عقب ما تعرّضت له الثقافة العربية، من هزّات، لا سيما في النّصف الثاني من القرن الماضي، بات من الصّعب حصرها في تعريف واحد جامع؛ نظرًا إلى تقلصّ هوامش الحرية، وميزانيات الثقافة في الحكومات العربية. وعندما تتراجع الثقافة خطوة إلى الوراء، تدفع الصحافة الثقافية الثّمن؛ لأن الاثنين مرتبطان ارتباطاً وثيقا، ففي وقت مضى كانت الصحافة الثقافية جزءًا من حياة النّاس، ثم وجدت نفسها في الصفّ الأخير، فكيف وقع هذا الانقلاب؟
أنتمي إلى بلد إذا أبلغت أحدا فيه عن ممارستي للصحافة، فسوف يظنّ أنني أكتب في شؤون السيّاسة، وأني أجالس رؤساء أحزاب أو أعرف أولئك المحللين الذين يظهرون في نشرات الأخبار. وفي حالات أخرى قد يظنّون أنني منشغل بأحوال الكرة، وقد يسألونني من غير تردّد عن أخبار فريق أو عن لاعب أو مباراة. بل حصل أن زارني في البيت وفد من مشجعي فريق كرة، والتمسوا منّي مقالًا، من أجل نصرة فريقهم الذي خسر مباراة نظير تحيّز الحكم، ولما أعلمتهم أنني أشتغل في شؤون الثّقافة لا غيرها، لمحت حيرة في وجوههم، وكأنني خنت ثقتهم أو واجهتم بقول غير محبّب. لقد وجدوا مشقة في فهم عملي، وتعذّر عليهم فهم كلمتي: ثقافة وصحافة ثقافية. ثم تناسلت أسئلتهم عن جدوى عملي، ولماذا أكتب في هذه المواضيع دون غيرها. وأظنّ أن الحال يتشابه في الكثير من الأقطار العربية؛ لأن الثقافة مصطلح من مطاط، تتسع مجالاتها من غير حصرها في تعريف واحد وشامل.
ولأن الصحافة الثقافية قد تعدّدت مداخلها ومخارجها، رفضت أن ترتبط بتعريف واحد، وغامرت في حقول شتّى، ولم يعد من السهل تقييدها في حيّز ضيّق. كما أن الثقافة في حدّ ذاتها خضعت إلى تأويلات لم تخل من أنانية، في السنين الأخيرة، وصارت مرادفًا للفلكلور والمتعة في أذهان البعض، وجرى تجريدها من قيمتها وتهاوت إلى معانٍ سطحية. وعندما تتعرّض الثقافة إلى سوء فهم، أو يقلّ الاهتمام بها فإن الصحافة الثّقافية تدفع الفاتورة.
اشتهر فرانز فانون بوصفه طبيبًا نفسيًا، ثم مختصًّا في حركات التّحرّر، وقد كتب عن العلاقات المتشابكة بين المُستعمِر والمُستعمَر، ثم انضمّ إلى حرب التّحرير في الجزائر، وصار في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي صحفيًا في جريدة "المجاهد". يكتب في هذه الجريدة عن التعذيب وتبعاته النفسية، لكنه يوقّع كذلك مقالات – بأسماء مستعارة – عن موضوعات ثقافية (نظرًا إلى ظروف الحرب عاش فانون بهوية مستعارة، وحمل جواز سفر باسم إبراهيم عمر)، وبعد أن صار صحفيا يكتب في شؤون سياسية وأخرى ثقافية، يتعرّف إلى جان بول سارتر (الذي كتب توطئة كتابه الأشهر: المعذّبون في الأرض). حصل تقارب بين الرّجلين، واستفادت الصحافة الثقافية من هذا الأمر، مثلما استفادت منه الجزائر وكذلك حركات التّحرّر في أفريقيا.
