الصحافة التفسيرية.. مع المعرفة ضد الشعبوية

الصحافة التفسيرية.. مع المعرفة ضد الشعبوية

 

في تونس، وإزاء تصاعد وتيرة مظاهر الاستقطاب السياسي والأيديولوجي، وتنامي خطابات الكراهية والشعبوية داخل مؤسّسات الدولة وخارج السلطة في المجال العمومي، ومع تعمّق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في ظلّ تعثّر مسار الانتقال الديمقراطي، تطفو على السطح الصحافة التفسيرية خلال السنوات الأخيرة، كجنس صحفي يحظى بطلب اجتماعي ملحّ، بعد أن تسلحت بها بعض وسائل الإعلام المهتمة بالصحافة البديلة وصحافة الجودة والعمق، أكثر من أي وقت مضى.

 

هذا الاهتمام بصحافة الجودة والعمق، بدأ يتزايد ليس في تونس وحدها بل حتى في الفضاء العربي. ويمكن تفسير هذه المكانة المتصاعدة والجديرة بالتمعّن، بشكل أوّلي، بهاجس مواجهة الكم الهائل من الأخبار الزائفة والمضلّلة والمغالطات التي تتسلّل يوميا إلى أذهان الجمهور والمتابعين في كل مكان، لاسيما عبر صفحات وحسابات مواقع التواصل الاجتماعي؛ كالفيسبوك وغيره من الوسائط الحديثة.

 

غير أنّه من المهم قبل المضي قدما في هذا المجال البحثي، الوقوف عند تعريف وتاريخية مسارات تطوّر هذا الجنس الصحفي، وصولا إلى مدى مشروعية الدعوات القائلة بضرورة تعزيز حضوره في المضامين والممارسة الإعلاميّة في تونس على وجه الخصوص. وترتبط هذه الدعوات بالسياق العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فضلا عن التحديات التي تواجهها المهنة في سياق التقلبات والرهانات المتواترة التي تزيد في تعقيد مهمة الصحفيين المحترفين.

 

 الصحافة التفسيرية.. طوق نجاة

تعدّ الصحافة التفسيرية Explanatory Journalism جنسا صحفيا قديما متجدّدا؛ حيث تعود جذورها الجنينية الأولى في الممارسة المهنية الصحفية والاتجاهات التحريرية، إلى ما يفوق قرنا من الزمن. ويمكن اعتبار المدرسة الصحفية الأنجلوسكسونية (الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا على وجه الخصوص) الرائدة في هذا المجال، في حين تأتي المدرسة الفرانكفونية (فرنسا بشكل خاص) في مرتبة ثانية. وما تزال التجربة العربية في هذا التخصّص والتوجه محدودة وملتبسة؛ وهو ما يجعلها في حاجة للمزيد من التأصيل والتفكير رغم بعض المحاولات الجادّة والجديرة بالتثمين.

 وقد شهد هذا الصنف من الصحافة فترات من الصعود والأفول، إذ اقترنت فترات نمائه خاصة بالأزمات والأحداث التي شكلت منعطفات تاريخية، وكذلك ببروز الظواهر المعقدة والمركبة التي كان لها تأثيرات سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وثقافية، وبيئية، ومناخية، وصحيّة كبيرة، لعلّ آخرها أزمة جائحة فيروس كوفيد-19.

تقوم الصحافة التفسيرية على شرح المواضيع بكل جوانبها، وإتاحة المجال للمتلقي لاستخلاص النتيجة بنفسه كما يراها، لكن شريطة أن يضمن العمل التفسيري شرحا كاملا لأركان الموضوع المختار وزواياه.

وتُعرّفُ الصحافة التفسيرية بأنّها صحافة تتناول القضايا المركّبة والمعقّدة في كافة مجالات الحياة بهدف تبسيطها للجمهور العريض. ويمارس هذا الجنس/النمط الصحفي صحفيون مختصون، يتولّون بواسطة التقنيات الحديثة تفسير المواضيع المختارة التي سيتم الاشتغال عليها. ولبناء قصص الصحافة التفسيرية لابد من الاعتماد على نوع كتابة يعرض بشكل واضح ودقيق وجذاب مضامين المواضيع المختارة، كما يمكن أن يكون المضمون التفسيري في قالب فيديو يتولّى شرح المحتويات بشكل يستقطب الجمهور.

