الصحافة التفسيرية.. مع المعرفة ضد الشعبوية

 

في تونس، وإزاء تصاعد وتيرة مظاهر الاستقطاب السياسي والأيديولوجي، وتنامي خطابات الكراهية والشعبوية داخل مؤسّسات الدولة وخارج السلطة في المجال العمومي، ومع تعمّق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في ظلّ تعثّر مسار الانتقال الديمقراطي، تطفو على السطح الصحافة التفسيرية خلال السنوات الأخيرة، كجنس صحفي يحظى بطلب اجتماعي ملحّ، بعد أن تسلحت بها بعض وسائل الإعلام المهتمة بالصحافة البديلة وصحافة الجودة والعمق، أكثر من أي وقت مضى.

 

هذا الاهتمام بصحافة الجودة والعمق، بدأ يتزايد ليس في تونس وحدها بل حتى في الفضاء العربي. ويمكن تفسير هذه المكانة المتصاعدة والجديرة بالتمعّن، بشكل أوّلي، بهاجس مواجهة الكم الهائل من الأخبار الزائفة والمضلّلة والمغالطات التي تتسلّل يوميا إلى أذهان الجمهور والمتابعين في كل مكان، لاسيما عبر صفحات وحسابات مواقع التواصل الاجتماعي؛ كالفيسبوك وغيره من الوسائط الحديثة.

 

غير أنّه من المهم قبل المضي قدما في هذا المجال البحثي، الوقوف عند تعريف وتاريخية مسارات تطوّر هذا الجنس الصحفي، وصولا إلى مدى مشروعية الدعوات القائلة بضرورة تعزيز حضوره في المضامين والممارسة الإعلاميّة في تونس على وجه الخصوص. وترتبط هذه الدعوات بالسياق العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فضلا عن التحديات التي تواجهها المهنة في سياق التقلبات والرهانات المتواترة التي تزيد في تعقيد مهمة الصحفيين المحترفين.

 

 الصحافة التفسيرية.. طوق نجاة

تعدّ الصحافة التفسيرية Explanatory Journalism جنسا صحفيا قديما متجدّدا؛ حيث تعود جذورها الجنينية الأولى في الممارسة المهنية الصحفية والاتجاهات التحريرية، إلى ما يفوق قرنا من الزمن. ويمكن اعتبار المدرسة الصحفية الأنجلوسكسونية (الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا على وجه الخصوص) الرائدة في هذا المجال، في حين تأتي المدرسة الفرانكفونية (فرنسا بشكل خاص) في مرتبة ثانية. وما تزال التجربة العربية في هذا التخصّص والتوجه محدودة وملتبسة؛ وهو ما يجعلها في حاجة للمزيد من التأصيل والتفكير رغم بعض المحاولات الجادّة والجديرة بالتثمين.

 وقد شهد هذا الصنف من الصحافة فترات من الصعود والأفول، إذ اقترنت فترات نمائه خاصة بالأزمات والأحداث التي شكلت منعطفات تاريخية، وكذلك ببروز الظواهر المعقدة والمركبة التي كان لها تأثيرات سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وثقافية، وبيئية، ومناخية، وصحيّة كبيرة، لعلّ آخرها أزمة جائحة فيروس كوفيد-19.

تقوم الصحافة التفسيرية على شرح المواضيع بكل جوانبها، وإتاحة المجال للمتلقي لاستخلاص النتيجة بنفسه كما يراها، لكن شريطة أن يضمن العمل التفسيري شرحا كاملا لأركان الموضوع المختار وزواياه.

وتُعرّفُ الصحافة التفسيرية بأنّها صحافة تتناول القضايا المركّبة والمعقّدة في كافة مجالات الحياة بهدف تبسيطها للجمهور العريض. ويمارس هذا الجنس/النمط الصحفي صحفيون مختصون، يتولّون بواسطة التقنيات الحديثة تفسير المواضيع المختارة التي سيتم الاشتغال عليها. ولبناء قصص الصحافة التفسيرية لابد من الاعتماد على نوع كتابة يعرض بشكل واضح ودقيق وجذاب مضامين المواضيع المختارة، كما يمكن أن يكون المضمون التفسيري في قالب فيديو يتولّى شرح المحتويات بشكل يستقطب الجمهور.

وليست الصحافة التفسيرية صحافة رأي أو صحافة تحاليل إخبارية تقليدية، وإنّما صحافة تجيب على ركنيْن أساسييْن من أركان المقال الصحفي: "لماذا؟" و"كيف؟" وفق تعبير البروفيسور الصادق الحمامي، الأستاذ بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار بمنوبة (تونس).