لأن الصحافة الثقافية قد تعدّدت مداخلها ومخارجها، رفضت أن ترتبط بتعريف واحد، وغامرت في حقول شتّى، ولم يعد من السهل تقييدها في حيّز ضيّق. كما أن الثقافة في حدّ ذاتها خضعت إلى تأويلات لم تخل من أنانية، في السنين الأخيرة، وصارت مرادفًا للفلكلور والمتعة في أذهان البعض، وجرى تجريدها من قيمتها وتهاوت إلى معانٍ سطحية.
لقد أدى جان بول سارتر دورًا سياسيًا في المسألة الجزائرية، مطلع الستينيات من القرن الماضي، حيث كان مشرفا على مجلة "أزمنة معاصرة" (Les Temps modernes)المختصّة في الشؤون الثقافية والفكرية. ذلك أن اسم الجزائر لم يرد في روايات الرجل ولا في أعماله المسرحية، لكنه حضر في مقالاته الثقافية في المجلة، مثلما ورد في مقالات كتّاب آخرين استكتبهم فيها. كرّست تلك المجلة خطّها التّحريري في نقد الآلة الاستعمارية، وفي معارضة سياسة بلده، ثم انضّمت إليه في مساعيه سيمون دوبوفوار، الكاتبة الفرنسية، وغيرها من كتّاب الصفّ الأوّل في فرنسا، ثم فنّانون على غرار بيكاسو.
كان بالإمكان أن ننظر إلى مقالات مجلة مثل "أزمنة معاصرة" أنّها ثقافية فحسب، تعالج مسألة الاستعمار من وجهة نظر فكرية، لأّنها لم تكن تنزع إلى الإثارة أو تجييش العواطف، لكن العكس تماما هو الذي وقع، وبسبب مقالاته تعرّض جان بول سارتر إلى حملة تشويه واسعة من طرف أقصى اليمين، بل وصل الأمر إلى حرق بيته، ثم تهديده بالقتل، وانطلقت دعوة من أجل اعتقاله، فتلفّظ شارل ديغول بمقولته الشّهيرة: "لا يمكن أن نسجن فولتير". وجاء اسم فولتير مجازاً يحيل على مبدأ ثابت: لا يمكن أن نسجن مثقّفًا.
هكذا أوصلت الصحافة الثقافية جان بول سارتر إلى محاكمات شعبية، فالحرب لم تكن حكرًا على ساسة أو عسكر، بل أكثر من تعرّض فيها إلى الخطر مثقفون، والسبب هو كتاباتهم في الصحافة الثقافية التي تحولت إلى شأن سياسي وعام وبوصلة لتوجيه الرّأي العامّ.
عندما تتراجع السياسة خطوة إلى الوراء، أو تتوارى من أجل الحفاظ على توازنها أو مصالحها، تنوب عنها الصحافة الثقافية، وتصير مؤشرًا يُحيل النّاس إلى القضايا التي تعنيهم أو تمس حياتهم اليومية. ولعلنا ونتذكّر في هذا السياق ألبير كامو، فقبل أن تشتهر رواياته، وتتحوّل أعماله المسرحية إلى مقصد الجمهور، وقبل أن يتمّ السادسة والعشرين من عمره، كتب في الصحافة الثقافية وكتب كذلك في الشأن العام في جريدة (ALGER REPUBLICAIN)، ونشر عام 1939 استطلاعاً يزاوج بين الصحافة الثقافية والاستقصاء الصحفي، أحدث زلزالًا في فرنسا والجزائر. جاء الاستطلاع (الذي نُشر في حلقات)، بعنوان: الشقاء في القبائل -وهي منطقة أمازيغية تقع في شمال الجزائر -.
الهزّات التي تعرّضت لها الصحافة في الوطن العربي من تضييق ورقابة ومن ملاحقات أو سجن أو نفي لصحفيين انعكس على ممارسة الصحافة الثقافية؛ فتحوّلت من مقاربة الرّاهن إلى الخضوع له، متجاوبة مع ما يطلق عليه «المتّفق عليه سياسيًا». أي أنها لا تخوض في مواضيع مختلف عليها.