وليست الصحافة التفسيرية صحافة رأي أو صحافة تحاليل إخبارية تقليدية، وإنّما صحافة تجيب على ركنيْن أساسييْن من أركان المقال الصحفي: "لماذا؟" و"كيف؟" وفق تعبير البروفيسور الصادق الحمامي، الأستاذ بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار بمنوبة (تونس).

يمكن لهذا النوع الصحفيّ -إذا لقيَ رواجا- أن يحدّ من انتشار الشائعات؛ لأنّه يؤدّي وظيفة أساسيّة وهي إطلاع الجمهور العريض على كل ما يستحقه من معلومات بالتوازي مع زيادة وعيه، حتّى يتمكّن من التمييز بين الأخبار الزائفة والصحيحة (1). 

 ويُطلَق على الصحافة التفسيرية أيضا تسمية الصحافة التوضيحية، أو الصحافة البيداغوجية، أو الصحافة الشارحة. وتقوم الكثير من الصحف في العالم لاسيما الغربية، بتفسير الأخبار المتناولة في صحيفتها، وذلك من خلال البحث عن المواد التي تساعد محرريها في شرح وتبسيط وتأطير الأخبار من مختلف الزوايا، فمن سمات الصحفي الناجح ألا يقتصر عمله فقط على تناول الأخبار وتغطيتها، بل على التعمق في تفسيرها (2).

لقد رصدت جامعة كولومبيا منذ 1985 جائزة لهذا النوع الصحفي، تحت مسمى التقارير التفسيرية Explanatory reporting ضمن جوائز بوليتزر (3). ونجد في العالم الكثير من الأمثلة التي اعتمدت الصحافة التفسيرية على غرار موقع صحيفة "الغارديان"، و"بي بي سي" و"واشنطن بوست"، و"نيويورك تايمز"، ومجلة "سلايت"، ووكالة "بلومبيرغ".

 

ويعد موقع (VOX) الأمريكي الذي يرفع شعار "افهم الأخبار" (4)، من التجارب الملهمة في هذا المجال، والمثيرة للجدل في الآن ذاته. يعرّف القائمون على هذا الموقع منصتهم الرقمية بأنّها مختصة في شرح الأخبار، معتبرين أنّنا نعيش اليوم في عالم تنتشر فيه الكثير من المعلومات والقليل من السياقات، الكثير من الضوضاء والقليل من البصيرة، الأمر الذي يستدعي إطلاق منصة تجعل من الصحافة التفسيرية جوهر عملها اليومي. 

أطلقَ هذا الموقع في عالم الصحافة الأمريكية في سنة 2014 ثلّةٌ من الصحفيين الأمريكيين، يتقدمهم إزرا كلاين وماثيو إيغليسياس وميليسا بال من مؤسسة "VOX Media". كان مضمون افتتاحية رئيس التحرير إزرا كلاين عند إطلاق الموقع عاكسا لفلسفة المنصة، التي تعتبر من أهم التجارب في مجال الصحافة التفسيرية في الزمن الراهن. فقد اختار كلاين طرح سؤال: "كيف تجعل منّا السياسة أغبياء؟" كعنوان للمقال الافتتاحي، محاولا شرح خيبته من الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية زمن حكم الرئيس باراك أوباما، ومستلهما في مقاربته الصحفية أفكارا من إحدى نظريات أستاذ القانون بجامعة ييل، دان كاهان، حول كيف يحمي الناس أنفسهم من معطيات ومعلومات حقيقية تتصادم مع معتقداتهم الأساسيّة والشخصيّة (5). 

إنّ تجربة موقع VOX وغيرها من التجارب البارزة على الصعيد العالمي، تعكس الوجه المتجدّد للصحافة التفسيرية التي أضحت تستفيد من التقنيات والأدوات التكنولوجية الحديثة، سواء بالتقاطع مع الصحافة متعدّدة الوسائط والحوامل؛ كالبودكاست، والفيديوهات التبسيطية، وتقنية الفيديو وول، والصور والرسوم الإحصائية والتوضيحية، أو صحافة البيانات أو الصحافة العلميّة (6).