يمكن لهذا النوع الصحفيّ -إذا لقيَ رواجا- أن يحدّ من انتشار الشائعات؛ لأنّه يؤدّي وظيفة أساسيّة وهي إطلاع الجمهور العريض على كل ما يستحقه من معلومات بالتوازي مع زيادة وعيه، حتّى يتمكّن من التمييز بين الأخبار الزائفة والصحيحة (1). 

 ويُطلَق على الصحافة التفسيرية أيضا تسمية الصحافة التوضيحية، أو الصحافة البيداغوجية، أو الصحافة الشارحة. وتقوم الكثير من الصحف في العالم لاسيما الغربية، بتفسير الأخبار المتناولة في صحيفتها، وذلك من خلال البحث عن المواد التي تساعد محرريها في شرح وتبسيط وتأطير الأخبار من مختلف الزوايا، فمن سمات الصحفي الناجح ألا يقتصر عمله فقط على تناول الأخبار وتغطيتها، بل على التعمق في تفسيرها (2).

لقد رصدت جامعة كولومبيا منذ 1985 جائزة لهذا النوع الصحفي، تحت مسمى التقارير التفسيرية Explanatory reporting ضمن جوائز بوليتزر (3). ونجد في العالم الكثير من الأمثلة التي اعتمدت الصحافة التفسيرية على غرار موقع صحيفة "الغارديان"، و"بي بي سي" و"واشنطن بوست"، و"نيويورك تايمز"، ومجلة "سلايت"، ووكالة "بلومبيرغ".

 

ويعد موقع (VOX) الأمريكي الذي يرفع شعار "افهم الأخبار" (4)، من التجارب الملهمة في هذا المجال، والمثيرة للجدل في الآن ذاته. يعرّف القائمون على هذا الموقع منصتهم الرقمية بأنّها مختصة في شرح الأخبار، معتبرين أنّنا نعيش اليوم في عالم تنتشر فيه الكثير من المعلومات والقليل من السياقات، الكثير من الضوضاء والقليل من البصيرة، الأمر الذي يستدعي إطلاق منصة تجعل من الصحافة التفسيرية جوهر عملها اليومي. 

أطلقَ هذا الموقع في عالم الصحافة الأمريكية في سنة 2014 ثلّةٌ من الصحفيين الأمريكيين، يتقدمهم إزرا كلاين وماثيو إيغليسياس وميليسا بال من مؤسسة "VOX Media". كان مضمون افتتاحية رئيس التحرير إزرا كلاين عند إطلاق الموقع عاكسا لفلسفة المنصة، التي تعتبر من أهم التجارب في مجال الصحافة التفسيرية في الزمن الراهن. فقد اختار كلاين طرح سؤال: "كيف تجعل منّا السياسة أغبياء؟" كعنوان للمقال الافتتاحي، محاولا شرح خيبته من الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية زمن حكم الرئيس باراك أوباما، ومستلهما في مقاربته الصحفية أفكارا من إحدى نظريات أستاذ القانون بجامعة ييل، دان كاهان، حول كيف يحمي الناس أنفسهم من معطيات ومعلومات حقيقية تتصادم مع معتقداتهم الأساسيّة والشخصيّة (5). 

إنّ تجربة موقع VOX وغيرها من التجارب البارزة على الصعيد العالمي، تعكس الوجه المتجدّد للصحافة التفسيرية التي أضحت تستفيد من التقنيات والأدوات التكنولوجية الحديثة، سواء بالتقاطع مع الصحافة متعدّدة الوسائط والحوامل؛ كالبودكاست، والفيديوهات التبسيطية، وتقنية الفيديو وول، والصور والرسوم الإحصائية والتوضيحية، أو صحافة البيانات أو الصحافة العلميّة (6).

ولا شك أنّ قيمة الصحافة التفسيرية بوصفها جنسا/نمطا صحفيا يندرج ضمن مجال صحافة الجودة والعمق، تكمن في إدراج المعلومات والوقائع في سياقاتها، مع إعطاء المتلقي من الجمهور المعطيات التي تتيح له فهما شاملا من مختلف الزوايا دون توجيه عبر فرض رأي أو موقف ما مسبق من قبل الصحفي.

ومن المهم الإشارة إلى أنّ الصحافة التفسيرية كمفهوم عام، لا تقتصر فقط على التقارير الإخبارية التوضيحية التي ترتكز على الشرح والتمحيص والتبسيط والنبش، في مختلف الزوايا المتعلقة بالحدث أو بالظاهرة التي تكون قيد المعالجة الصحفية. بل إنّ الحوارات الصحفية التفسيرية البيداغوجية (التعليمية)، خاصة حينما يتعلق الأمر بمحاورة خبراء مختصين، وكذلك التحقيقات والقصص التفسيريّة، هي الأخرى يمكن إدراجها في نفس الخانة، مع ضرورة احترام تنوّع واختلاف المقاربات والمنهجيات. لكن تبقى التقارير الصحفيّة التفسيرية هي التعبير الأبرز للصحافة الشارحة، حيث تُعدّ الأكثر استعمالا خاصة في الصحافة الأنجلوسكسونية.

