارات الأميركية "وكالة الأمن القومي". واستشهدت الصحيفة بوثائق تخص هذه الوكالة كان عميل المخابرات الأميركية السابق إدوارد سنودن قد سربها للصحيفة. تؤكد تلك الوثائق أن غوغل وشركات أميركية أخرى منخرطة في البرنامج الأميركي للتجسس المسمى برنامج "بريزم" (PRISM)، في حين اعترفت "ياهو" بانخراطها أيضاً في البرنامج مقابل ملايين الدولارات (2).
في الكتاب يقول المؤلفان: "إن تركيز البيانات الضرورية لتحسين نمط حياتنا في يد واحدة، يعني في الواقع التخلي كلياً عن الرقابة والمحاسبة"، فمحرك البحث غوغل ومنصات التواصل الاجتماعي باتت أكبر من دول، وتغيب عنها القوانين الضابطة، فالدولة لها برلمان ورئاسة وسلطة رقابية، لكن غوغل وفيسبوك وغيرهما من المواقع ليست كذلك.. إنها تقتحم خصوصياتنا بدون مقاومة أو معارضة، وتحدد قواعد المسيرة الاقتصادية باقتصاديات الانتباه، وتؤثر في العلوم والمنجزات العلمية، وتحدد أيضاً الأجندة السياسية، وتستطيع إمبراطورية البيانات أن تغير مسار نتائج انتخابات. ولم يشهد تاريخ البشرية مؤسسة تشبه غوغل كقوة عظمى بفضل سيطرتها على البيانات، واعتمادها على الجماهير في تغذيتها (3).
وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، فقد جمعت شركة "كامبريدج أناليتيكا" (Cambridge Analytica) لتحليل البيانات معلومات خاصة عن أكثر من 50 مليون مستخدم لفيسبوك، من أجل تطوير تقنيات لدعم حملة الرئيس دونالد ترمب عام 2016. واعتمدت الشركة تقنيات التنبؤ لاستهداف ربع الناخبين الأميركيين بإعلانات سياسية شخصية، فيما اعتُبرت أكبر عملية تجسس وانتهاك للخصوصية عبر الشبكة العنكبوتية، وقد خسرت فيسبوك على إثرها 40 مليار دولار (4).
أين يكمن دور الصحفي المواطن؟
كثير من البيانات مشوهة وخاضعة للإشاعة ضمن فوضى عارمة يحتاج ترتيبها لسنوات، بيد أنها تصبح ذات قيمة إذا تم ترشيحها والتنقيب فيها وتحويلها إلى معلومات، وهنا يقع دور مهم على الصحفيين والباحثين المستكتبين بالدرجة الأولى لمعالجة هذه البيانات، واستغلالهم من أجهزة الدول الاستخباراتية.
من هنا ظهر ما يسمى "استخراج البيانات" (Data Mining) كتقنية تهدف إلى استنتاج المعرفة من خلال كميات البيانات الهائلة. وبعد ترشيح المواد من الصحفيين تُدْرَجُ في قواعد بيانات تعتمد على الخوارزميات الرياضية كأساس للتنقيب. وتتداخل في عمليات التنقيب العديد من العلوم كالإحصاء والرياضيات والمنطق وعلم الذكاء والذكاء الاصطناعي وكذلك النظم الخبيرة، والضبط الدلالي للغة وعلم التعرف على الأنماط والصور والفيديو (5).
بالعودة إلى دورة حياة إدارة المعلومات، فإن المرحلة الأولى هي البيانات الكبيرة غير المنتظمة التي لعب المواطنون دوراً كبيراً في توفيرها على المصادر المفتوحة في ظل تحولنا من الشبكة العنكبوتية الأولى (web 1) إلى الشبكة العنكبوتية الثانية (web 2)، وعلى إثرها أصبح المواطن مرسلاً ومستقبلاً للبيانات التي تشكل أهمية حين انتقالها للمرحلة الثانية وتحويلها إلى معلومات.
سأركز حديثي على المرحلة الثانية، وهي الوسيطة بين البيانات الكبيرة والمعرفة التي يغذي جزءا مهمًّا منها الباحثون والصحفيون، وهي مرحلة المعلومات. فمطلوب من هؤلاء أن يجيبوا على تساؤلات دقيقة حول الموضوع قيد الدراسة أو الكتابة، وهي: كيف وماذا ومتى وأين؟، معتمدين على المصادر الرسمية، أو تساؤلات الجمهور وانطباعاتهم. وهنا تستطيع أجهزة الاستخبارات أن تنتقل للمرحلة الثالثة، وهي المعرفة، لتجيب على تساؤل: كيف حدث ذلك؟ ثم الانتقال لصانع القرار في المرحلة الرابعة في هرم المعلومات وهي المعرفة، وفيها يتساءل: لماذا اتخذ هذا القرار؟
إن مهمة التنقيب في حقول البيانات هي من أكثر الوظائف طلباً في عالم اليوم، كذلك صحافة البيانات ومتخصصي الإنفورماتيك والتحليل الإحصائي. وتبقى مهمة تحويل البيانات إلى معلومات الأكثر صعوبة وتركيزاً، فالبحث في حقول البيانات لتدقيقها وتحويلها إلى معلومات ونسبتها إلى مصادرها الرئيسية يتطلب صحفيين بنمط جديد لا يتابع الخبر، بل يقف على ظروف نشأته والامتدادات التاريخية السابقة له، والمحيط القانوني والاجتماعي والسياسي والنفسي له.