ولا شك أنّ قيمة الصحافة التفسيرية بوصفها جنسا/نمطا صحفيا يندرج ضمن مجال صحافة الجودة والعمق، تكمن في إدراج المعلومات والوقائع في سياقاتها، مع إعطاء المتلقي من الجمهور المعطيات التي تتيح له فهما شاملا من مختلف الزوايا دون توجيه عبر فرض رأي أو موقف ما مسبق من قبل الصحفي.

ومن المهم الإشارة إلى أنّ الصحافة التفسيرية كمفهوم عام، لا تقتصر فقط على التقارير الإخبارية التوضيحية التي ترتكز على الشرح والتمحيص والتبسيط والنبش، في مختلف الزوايا المتعلقة بالحدث أو بالظاهرة التي تكون قيد المعالجة الصحفية. بل إنّ الحوارات الصحفية التفسيرية البيداغوجية (التعليمية)، خاصة حينما يتعلق الأمر بمحاورة خبراء مختصين، وكذلك التحقيقات والقصص التفسيريّة، هي الأخرى يمكن إدراجها في نفس الخانة، مع ضرورة احترام تنوّع واختلاف المقاربات والمنهجيات. لكن تبقى التقارير الصحفيّة التفسيرية هي التعبير الأبرز للصحافة الشارحة، حيث تُعدّ الأكثر استعمالا خاصة في الصحافة الأنجلوسكسونية.

في المحصّلة، يمكن توصيف صحافة التفسير بأنها صحافة إنارة العقول لمواجهة صحافة إثارة الغرائز والعواطف والأيديولوجيات المحنطة، التي يصبح معها اللون الأسود الداكن أبيض ناصعا، والشائعات حقائق لا تقبل النقاش والدحض. وفوق ذلك، هي صحافة ميدانية بالأساس عكس الصحافة الجالسة التي تكتفي فقط بنقل التصريحات والمواقف، وما ينشر من بلاغات رسمية على صفحات التواصل الاجتماعي، وكل ما هو متاح من مصادر على الإنترنت في شكل تقارير صحفيّة سطحيّة وعامّة. فالصحفي المفسّر مطالب في قصصه – بالضرورة - بالجمع بين نقل المعلومات وتفسيرها وشرحها، بعد التدقيق والفرز والربط بالسياقات وفق طرح متسلسل، وبشكل بيداغوجي لا يسقط في مطب تمرير رأي شخصي. هنا يمكن الحديث عن شكل من أشكال الصحافة الاندماجية التي تربط المنهج الصحفي التفسيري بالمنهج البحثي الأكاديمي والإخراج الفنّي التقني الإبداعي.

 من المهم، أيضا، أن يقوم الصحفي المختص في الصحافة التفسيرية بالمقابلات اللازمة مع الخبراء المختصين، وأن يطرق كل المصادر المتاحة/ المفتوحة (كتب، دراسات، وثائق، شهادات، نصوص قانونية… إلخ)، وغير المتاحة إن أمكن، من أجل تجميع أكثر ما يمكن من المعلومات والمعطيات لتعزّز طرحه التفسيري للموضوع قبل نشرها في قالب فني جذاب، يُسهم في تبسيط الأخبار والمعلومات والقضايا والإشكاليات الشائكة.

تساهم الصحافة التفسيرية بقسط كبير في تربية المتلقي على التعامل بشكل أكثر عقلاني وفطنة مع وسائل الإعلام والصحفيين. فهي تساعد الجمهور على أن يكون أكثر ذكاء في فهم الأخبار وتفهم الظواهر والقضايا الخلافية والجدلية. ولهذا تبدو الصحافة التفسيرية لمجموعة من المهتمين بقضايا الإعلام والشأن العام في تونس خيارا حتميا وضروريا في مواجهة آلات التضليل، لاسيما السياسي.