في المحصّلة، يمكن توصيف صحافة التفسير بأنها صحافة إنارة العقول لمواجهة صحافة إثارة الغرائز والعواطف والأيديولوجيات المحنطة، التي يصبح معها اللون الأسود الداكن أبيض ناصعا، والشائعات حقائق لا تقبل النقاش والدحض. وفوق ذلك، هي صحافة ميدانية بالأساس عكس الصحافة الجالسة التي تكتفي فقط بنقل التصريحات والمواقف، وما ينشر من بلاغات رسمية على صفحات التواصل الاجتماعي، وكل ما هو متاح من مصادر على الإنترنت في شكل تقارير صحفيّة سطحيّة وعامّة. فالصحفي المفسّر مطالب في قصصه – بالضرورة - بالجمع بين نقل المعلومات وتفسيرها وشرحها، بعد التدقيق والفرز والربط بالسياقات وفق طرح متسلسل، وبشكل بيداغوجي لا يسقط في مطب تمرير رأي شخصي. هنا يمكن الحديث عن شكل من أشكال الصحافة الاندماجية التي تربط المنهج الصحفي التفسيري بالمنهج البحثي الأكاديمي والإخراج الفنّي التقني الإبداعي.

 من المهم، أيضا، أن يقوم الصحفي المختص في الصحافة التفسيرية بالمقابلات اللازمة مع الخبراء المختصين، وأن يطرق كل المصادر المتاحة/ المفتوحة (كتب، دراسات، وثائق، شهادات، نصوص قانونية… إلخ)، وغير المتاحة إن أمكن، من أجل تجميع أكثر ما يمكن من المعلومات والمعطيات لتعزّز طرحه التفسيري للموضوع قبل نشرها في قالب فني جذاب، يُسهم في تبسيط الأخبار والمعلومات والقضايا والإشكاليات الشائكة.

تساهم الصحافة التفسيرية بقسط كبير في تربية المتلقي على التعامل بشكل أكثر عقلاني وفطنة مع وسائل الإعلام والصحفيين. فهي تساعد الجمهور على أن يكون أكثر ذكاء في فهم الأخبار وتفهم الظواهر والقضايا الخلافية والجدلية. ولهذا تبدو الصحافة التفسيرية لمجموعة من المهتمين بقضايا الإعلام والشأن العام في تونس خيارا حتميا وضروريا في مواجهة آلات التضليل، لاسيما السياسي.

 

الصحافة التونسية في مواجهة آلات التضليل

تعتبر الصحافة التفسيرية بمفهومها الحديث، شأنها شأن الصحافة الاستقصائية، جنسا/نمطا صحفيا حديث العهد في الخطاب الأكاديمي والممارسة الإعلامية في تونس. إذ يُجمع العديد من الباحثين والصحفيين المختصين على أنّه قبل ثورة 2011، وما رافقها من طفرة وحرية إعلامية، لا يمكن الحديث عن محاولات جديّة وواعية بالصحافة التفسيرية في الصحافة التونسية. كما أنّ مفهوم الصحافة التفسيرية كفكرة وكجنس صحفي، لم يكن حاضرا في تمثّلات الصحفيين التونسيين للممارسة المهنية الاحترافية.

لقد خلقت مناخات الثورة في تونس هوامش ومساحات كبيرة من الحريات الصحفية، حيث تُعدّ من الاستثناءات القليلة في الفضاء العربي وفق تصنيفات منظمة مراسلون بلا حدود على سبيل الذكر لا الحصر (7). 

ومن المعروف أنّ الصحافة التونسية - بما في ذلك المستقلة قبل الثورة - كان يطغى عليها البعد الإخباري عموما، وصحافة الرأي بشكل خاص، مثلما هو الحال في جلّ الأقطار العربية في القرن الماضي. لذلك، فإن أجناسا صحفية من قبيل الصحافة التفسيرية، كانت غائبة عن الممارسة الإعلاميّة. ولعلّ التحاليل الإخبارية هي الجنس الذي كان حاضرا بقوّة في جلّ الصحف، فضلا عن مقالات الرأي وبقية الأشكال الصحفية، مثل الربورتاجات، والتقارير، والقصّة الخبرية، والبورتريهات.