في هذا الاستطلاع يحكي ألبير كامو عن الحياة القاسية التي يعيشها السكان، وهي حياة لا تقلّ مشقتها عن حيوات الحيوانات في زمن كان فيه الاستعمار يروج لدوره الحضاري وإلى أفعاله الحضارية (كما قال) في شمال أفريقيا. لقد استفاد صاحب رواية "الغريب" من صفته كصحفي مختص في شؤون الثقافة، ليقلب الصورة التي ترسّخت في الأذهان عن أدوار الصحافة الثقافية، ويرسخ صورة جديدة عن إمكانية تأثيره في الرأي العام والمشاركة في القضايا المشتركة، مثلما فعل إيميل زولا في قضية دريفوس التي قسمت فرنسا إلى تيارين كبيرين.
ففي شتاء 1898، نشر إميل زولا مقالًا بعنوان: "إنني أتّهم"، دفاعًا عن الضابط ألفريد دريفوس، الذي أّتهم جزافًا بتسريب وثائق ومعلومات إلى الألمان، وشُنْت ضدّه حملة تشويه واسعة وجرى اعتقاله وتهجيره وحُكم عليه بالمؤبّد، قبل أن ينتصر له كاتب، بمقال ثقافي، كان أقرب إلى الرّسالة، من أجل ردّ الاعتبار إلى الرّجل. يؤدي زولا دورًا في حسم قضية دريفوس وفي تبرئته، وأن تعود العدالة إلى مجراها. لكن قبل أن يبلغ مبتغاه فقد أتّهم زولا بمعاداة السلطة، وجرت محاكمته ثم خرج سالمًا، وكانت تلك أوّل مرّة يُحاكم فيها كاتب بناءً على مقال ثقافي.
في عقود لاحقة تتعدّد محاكمات كتّاب أو صحفيين في الشّأن الثقافي بالنظر إلى قدرتهم على التأثير، ليصل الأمر حد التصفية الجسدية كما حدث في الجزائر أثناء العشرية السوداء، إذ كان من أوائل ضحاياها، صحافي وكاتب اختصّ في الشأن الثقافي، كان يكتب مقالات ونقدًا أدبيا وفنيا، قبل أن تُصيبه رصاصات جماعة إرهابية، ونقصد الطّاهر جاعوط ثم تعدّدت اغتيالات صحفيين ثقافيين، من بينهم بختي بن عودة عام 1995، وآخرين.
غالبا ما نتجاهل أن حرب البوسنة والهرسك في تسعينيات القرن الماضي اشتعلت نارها - في جانب منها - بفعل أقلام كانت تنشط في الصحافة الثقافية، ورغم أن ذلك قد يبدو غير قابل للتصديق، إلا أن العودة إلى سيرة رادوفان كارادجيتش، زعيم صرب البوسنة الذي لقب بـ"جزّار البلقان"، تكشف مفارقة صادمة: فقد كان الرجل شاعرا قبل الحرب، ينشر مقالاته النقدية في الصفحات الثقافية، قبل أن يصبح أحد مهندسي الإبادة الجماعية، متسببا في مجزرة سربرنيتسا التي راح ضحيتها أكثر من سبعة آلاف إنسان خلال أربعة أيام فقط.
كيف انتقلت الصحافة الثقافيّة من تحريك المياه الرّاكدة إلى الرّكود؟ وهذا سؤال مشروع. كانت صحافة يقظة، تنظر من حولها دون أن تطرف عينها، فكيف تحوّلت من لاعب أساسي في الحياة العامة تُجادل في شؤون تخصّ النّاس العاديين، إلى مجرد كومبارس يتشابه حضورها مع غيابها؟
يمكن القول إنه سادت ظاهرة يترتّب عليها أن تختفي الصفحة الثقافية من جريدة، ثم تعوّض بصفحة إعلانات، كما يحصل أن تختفي في شهر رمضان لصالح صفحة طبخ ووصفات، ناهيك عن أن المحطات التلفزيونية تخصّص برامج في الرياضة أو السياحة أو الترفيه، ونادراً ما تنتبه إلى تخصيص برنامج للثقافة، والأمر يعود إلى عوامل شتّى. لأن الهزّات التي تعرّضت لها الصحافة في الوطن العربي - لا سيما في نصف القرن الماضي - من تضييق ورقابة ومن ملاحقات أو سجن أو نفي لصحفيين انعكس على ممارسة الصحافة الثقافية؛ فتحوّلت من مقاربة الرّاهن إلى الخضوع له، متجاوبة مع ما يطلق عليه «المتّفق عليه سياسيًا». أي أنها لا تخوض في مواضيع مختلف عليها.