 

الصحافة التونسية في مواجهة آلات التضليل

تعتبر الصحافة التفسيرية بمفهومها الحديث، شأنها شأن الصحافة الاستقصائية، جنسا/نمطا صحفيا حديث العهد في الخطاب الأكاديمي والممارسة الإعلامية في تونس. إذ يُجمع العديد من الباحثين والصحفيين المختصين على أنّه قبل ثورة 2011، وما رافقها من طفرة وحرية إعلامية، لا يمكن الحديث عن محاولات جديّة وواعية بالصحافة التفسيرية في الصحافة التونسية. كما أنّ مفهوم الصحافة التفسيرية كفكرة وكجنس صحفي، لم يكن حاضرا في تمثّلات الصحفيين التونسيين للممارسة المهنية الاحترافية.

لقد خلقت مناخات الثورة في تونس هوامش ومساحات كبيرة من الحريات الصحفية، حيث تُعدّ من الاستثناءات القليلة في الفضاء العربي وفق تصنيفات منظمة مراسلون بلا حدود على سبيل الذكر لا الحصر (7). 

ومن المعروف أنّ الصحافة التونسية - بما في ذلك المستقلة قبل الثورة - كان يطغى عليها البعد الإخباري عموما، وصحافة الرأي بشكل خاص، مثلما هو الحال في جلّ الأقطار العربية في القرن الماضي. لذلك، فإن أجناسا صحفية من قبيل الصحافة التفسيرية، كانت غائبة عن الممارسة الإعلاميّة. ولعلّ التحاليل الإخبارية هي الجنس الذي كان حاضرا بقوّة في جلّ الصحف، فضلا عن مقالات الرأي وبقية الأشكال الصحفية، مثل الربورتاجات، والتقارير، والقصّة الخبرية، والبورتريهات.

ويعود بروز بعض التجارب والمحاولات في الصحافة التفسيرية في المشهد الإعلامي التونسي أساسا، إلى ظهور موجة من المواقع والمنصات الصحفية الرقمية التي تصنّف نفسها في خانة الصحافة البديلة.

في هذا المضمار يمكن الإشارة إلى تجارب قيّمة مثل مواقع "نواة"، و"انكفاضة"، و"الكتيبة"، و"كشف ميديا"، و"إنسان"، وبعض الإذاعات الجمعياتية، مثل إذاعة "نزاهة" المختصة في مكافحة الفساد والحوكمة الرشيدة.

ولعلّ القاسم المشترك بين هذه التجارب هو انتماء الغالبية منها إلى الإعلام الجمعياتي المستقلّ الذي ليس له غايات ربحية، مثلما هو الحال في الإعلام التجاري التقليدي لاسيما الخاص.

لكن الملاحظ، أنّ موجة انتشار الصحافة التفسيرية وصلت في السنوات الأخيرة أيضا إلى المؤسّسات الصحفية التقليدية، مثل صحيفتي المغرب والصباح، والإذاعات الخاصة، كديوان إف إم، وشمس إف إم، وموزاييك إف إم، بالإضافة إلى بعض البرامج والنشرات الإخبارية التلفزية، وإن كان هذا لماما ومناسباتيا.

إنّ قضيّة المراهنة على الصحافة التفسيرية كجنس صحفي، جدير بمزيد التجذير والاستزادة في الممارسة الصحفية في المشهد الإعلامي التونسي. هذا التجذير يجد مسوغا من خلال التوصيات والتقارير التي تصدرها منظمات مهنية مثل النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، وهياكل تعديلية، مثل هيئة الاتصال السمعي البصري، فضلا عن مجلس الصحافة (8) الذي تأسّس حديثا.

في هذا الإطار، يمكن أن نشير إلى البلاغ التوجيهي الذي أصدرته الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري في تونس بتاريخ 5 يوليو/تموز 2021، والذي دعت فيه الصحفيين إلى التحلي بالمسؤولية تجاه تأزم الوضع الصحيّ، وذلك بناء على ما أسمته رصد تشنج في التعاطي الإعلامي مع الأزمة الصحيّة، تجاوز في بعض الأحيان حدود التعامل العقلاني مع الأحداث والمواضيع ذات العلاقة.