ويعود بروز بعض التجارب والمحاولات في الصحافة التفسيرية في المشهد الإعلامي التونسي أساسا، إلى ظهور موجة من المواقع والمنصات الصحفية الرقمية التي تصنّف نفسها في خانة الصحافة البديلة.

في هذا المضمار يمكن الإشارة إلى تجارب قيّمة مثل مواقع "نواة"، و"انكفاضة"، و"الكتيبة"، و"كشف ميديا"، و"إنسان"، وبعض الإذاعات الجمعياتية، مثل إذاعة "نزاهة" المختصة في مكافحة الفساد والحوكمة الرشيدة.

ولعلّ القاسم المشترك بين هذه التجارب هو انتماء الغالبية منها إلى الإعلام الجمعياتي المستقلّ الذي ليس له غايات ربحية، مثلما هو الحال في الإعلام التجاري التقليدي لاسيما الخاص.

لكن الملاحظ، أنّ موجة انتشار الصحافة التفسيرية وصلت في السنوات الأخيرة أيضا إلى المؤسّسات الصحفية التقليدية، مثل صحيفتي المغرب والصباح، والإذاعات الخاصة، كديوان إف إم، وشمس إف إم، وموزاييك إف إم، بالإضافة إلى بعض البرامج والنشرات الإخبارية التلفزية، وإن كان هذا لماما ومناسباتيا.

إنّ قضيّة المراهنة على الصحافة التفسيرية كجنس صحفي، جدير بمزيد التجذير والاستزادة في الممارسة الصحفية في المشهد الإعلامي التونسي. هذا التجذير يجد مسوغا من خلال التوصيات والتقارير التي تصدرها منظمات مهنية مثل النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، وهياكل تعديلية، مثل هيئة الاتصال السمعي البصري، فضلا عن مجلس الصحافة (8) الذي تأسّس حديثا.

في هذا الإطار، يمكن أن نشير إلى البلاغ التوجيهي الذي أصدرته الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري في تونس بتاريخ 5 يوليو/تموز 2021، والذي دعت فيه الصحفيين إلى التحلي بالمسؤولية تجاه تأزم الوضع الصحيّ، وذلك بناء على ما أسمته رصد تشنج في التعاطي الإعلامي مع الأزمة الصحيّة، تجاوز في بعض الأحيان حدود التعامل العقلاني مع الأحداث والمواضيع ذات العلاقة.

وقد دعت الهيئةُ الصحفيين إلى ضرورة الانتباه إلى مخاطر الإسهاب في استعراض المشاعر الشخصية على حساب الوقائع والحيثيات دون تقديم الإضافة، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى الانسياق وراء خطابات "شعبوية" غير مسؤولة، تدعو المواطنات والمواطنين إلى عدم الاكتراث بمؤسسات الدولة بمبرر فشلها في إدارة الأزمة الصحية.

وذكّرت في الآن ذاته، أنه من واجب الصحفي حثّ المواطنات والمواطنين على الاهتمام بالشأن العام، وتنمية التفكير النقدي، ومراكمة تقاليد الرقابة على أجهزة الدولة وتصرفها في المال العام، وترسيخ قيم المساءلة، داعية إلى عدم الاكتفاء بصحافة الرأي وبضرورة اعتماد الأجناس الصحفية الأخرى التي تساعد على الفهم والإدراك والتحليل، وخاصة منها الصحافة التفسيريّة (9).

لا شك في أنّ هذه الدعوة الصريحة والمباشرة الصادرة عن أهم مؤسّسة تعديلية في المشهد الإعلامي التونسي، تعكس حالة الوعي بقيمة وبأهميّة الصحافة التفسيريّة، والتي رغم تقدمها في التجربة التونسية بخطوات وبإيقاع مختلف يعتريها بون شاسع بين الصحافة البديلة ووسائل الإعلام التقليدية لاسيما القنوات التلفزية الخاصة، فإنّ السياق الراهن في تونس أضحى يدفع بشكل جلّي نحو الاعتماد على هذه المقاربة كضرورة حتمية يفرضها السياق العام.

إنّ الحديث عن السياق العام التونسي الراهن، بكلّ ما فيه من تعقيدات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية في ظلّ سطوة "الشعبوية" على الخطاب السياسي، وطغيان المعلّقين السياسيين على المشهد التلفزي والإذاعي والذين لدى معظمهم انتماءات سياسيّة واضحة، يستلزم اليوم البحث عن صحافة أكثر جدية قادرة على الفرز وعلى إيصال الحقيقة للجمهور دون تحيزات.