استكتاب الصحفيين "الطّرد المكشوف"
في الآونة الأخيرة طفت بشكل واضح على السطح ظاهرة "الاستكتاب العشوائي" للصحفيين والباحثين، حول مواضيع تتلامس بالدرجة الأولى مع الحساسية والنزاعات الداخلية والخبايا المجتمعية لمجتمعاتهم، ويعتمد كثير منهم على تلقيح البيانات وتحويلها إلى معلومات. لكن صانع القرار لن يستفيد من حجم المعلومات الكبير، وقد يُصاب بالإغراق المعلوماتي الذي لا يكون على إثره قادرا على اتخاذ القرار المناسب. ومن الضروري تحول المعلومات إلى معرفة بالاعتماد على مراكز تحليل ودراسات متخصصة، لتصل في المرحلة الأخيرة إلى الحكمة، وهي القرار المناسب للاستفادة من المعلومات.
لقد تقلص كثيراً الدور التقليدي للصحفيين بالإشراف على عمليات ذات طابع أمني كالتي كشفها كتاب "القادم لقتلك بادر واقتله.. التاريخ السري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية" (6)، إذ يروي الكاتب الإسرائيلي رونين بريغمان المهتم بالشؤون الاستخباراتية عن محاولة اغتيال للرئيس الراحل ياسر عرفات التي كانت ستتم عام 1982 عبر لقاء صحفي مع ثلاثة صحفيين إسرائيليين، ولكن العملية فشلت لأن الاستخبارات الإسرائيلية فقدت القدرة على تعقب عرفات في جنوب لبنان (7).
لذلك بدا دور الصحفيين أكثر سهولة وأقل تكلفة وجهدا لإنهاء المرحلة الثانية، ليس كذلك فقط بل إن الصحفيين المتمرسين ينتقلون من مرحلة المعلومات إلى مرحلة المعرفة بكل سهولة، فبعد فترة من العمل يميزون المصادر الحقيقية للمعلومات والمخازن المهمة لتوافدها، ويستطيعون ترشيح المعلومات وتحويلها إلى معرفة.
في الشكل التالي، نرى حجم الترشيح في المعلومات، ثم الارتباطات في المعرفة في مرحلة الحكمة حيث يصنع القرار وتُحدَّد الطفرات بالدقة التي يمكن عليها بناء قرار صائب.
أخبرني عدد من الصحفيين الفلسطينيين من قطاع غزة عن تساؤلات واستفسارات متشابهة تتناول أمن المقاومة للمواقع الأجنبية التي يعملون معها عن بعد بالاستكتاب، فمثلاً تحديد "عدد الأنفاق، وعدد العاملين بها، وطرق حفرها، وكم المدة التي يستغرقها الحفر، أو عن فصيل معين وعدد أعضائه، ومن أين يتلقى تمويله، ودرجة التقارب بينه وبين الفصائل الثانية".. كانت تساؤلات تثيرهم بشكل ملفت، فقد تحولوا إلى مخبرين من حيث لا يعملون.
تكون هذه التساؤلات ثقيلة على الصحفي، فهو أحياناً يجيب على تساؤلات أمنية قد يضر بها أمن بلاده، خصوصاً في تجربة فلسطين التي تمر بمرحلة تحرر من الاستعمار.
وقد ظهرت عدة إعلانات إسرائيلية مشبوهة بحاجة إلى كتاب صحفيين في غزة وفي لبنان، وتطرقت للحالة الاجتماعية للناس بشكل دقيق. فمثل هذه الإعلانات توجب الحذر. وليس معنى ذلك أن الصحفيين يخدمون أجهزة المخابرات العالمية، وإنما هو تحذير من الوقوع في فخ التساؤلات والأفكار المشبوهة التي تتضمن أسراراً مهمة عن بلاد الصحفيين، وخطورة ما يتضمنه البريد الإلكتروني من معلومات مهمة ترسل إلى مواقع قد يكون مستوى الأمان فيها ضعيفا فتضر هذه المعلومات بأمن البلاد، فلا ينبغي للصحفي أن يكتب في رسالة إلكترونية ما لن يكتبه في بطاقة بريدية يتم إرسالها بلا ظرف.
هوامش:
(1) https://ask2pdf.blogspot.com.tr/2017/07/marefa450.html
(2) https://www.theguardian.com/world/2013/aug/23/nsa-prism-costs-tech-companies-paid
(5) https://www.coursera.org/specializations/data-mining
(6) https://books.google.com.tr/books/about/Rise_and_Kill_First.html?id=_ZLjnAAACAAJ&redir_esc=y