وقد دعت الهيئةُ الصحفيين إلى ضرورة الانتباه إلى مخاطر الإسهاب في استعراض المشاعر الشخصية على حساب الوقائع والحيثيات دون تقديم الإضافة، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى الانسياق وراء خطابات "شعبوية" غير مسؤولة، تدعو المواطنات والمواطنين إلى عدم الاكتراث بمؤسسات الدولة بمبرر فشلها في إدارة الأزمة الصحية.

وذكّرت في الآن ذاته، أنه من واجب الصحفي حثّ المواطنات والمواطنين على الاهتمام بالشأن العام، وتنمية التفكير النقدي، ومراكمة تقاليد الرقابة على أجهزة الدولة وتصرفها في المال العام، وترسيخ قيم المساءلة، داعية إلى عدم الاكتفاء بصحافة الرأي وبضرورة اعتماد الأجناس الصحفية الأخرى التي تساعد على الفهم والإدراك والتحليل، وخاصة منها الصحافة التفسيريّة (9).

لا شك في أنّ هذه الدعوة الصريحة والمباشرة الصادرة عن أهم مؤسّسة تعديلية في المشهد الإعلامي التونسي، تعكس حالة الوعي بقيمة وبأهميّة الصحافة التفسيريّة، والتي رغم تقدمها في التجربة التونسية بخطوات وبإيقاع مختلف يعتريها بون شاسع بين الصحافة البديلة ووسائل الإعلام التقليدية لاسيما القنوات التلفزية الخاصة، فإنّ السياق الراهن في تونس أضحى يدفع بشكل جلّي نحو الاعتماد على هذه المقاربة كضرورة حتمية يفرضها السياق العام.

إنّ الحديث عن السياق العام التونسي الراهن، بكلّ ما فيه من تعقيدات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية في ظلّ سطوة "الشعبوية" على الخطاب السياسي، وطغيان المعلّقين السياسيين على المشهد التلفزي والإذاعي والذين لدى معظمهم انتماءات سياسيّة واضحة، يستلزم اليوم البحث عن صحافة أكثر جدية قادرة على الفرز وعلى إيصال الحقيقة للجمهور دون تحيزات.

وعلى هذا النحو، ينخرطون في الاصطفاف والاستقطاب بعيدا عن جوهر العمل الصحفي المستقل والنزيه، الذي يجعل الخبر مقدسا والتعليق حرا، وهو ما يقودنا بالضرورة إلى المهام التي يمكن أن تضطلع بها الصحافة التفسيرية لمواجهة آلات التضليل والتلاعب السياسي في الملفات الحارقة التي يتم من خلالها توجيه الرأي العام، دون أن يكون هناك تبيان للخيط الأبيض من الخيط الأسود.

في الحقيقة يجب أن نميز، هنا، بين صحافة التحري ومكافحة الأخبار الزائفة من جهة (والتي تكاد تتحول إلى موضة في تونس)، وصحافة التفسير من جهة ثانية. بين النمطين ثمة فروقات شاسعة رغم التكامل الذي يربطهما؛ فالصحافة التفسيرية هي أكثر عمقا، وتستلزم منهجية مختلفة لا تكتفي فقط بالتحري في الخبر، بل تذهب إلى أبعد من ذلك من خلال تفسيره وشرحه وتقديمه بشكل بيداغوجي مبسط وسلسل، مع تنزيله في سياقه العام والخاص من مختلف الزوايا التي يقوم الصحفي المفسر بالنبش فيها.

تكمن قيمة الصحافة التفسيرية على المستوى الاستراتيجي في الممارسة الصحفية في المشهد التونسي في النأي بالصحفيين عن "الشعبوية" والأدلجة، والتي يمكن أن تزج بهم في خندق الدعاية لهذا الطرف أو ذاك والذي قد يفضي إلى خلق فجوة بين الصحافة والجمهور.