وعلى هذا النحو، ينخرطون في الاصطفاف والاستقطاب بعيدا عن جوهر العمل الصحفي المستقل والنزيه، الذي يجعل الخبر مقدسا والتعليق حرا، وهو ما يقودنا بالضرورة إلى المهام التي يمكن أن تضطلع بها الصحافة التفسيرية لمواجهة آلات التضليل والتلاعب السياسي في الملفات الحارقة التي يتم من خلالها توجيه الرأي العام، دون أن يكون هناك تبيان للخيط الأبيض من الخيط الأسود.

في الحقيقة يجب أن نميز، هنا، بين صحافة التحري ومكافحة الأخبار الزائفة من جهة (والتي تكاد تتحول إلى موضة في تونس)، وصحافة التفسير من جهة ثانية. بين النمطين ثمة فروقات شاسعة رغم التكامل الذي يربطهما؛ فالصحافة التفسيرية هي أكثر عمقا، وتستلزم منهجية مختلفة لا تكتفي فقط بالتحري في الخبر، بل تذهب إلى أبعد من ذلك من خلال تفسيره وشرحه وتقديمه بشكل بيداغوجي مبسط وسلسل، مع تنزيله في سياقه العام والخاص من مختلف الزوايا التي يقوم الصحفي المفسر بالنبش فيها.

تكمن قيمة الصحافة التفسيرية على المستوى الاستراتيجي في الممارسة الصحفية في المشهد التونسي في النأي بالصحفيين عن "الشعبوية" والأدلجة، والتي يمكن أن تزج بهم في خندق الدعاية لهذا الطرف أو ذاك والذي قد يفضي إلى خلق فجوة بين الصحافة والجمهور.

كانت الصحافة التونسية، على امتداد عقود من الزمن، حبيسة النموذج الفرانكفوني في التعاطي المهني الذي يرتكز أساسا على الخبر والرأي بدرجة أولى. لكن اليوم، وفي ظلّ التحديات الراهنة التي يجب أن تراعي طبيعة المرحلة سياسيا، وانتظارات الجمهور مهنيا، من الضروري أن تنهض مقاربة جديدة تنطوي على نهج يعكس انفتاحا أكبر على النموذج الأنجلوسكسوني، الذي يولي مكانة أبرز وحظوة أهم للصحافة التفسيرية الشارحة التي تخاطب العقل في القضايا الكبرى، بما فيها الملفات التقنية المتشعبة وصعبة الفهم والاستيعاب بالنسبة للمتلقي من قبيل الإشكاليات المالية والاقتصادية... إلخ.

إنّ هذا المخاض المضني في مسار تجديد وتطوير المقاربات الصحفية في المشهد الإعلامي التونسي، يحتاج إلى حاضنة مهنية تنطلق من معاهد الصحافة ومراكز التكوين والتدريب، وصولا إلى المؤسسات الإعلامية التي تهتم بالاشتغال على صحافة الجودة والعمق، والتي يجب أن ترسخ ذلك في مواثيقها وسياساتها التحريرية. إنه مسار يبدو عسيرا، لكنّه سيقود حتما إلى الهجرة صوب الصحافة التفسيرية كجزء من عقلنة المشهد الصحفي التونسي.

هذه الهجرة نحو الصحافة التفسيرية كمبحث وتخصص إعلامي بدأت تتشكل إرهاصاتها في السنوات القليلة الماضية في تونس، مع بروز جيل جديد من الصحفيين والمؤسسات الصحفية التي تبحث عن الجودة والمهنية كخيار تحريري. توجه يراد من خلاله القطع مع إرث الماضي القريب والبعيد في إطار المراكمة والإصلاح والتجديد ومواكبة التحولات التي تشهدها المهنة في العالم ككل، لاسيما في التجارب الديمقراطية العريقة، تزامنا مع سياق تاريخي عالمي يصنّفه بعض الفلاسفة على أنه زمن "ما بعد الحقيقة" (10).

 

 

 

 

 

 

   

قائمة المصادر والمراجع:

1)  وائل الونيفي: تقرير تربص براديو نزاهة لنيل الإجازة التطبيقية في الصحافة، "محاربة الأخبار الزائفة المتعلقة بالفساد والحوكمة الرشيدة: الصحافة التفسيرية كأداة"، الجامعة المركزية الخاصة، تونس. السنة الجامعية 2019 - 2020

 

2)  http://www.siironline.org/alabwab/alhoda-culture/134.ht

 

3)  https://www.pulitzer.org/prize-winners-by-category/2073-

 

4)  https://www.vox.com/pages/about-us

5)https://www.vox.com/2014/4/6/5556462/brain-dead-how-politics-makes-us-stupid

6)  https://bit.ly/2T2NFRb

7)  https://rsf.org/ar/twns

 

8)  https://institute.aljazeera.net/ar/ajr/article/1255

 

9)  https://bit.ly/3hZUawr

 

10)            https://dictionary.cambridge.org/dictionary/english/post-truth

المزيد من المقالات

تدريس طلبة الصحافة.. الحرية قبل التقنية

ثمة مفهوم يكاد يكون خاطئا حول تحديث مناهج تدريس الصحافة، بحصره في امتلاك المهارات التقنية، بينما يقتضي تخريج طالب صحافة تعليمه حرية الرأي والدفاع عن حق المجتمع في البناء الديمقراطي وممارسة دوره في الرقابة والمساءلة.