لقد اختفى الرّأي من الصحافة الثقافية، مثلما اختفت فيها وجهة النّظر، وصارت صحافة خبرية، إذ يكفي تصفح صفحة الثقافة في جريدة، بغض النّظر عن اسم البلاد العربية التي صدرت منها، نُطالع مواد من نوع: أصدر فلان كتابًا، انتظم حفل، دشّن فلان معرضًا... صارت صحافة تعلي من شأن الخبر وتستبعد الرّأي. وعندما يختفي الرّأي الثقافي يختفي الجدل، وعندما يحتجب الجدل، تتحوّل إلى صحافة استعجالية، تنتهي صلاحيتها بنهاية اليوم الذي صدرت فيه؛ لأن حرية التعبير تؤدي إلى حرية المحاكمات، مثلما يقول أحدهم.
إن كنّا في المنطقة العربية نفتخر أن نجيب محفوظ حاز نوبل للأدب (1988)، فإننا ننسى أنه بدأ من الصحافة الثقافية، حيث نشر أول أعماله في مطبوعات ثقافية (مثل مجلة الرسالة)، بل إن بعض رواياته صدر بشكل سلسلة في جريدة قبل أن يصير نصًا مطبوعًا (على غرار رواية: أولاد حارتنا).
كما أن الصحافة الثقافية تخلّت عن واحد من أدوراها الأساسية التي سادت في الماضي، ويتعلّق الأمر باكتشاف المواهب والأسماء الواعدة. وإن كنّا في المنطقة العربية نفتخر أن نجيب محفوظ حاز نوبل للأدب (1988)، فإننا ننسى أنه بدأ من الصحافة الثقافية، حيث نشر أول أعماله في مطبوعات ثقافية (مثل مجلة الرسالة)، بل إن بعض رواياته صدر بشكل سلسلة في جريدة قبل أن يصير نصًا مطبوعًا (على غرار رواية: أولاد حارتنا). وكذلك الحال مع عدد لا يستهان به من الكتّاب العرب، الذين تبؤوا الصفّ الأوّل، وكلّهم خرجوا من عباءة الصحافة الثقافية، مثلما خرج منها إيميل حبيبي أو محمود درويش وآخرين.. فما هي الأسماء الجديدة التي تصدّرت المشهد الأدبي والثقافي بفضل الصحافة الثقافية، على الأقل في العقدين الماضيين؟ بالكاد نذكر اسمًا واحدًا؛ لأن مساحات صفحات الثقافة قد تقلّصت، ومثلما لم تعد تتّسع للرّأي فإنها لم تعد تتّسع لنشر فصول رواية أو قصائد جديدة. مع ذلك من المُجحف أن نعمّم هذه الملاحظة، لأن ثمة من الصحف ممن يمسك على الجمر ويقاوم، لكنها مقاومة محفوفة بالمخاطر، بحكم أن الإعلام الثقافي في تآكل، نظرًا إلى سطوة الإعلام الجديد، في الفضاء الرّقمي، وهو إعلام يتيح مساحة أوسع، لكنه يضيّق من هامش الحرية. بالتّالي، مهما اتّسع الفضاء في الصحافة الثقافية أو تضاءل فإن المنتج متشابه، في ظلّ انحسار الحريّات وترهل السّياسات الثقافية، في بلدان عربية، مما ينعكس سلبًا على أداء الإعلام الثّقافي، الذي تنازل عن علاقته العضوية مع المثقّفين والمبدعين العرب (الذين تشتتوا في المهاجر)، فبات يتعامل مع المنتج الثّقافي مثل من يتعامل مع عبوة غسول، من غير وضع النتاج الثقافي في سياقات سوسيولوجية أو سياسية. بمعنى آخر يفصل الثقافة عن محيطها.