كانت الصحافة التونسية، على امتداد عقود من الزمن، حبيسة النموذج الفرانكفوني في التعاطي المهني الذي يرتكز أساسا على الخبر والرأي بدرجة أولى. لكن اليوم، وفي ظلّ التحديات الراهنة التي يجب أن تراعي طبيعة المرحلة سياسيا، وانتظارات الجمهور مهنيا، من الضروري أن تنهض مقاربة جديدة تنطوي على نهج يعكس انفتاحا أكبر على النموذج الأنجلوسكسوني، الذي يولي مكانة أبرز وحظوة أهم للصحافة التفسيرية الشارحة التي تخاطب العقل في القضايا الكبرى، بما فيها الملفات التقنية المتشعبة وصعبة الفهم والاستيعاب بالنسبة للمتلقي من قبيل الإشكاليات المالية والاقتصادية... إلخ.

إنّ هذا المخاض المضني في مسار تجديد وتطوير المقاربات الصحفية في المشهد الإعلامي التونسي، يحتاج إلى حاضنة مهنية تنطلق من معاهد الصحافة ومراكز التكوين والتدريب، وصولا إلى المؤسسات الإعلامية التي تهتم بالاشتغال على صحافة الجودة والعمق، والتي يجب أن ترسخ ذلك في مواثيقها وسياساتها التحريرية. إنه مسار يبدو عسيرا، لكنّه سيقود حتما إلى الهجرة صوب الصحافة التفسيرية كجزء من عقلنة المشهد الصحفي التونسي.

هذه الهجرة نحو الصحافة التفسيرية كمبحث وتخصص إعلامي بدأت تتشكل إرهاصاتها في السنوات القليلة الماضية في تونس، مع بروز جيل جديد من الصحفيين والمؤسسات الصحفية التي تبحث عن الجودة والمهنية كخيار تحريري. توجه يراد من خلاله القطع مع إرث الماضي القريب والبعيد في إطار المراكمة والإصلاح والتجديد ومواكبة التحولات التي تشهدها المهنة في العالم ككل، لاسيما في التجارب الديمقراطية العريقة، تزامنا مع سياق تاريخي عالمي يصنّفه بعض الفلاسفة على أنه زمن "ما بعد الحقيقة" (10).

 

 

 

 

 

 

   

قائمة المصادر والمراجع:

1)  وائل الونيفي: تقرير تربص براديو نزاهة لنيل الإجازة التطبيقية في الصحافة، "محاربة الأخبار الزائفة المتعلقة بالفساد والحوكمة الرشيدة: الصحافة التفسيرية كأداة"، الجامعة المركزية الخاصة، تونس. السنة الجامعية 2019 - 2020

 

2)  http://www.siironline.org/alabwab/alhoda-culture/134.ht

 

3)  https://www.pulitzer.org/prize-winners-by-category/2073-

 

4)  https://www.vox.com/pages/about-us

5)https://www.vox.com/2014/4/6/5556462/brain-dead-how-politics-makes-us-stupid

6)  https://bit.ly/2T2NFRb

7)  https://rsf.org/ar/twns

 

8)  https://institute.aljazeera.net/ar/ajr/article/1255

 

9)  https://bit.ly/3hZUawr

 

10)            https://dictionary.cambridge.org/dictionary/english/post-truth

More Articles

The Whispers of Resistance in Assad’s Reign

For more than a decade of the Syrian revolution, the former regime has employed various forms of intimidation against journalists—killing, interrogations, and forced displacement—all for a single purpose: silencing their voices. Mawadda Bahah hid behind pseudonyms and shifted her focus to environmental issues after a "brief session" at the Kafar Soussa branch of Syria’s intelligence agency.

Mawadah Bahah
Mawadah Bahah Published on: 18 Feb, 2025
Invisible Crisis: The Deteriorating Mental Health Among African Journalists

The revealing yet underreported impact of mental health on African journalists is far-reaching. Many of them lack medical insurance, support, and counselling while covering sensitive topics or residing in conflicting, violent war zones, with some even considering suicide.

Derick Matsengarwodzi
Derick Matsengarwodzi Published on: 13 Feb, 2025
Tweets Aren’t News: Why Journalism Still Matters

Twitter, once key for real-time news, has become a battleground of misinformation and outrage, drowning out factual journalism. With major newspapers leaving, the challenge is to remind audiences that true news comes from credible sources, not the chaos of social media.

Ilya
Ilya U Topper Published on: 10 Feb, 2025
Will Meta Become a Platform for Disinformation and Conspiracy Theories?