أفنان عوينات نشرت في: 29 أبريل, 2024
الصحافة و"بيادق" البروباغندا

في سياق سيادة البروباغندا وحرب السرديات، يصبح موضوع تغطية حرب الإبادة الجماعية في فلسطين صعبا، لكن الصحفي الإسباني إيليا توبر، خاض تجربة زيارة فلسطين أثناء الحرب ليخرج بخلاصته الأساسية: الأكثر من دموية الحرب هو الشعور بالقنوط وانعدام الأمل، قد يصل أحيانًا إلى العبث.

Ilya U. Topper
إيليا توبر Ilya U. Topper نشرت في: 9 أبريل, 2024
الخلفية المعرفية في العلوم الإنسانية والاجتماعية وعلاقتها بزوايا المعالجة الصحفية

في عالم أصبحت فيه القضايا الإنسانية أكثر تعقيدا، كيف يمكن للصحفي أن ينمي قدرته على تحديد زوايا معالجة عميقة بتوظيف خلفيته في العلوم الاجتماعية؟ وماهي أبرز الأدوات التي يمكن أن يقترضها الصحفي من هذا الحقل وما حدود هذا التوظيف؟

سعيد الحاجي نشرت في: 20 مارس, 2024
وائل الدحدوح.. أيوب فلسطين

يمكن لقصة وائل الدحدوح أن تكثف مأساة الإنسان الفلسطيني مع الاحتلال، ويمكن أن تختصر، أيضا، مأساة الصحفي الفلسطيني الباحث عن الحقيقة وسط ركام الأشلاء والضحايا.. قتلت عائلته بـ "التقسيط"، لكنه ظل صامدا راضيا بقدر الله، وبقدر المهنة الذي أعاده إلى الشاشة بعد ساعتين فقط من اغتيال عائلته. وليد العمري يحكي قصة "أيوب فلسطين".

وليد العمري نشرت في: 4 مارس, 2024
الإدانة المستحيلة للاحتلال: في نقد «صحافة لوم الضحايا»

تعرضت القيم الديمقراطية التي انبنى عليها الإعلام الغربي إلى "هزة" كبرى في حرب غزة، لتتحول من أداة توثيق لجرائم الحرب، إلى جهاز دعائي يلقي اللوم على الضحايا لتبرئة إسرائيل. ما هي أسس هذا "التكتيك"؟

أحمد نظيف نشرت في: 15 فبراير, 2024
قرار محكمة العدل الدولية.. فرصة لتعزيز انفتاح الصحافة الغربية على مساءلة إسرائيل؟

هل يمكن أن تعيد قرارات محكمة العدل الدولية الاعتبار لإعادة النظر في المقاربة الصحفية التي تصر عليها وسائل إعلام غربية في تغطيتها للحرب الإسرائيلية على فلسطين؟

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 31 يناير, 2024
عن جذور التغطية الصحفية الغربية المنحازة للسردية الإسرائيلية

تقتضي القراءة التحليلية لتغطية الصحافة الغربية لحرب الاحتلال الإسرائيلي على فلسطين، وضعها في سياقها التاريخي، حيث أصبحت الصحافة متماهية مع خطاب النخب الحاكمة المؤيدة للحرب.

أسامة الرشيدي نشرت في: 17 يناير, 2024
أفكار حول المناهج الدراسية لكليات الصحافة في الشرق الأوسط وحول العالم

لا ينبغي لكليات الصحافة أن تبقى معزولة عن محيطها أو تتجرد من قيمها الأساسية. التعليم الأكاديمي يبدو مهما جدا للطلبة، لكن دون فهم روح الصحافة وقدرتها على التغيير والبناء الديمقراطي، ستبقى برامج الجامعات مجرد "تكوين تقني".