Meta’s decision to abandon third-party fact-checking in favor of Community Notes aligns with Donald Trump’s long-standing criticisms of media scrutiny, raising concerns that the platform will fuel disinformation, conspiracy theories, and political polarization. With support from Elon Musk’s X, major social media platforms now lean toward a "Trumpian" stance, potentially weakening global fact-checking efforts and reshaping the online information landscape.

Arwa Kooli
Arwa Kooli Published on: 5 Feb, 2025
October 7: The Battle for Narratives and the Forgotten Roots of Palestine

What is the difference between October 6th and October 7th? How did the media distort the historical context and mislead the public? Why did some Arab media strip the genocidal war from its roots? Is there an agenda behind highlighting the Israel-Hamas duality in news coverage?

Said El Hajji
Said El Hajji Published on: 21 Jan, 2025
Challenges of Unequal Data Flow on Southern Narratives

The digital revolution has widened the gap between the Global South and the North. Beyond theories that attribute this disparity to the North's technological dominance, the article explores how national and local policies in the South shape and influence its narratives.

Hassan Obeid
Hassan Obeid Published on: 14 Jan, 2025
Decolonise How? Humanitarian Journalism is No Ordinary Journalism

Unlike most journalism, which involves explaining societies to themselves, war reporting and foreign correspondence explain the suffering of exoticised communities to audiences back home, often within a context of profound ignorance about these othered places. Humanitarian journalism seeks to counter this with empathetic storytelling that amplifies local voices and prioritises ethical representation.

Patrick Gathara
Patrick Gathara Published on: 8 Jan, 2025
Mastering Journalistic Storytelling: The Power of Media Practices

Narration in journalism thrives when it's grounded in fieldwork and direct engagement with the story. Its primary goal is to evoke impact and empathy, centering on the human experience. However, the Arab press has often shifted this focus, favoring office-based reporting over firsthand accounts, resulting in narratives that lack genuine substance.

AJR logo
Zainab Tarhini Published on: 7 Jan, 2025
I Resigned from CNN Over its Pro-Israel Bias

  Developing as a young journalist without jeopardizing your morals has become incredibly difficult.

Ana Maria Monjardino
Ana Maria Monjardino Published on: 2 Jan, 2025
Digital Colonialism: The Global South Facing Closed Screens

After the independence of the Maghreb countries, the old resistance fighters used to say that "colonialism left through the door only to return through the window," and now it is returning in new forms of dominance through the window of digital colonialism. This control is evident in the acquisition of major technological and media companies, while the South is still looking for an alternative.

Ahmad Radwan
Ahmad Radwan Published on: 31 Dec, 2024
Independent Syrian Journalism: From Revolution to Assad's Fall

Independent Syrian journalism played a pivotal role in exposing regime corruption and documenting war crimes during the 13-year revolution, despite immense risks to journalists, including imprisonment, assassination, and exile. Operating from abroad, these journalists pioneered investigative and open-source reporting, preserving evidence, and shaping narratives that challenged the Assad regime's propaganda.

Ahmad Haj Hamdo
Ahmad Haj Hamdo Published on: 17 Dec, 2024
Bolivia’s Mines and Radio: A Voice of the Global South Against Hegemony

Miners' radio stations in the heart of Bolivia's mining communities, played a crucial role in shaping communication within mining communities, contributing to social and political movements. These stations intersected with anarchist theatre, educational initiatives, and alternative media, addressing labour rights, minority groups, and imperialism.

Khaldoun Shami PhD
Khaldoun H. Shami Published on: 16 Dec, 2024
How Does Misinformation Undermine Public Trust in Journalism?

Reports reveal a growing loss of trust in the media, driven by the extent of misinformation that undermines professional journalism's ability to influence public discourse. The platforms of misinformation, now supported by states and private entities during conflicts and wars, threaten to strip the profession of its core roles of accountability and oversight.

Muhammad Khamaiseh Published on: 13 Nov, 2024
Challenging the Narrative: Jeremy Scahill on the Need for Adversarial Journalism

Investigative journalist Jeremy Scahill calls for a revival of "adversarial journalism" to reinstate crucial professional and humanitarian values in mainstream Western media, especially regarding the coverage of the Gaza genocide.