كريغ لاماي نشرت في: 31 ديسمبر, 2023
لماذا يقلب "الرأسمال" الحقائق في الإعلام الفرنسي حول حرب غزة؟

التحالف بين الأيديولوجيا والرأسمال، يمكن أن يكون التفسير الأبرز لانحياز جزء كبير من الصحافة الفرنسية إلى الرواية الإسرائيلية. ما أسباب هذا الانحياز؟ وكيف تواجه "ماكنة" منظمة الأصوات المدافعة عن سردية بديلة؟

نزار الفراوي نشرت في: 29 نوفمبر, 2023
السياق الأوسع للغة اللاإنسانية في وسائل إعلام الاحتلال الإسرائيلي في حرب غزة

من قاموس الاستعمار تنهل غالبية وسائل الإعلام الإسرائيلية خطابها الساعي إلى تجريد الفلسطينيين من صفاتهم الإنسانية ليشكل غطاء لجيش الاحتلال لتبرير جرائم الحرب. من هنا تأتي أهمية مساءلة الصحافة لهذا الخطاب ومواجهته.

شيماء العيسائي نشرت في: 26 نوفمبر, 2023
استخدام الأرقام في تغطية الحروب.. الإنسان أولاً

كيف نستعرض أرقام الذين قتلهم الاحتلال الإسرائيلي دون طمس هوياتهم وقصصهم؟ هل إحصاء الضحايا في التغطية الإعلامية يمكن أن يؤدي إلى "السأم من التعاطف"؟ وكيف نستخدم الأرقام والبيانات لإبقاء الجمهور مرتبطا بالتغطية الإعلامية لجرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في غزة؟

أروى الكعلي نشرت في: 14 نوفمبر, 2023
الصحافة ومعركة القانون الدولي لمواجهة انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي

من وظائف الصحافة رصد الانتهاكات أثناء الأزمات والحروب، والمساهمة في فضح المتورطين في جرائم الحرب والإبادات الجماعية، ولأن الجرائم في القانون الدولي لا تتقادم، فإن وسائل الإعلام، وهي تغطي حرب إسرائيل على فلسطين، ينبغي أن توظف أدوات القانون الدولي لتقويض الرواية الإسرائيلية القائمة على "الدفاع عن النفس".

نهلا المومني نشرت في: 8 نوفمبر, 2023
"الضحية" والمظلومية.. عن الجذور التاريخية للرواية الإسرائيلية

تعتمد رواية الاحتلال الموجهة بالأساس إلى الرأي العام الغربي على ركائز تجد تفسيرها في الذاكرة التاريخية، محاولة تصوير الإسرائيليين كضحايا للاضطهاد والظلم مؤتمنين على تحقيق "الوعد الإلهي" في أرض فلسطين. ماهي بنية هذه الرواية؟ وكيف ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تفتيتها؟

حياة الحريري نشرت في: 5 نوفمبر, 2023
كيف تُعلق حدثاً في الهواء.. في نقد تغطية وسائل الإعلام الفرنسية للحرب في فلسطين

أصبحت وسائل الإعلام الأوروبية، متقدمةً على نظيرتها الأنغلوساكسونية بأشواط في الانحياز للسردية الإسرائيلية خلال تغطيتها للصراع. وهذا الحكم، ليس صادراً عن متعاطف مع القضية الفلسطينية، بل إن جيروم بوردون، مؤرخ الإعلام وأستاذ علم الاجتماع في جامعة تل أبيب، ومؤلف كتاب "القصة المستحيلة: الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ووسائل الإعلام"، وصف التغطية الجارية بــ" الشيء الغريب".

أحمد نظيف نشرت في: 2 نوفمبر, 2023
الجانب الإنساني الذي لا يفنى في الصحافة في عصر ثورة الذكاء الاصطناعي

توجد الصحافة، اليوم، في قلب نقاش كبير حول التأثيرات المفترضة للذكاء الاصطناعي على شكلها ودورها. مهما كانت التحولات، فإن الجانب الإنساني لا يمكن تعويضه، لاسيما فهم السياق وإعمال الحس النقدي وقوة التعاطف.

مي شيغينوبو نشرت في: 8 أكتوبر, 2023
هل يستطيع الصحفي التخلي عن التعليم الأكاديمي في العصر الرقمي؟

هل يستطيع التعليم الأكاديمي وحده صناعة صحفي ملم بالتقنيات الجديدة ومستوعب لدوره في البناء الديمقراطي للمجتمعات؟ وهل يمكن أن تكون الدورات والتعلم الذاتي بديلا عن التعليم الأكاديمي؟

إقبال زين نشرت في: 1 أكتوبر, 2023
العمل الحر في الصحافة.. الحرية مقابل التضحية

رغم أن مفهوم "الفريلانسر" في الصحافة يطلق، عادة، على العمل الحر المتحرر من الالتزامات المؤسسية، لكن تطور هذه الممارسة أبرز أشكالا جديدة لجأت إليها الكثير من المؤسسات الإعلامية خاصة بعد جائحة كورونا.

لندا شلش نشرت في: 18 سبتمبر, 2023
إعلام المناخ وإعادة التفكير في الممارسات التحريرية

بعد إعصار ليبيا الذي خلف آلاف الضحايا، توجد وسائل الإعلام موضع مساءلة حقيقية بسبب عدم قدرتها على التوعية بالتغيرات المناخية وأثرها على الإنسان والطبيعة. تبرز شادن دياب في هذا المقال أهم الممارسات التحريرية التي يمكن أن تساهم في بناء قصص صحفية موجهة لجمهور منقسم ومتشكك، لحماية أرواح الناس.

شادن دياب نشرت في: 14 سبتمبر, 2023
تلفزيون لبنان.. هي أزمة نظام

عاش تلفزيون لبنان خلال الأيام القليلة الماضية احتجاجات وإضرابات للصحفيين والموظفين بسبب تردي أوضاعهم المادية. ترتبط هذه الأزمة، التي دفعت الحكومة إلى التلويح بإغلاقه، مرتبطة بسياق عام مطبوع بالطائفية السياسية. هل تؤشر هذه الأزمة على تسليم "التلفزيون" للقطاع الخاص بعدما كان مرفقا عاما؟

حياة الحريري نشرت في: 15 أغسطس, 2023
وسائل الإعلام في الهند.. الكراهية كاختيار قومي وتحريري

أصبحت الكثير من وسائل الإعلام في خدمة الخطاب القومي المتطرف الذي يتبناه الحزب الحاكم في الهند ضد الأقليات الدينية والعرقية. في غضون سنوات قليلة تحول خطاب الكراهية والعنصرية ضد المسلمين إلى اختيار تحريري وصل حد اتهامهم بنشر فيروس كورونا.

هدى أبو هاشم نشرت في: 1 أغسطس, 2023
مشروع قانون الجرائم الإلكترونية في الأردن.. العودة إلى الوراء مرة أخرى

أثار مشروع قانون الجرائم الإلكترونية في الأردن جدلا كبيرا بين الصحفيين والفقهاء القانونين بعدما أضاف بنودا جديدة تحاول مصادرة حرية الرأي والتعبير على وسائل التواصل الاجتماعي. تقدم هذه الورقة قراءة في الفصول المخالفة للدستور التي تضمنها مشروع القانون، والآليات الجديدة التي وضعتها السلطة للإجهاز على آخر "معقل لحرية التعبير".

مصعب الشوابكة نشرت في: 23 يوليو, 2023
لماذا يفشل الإعلام العربي في نقاش قضايا اللجوء والهجرة؟

تتطلب مناقشة قضايا الهجرة واللجوء تأطيرها في سياقها العام، المرتبط بالأساس بحركة الأفراد في العالم و التناقضات الجوهرية التي تسم التعامل معها خاصة من الدول الغربية. الإعلام العربي، وهو يتناول هذه القضية يبدو متناغما مع الخط الغربي دون مساءلة ولا رقابة للاتفاقات التي تحول المهاجرين إلى قضية للمساومة السياسية والاقتصادية.

أحمد أبو حمد نشرت في: 22 يونيو, 2023
ضحايا المتوسط.. "مهاجرون" أم "لاجئون"؟

هل على الصحفي أن يلتزم بالمصطلحات القانونية الجامدة لوصف غرق مئات الأشخاص واختفائهم قبالة سواحل اليونان؟ أم ثمة اجتهادات صحفية تحترم المرجعية الدولية لحقوق الإنسان وتحفظ الناس كرامتهم وحقهم في الحماية، وهل الموتى مهاجرون دون حقوق أم لاجئون هاربون من جحيم الحروب والأزمات؟

محمد أحداد نشرت في: 20 يونيو, 2023
كيف حققت في قصة اغتيال والدي؟ 

لكل قصة صحفية منظورها الخاص، ولكل منها موضوعها الذي يقتفيه الصحفي ثم يرويه بعد البحث والتقصّي فيه، لكن كيف يكون الحال حين يصبح الصحفي نفسه ضحية لحادثة فظيعة كاغتيال والده مثلا؟ هل بإمكانه البحث والتقصّي ثم رواية قصته وتقديمها كمادة صحفية؟ وأي معايير تفرضها أخلاقيات الصحافة في ذلك كله؟ الصحفية الكولومبية ديانا لوبيز زويلتا تسرد قصة تحقيقها في مقتل والدها.

ديانا لوبيز زويلتا نشرت في: 11 يونيو, 2023