Mohammad Zeidan
Mohammad Zeidan Published on: 10 Nov, 2024
Freedom of the Press in Jordan and Unconstitutional Interpretations

Since the approval of the Cybercrime Law in Jordan, freedom of opinion and expression has entered a troubling phase marked by the arrest of journalists and restrictions on media. Musab Shawabkeh offers a constitutional reading based on interpretations and rulings that uphold freedom of expression in a context where the country needs diverse opinions in the face of the Israeli ultra right wing politics.

Musab Shawabkeh
Musab Al Shawabkeh Published on: 8 Nov, 2024
Voting in a Time of Genocide

The upcoming U.S. presidential election occurs against the backdrop of the ongoing genocide in Gaza, with AJ Plus prioritising marginalised voices and critically analysing Western mainstream media narratives while highlighting the undemocratic aspects of the U.S. electoral system.

Tony Karon Published on: 22 Oct, 2024
Journalists Should Not Embrace the Artificial Intelligence Hype

What factors should journalists take into account while discussing the use of AI in the media?

Jorge Sagastume Muralles
Jorge Sagastume Published on: 16 Oct, 2024
A Year of Genocide and Bias: Western Media's Whitewashing of Israel's Ongoing War on Gaza

Major Western media outlets continue to prove that they are a party in the war of narratives, siding with the Israeli occupation. The article explains how these major Western media outlets are still refining their techniques of bias in favor of the occupation, even a year after the genocide in Palestine.

Mohammad Zeidan
Mohammad Zeidan Published on: 9 Oct, 2024
A Half-Truth is a Full Lie

Misinformation is rampant in modern conflicts, worsened by the internet and social media, where false news spreads easily. While news agencies aim to provide unbiased, fact-based reporting, their focus on brevity and hard facts often lacks the necessary context, leaving the public vulnerable to manipulation and unable to fully grasp the complexities of these issues.

Ilya
Ilya U Topper Published on: 30 Sep, 2024
Testimonies of the First Witness of the Sabra & Shatila Massacre

The Sabra and Shatila massacre in 1982 saw over 3,000 unarmed Palestinian refugees brutally killed by Phalangist militias under the facilitation of Israeli forces. As the first journalist to enter the camps, Japanese journalist Ryuichi Hirokawa provides a harrowing first-hand account of the atrocity amid a media blackout. His testimony highlights the power of bearing witness to a war crime and contrasts the past Israeli public outcry with today’s silence over the ongoing genocide in Gaza.

Mei Shigenobu مي شيغينوبو
Mei Shigenobu Published on: 18 Sep, 2024
Anonymous Sources in the New York Times... Covering the War with One Eye

The use of anonymous sources in journalism is considered, within professional and ethical standards, a “last option” for journalists. However, analysis of New York Times data reveals a persistent pattern in the use of “anonymity” to support specific narratives, especially Israeli narratives.

Mohammad Zeidan
Mohammad Zeidan Published on: 8 Sep, 2024
India and Pakistan; Journalists building Bridges for Understanding

Amid decades of tension, journalists from India and Pakistan are uniting to combat hostile narratives and highlight shared challenges. Through collaboration, they’re fostering understanding on pressing issues like climate change and healthcare, proving that empathy can transcend borders. Discover how initiatives like the Journalists' Exchange Programme are paving the way for peace journalism and a more nuanced narrative.

Safina
Safina Nabi Published on: 12 Aug, 2024
From TV Screens to YouTube: The Rise of Exiled Journalists in Pakistan

Pakistani journalists are leveraging YouTube to overcome censorship, connecting with global audiences, and redefining independent reporting in their homeland.

Anam Hussain
Anam Hussain Published on: 28 Jul, 2024
How AI Synthesised Media Shapes Voter Perception: India's Case in Point

The recent Indian elections witnessed the unprecedented use of generative AI, leading to a surge in misinformation and deepfakes. Political parties leveraged AI to create digital avatars of deceased leaders, Bollywood actors

Suvrat Arora
Suvrat Arora Published on: 12 Jun, 2024