بين الإعلام والإرهاب علاقة وثيقة.. الإرهاب يبحث دائما عن الحضور الإعلامي، فلا وجود لعملية إرهابية في السياق المعاصر خارج الدورة الإعلامية. و"الإرهابي" الذي يقتل في صمت بعيدا عن عدسات الكاميرا، لا يحقق الأثر الذي يرمي إليهوالمتمثل في نشر الخوف والضغط على الحكومات ورفع مستوى الاستقطاب.
في المقابل يبحث الإعلام عن رفع نسب المشاهدة، لأسباب تجارية أو سياسية أو أيدولوجية أحيانا، وليس ثمة لحظة أكثر استقطابا للمتابعة من "العملية الإرهابية"، إذ إن رد الفعل البديهي لكل فرد عند سماعه بحدوث هذا النوع من العمليات -خاصة في البلد الذي ينتمي إليه أو يعيش فيه- يتمثل في فتح جهاز التلفاز أو البحث على شبكة الإنترنت. يصبح الأمر والحالة هذه أشبه بعلاقة غريبة كل طرف فيها يستفيد من الآخر دون أي توافق أو تواطؤ مسبق، ودون أن تكون للطرفين نفس الأهداف والغايات.
لذلك يمكن القول إن "العمل الإرهابي" عمل إعلامي بامتياز، أي أنه لا يتم خارج دائرة الأضواء وخارج الصورة، فإذا لم يُصوّر الحادث أيُّ شاهد، فسيتكفل منفذوه بتصويره وبثه على شبكة الإنترنت. ولعل صورة انهيار برجي التجارة العالمية في نيويورك يوم 11 سبتمبر/أيلول 2001 مثلت ما يمكن وصفها "بالصورة المرجعية للرعب".
ومع انتشار الإنترنت وظهور وسائل التواصل الاجتماعي، تحولت الصورة إلى جزء لا يتجزأ من "العملية الإرهابية" ذاتها، بل قد تكون أكثر أهمية من الفعل نفسه. حتى وصلنا إلى ما يمكن تسميته "مَسْرحة العنف" من خلال إعطائه طابعا فُرجَويًّا عبر إخراج متقن واستعمال بارع للمؤثرات الصوتية والمرئية. ولنتذكر هنا عملية إعدام عمال مصريين على السواحل الليبية من قبل تنظيم الدولة، أو إحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة على يد التنظيم نفسه. فالأمر لم يكن يتعلق بمجرد عملية قتل كان يمكن تنفيذها بالرصاص، وإنما يتعلق بعملية تواصلية دموية بأهداف مختلفة.
لكن مع تكرر العمليات الإرهابية، وحدوث أخطاء كثيرة في التغطيات الإعلامية لقنوات مختلفة، بعضها يندرج في إطار "الكبائر" الإعلامية والبعض الآخر يندرج في سياق "اللمم"، أصبح السؤال مشروعا.. ما هي مواصفات التغطية الإعلامية المهنية والمتوازنة التي لا تسقط في "لعبة المهاجمين" الباحثين عن استعراض إعلامي لعمليتهم، ولا تسيء لذكرى الضحايا، أو بكل بساطة لا تزوّر الحقيقة.. تغطية تتوخى الدقة في الخبر والتوازن في التحليل؟
1- انتقاء الأخبار ومعالجتها.. أسطورة الحياد
التجربة الفرنسية في هذا السياق لا تبدو قادرة على تقديم نموذج مهني يحتذى. منذ أول هجوم يندرج ضمن الجيل الجديد للعمليات الإرهابية عام 1995 في سان ميشيل، إلى هجوم كنيسة سانت إيتيان دوروفراي صيف العام 2016، مرورا بهجمات شارلي إيبدو في يناير/كانون الثاني 2014، وهجمات باريس (باتاكلان والمقاهي) في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، ونيس في يوليو/تموز 2016، لم تحسم وسائل الإعلام الفرنسية -بما فيها الأكثر رصانة- في النموذج الأمثل للتغطية، الذي يضمن الدقة في نقل الخبر والتوازن في نقل وجهات النظر، ولا يسقط في الإساءة للضحايا، أو التعميم أو الخلط، أو التحريض على فئة من المجتمع الفرنسي.
لا بد من الإشارة في البداية إلى أن مسار إنتاج المادة الإعلامية معقد ومرتبط بإكراهات تحريرية وتنظيمية وحتى سياسية يخضع لها الصحفيون. فالخبر نتاج تفاعلات بين عوامل عدة من بينها البنية الاقتصادية للمؤسسة، والسياق الثقافي الذي تعمل في إطاره، وتفاعلاتها الداخلية المرتبطة بخطها التحريري وتنظيم عمل الصحفيين، وعلاقاتها الخارجية مع المعلنين ومصادر الخبر والسلطة السياسية ومجموعات الضغط وغير ذلك.
هذه التفاعلات هي التي تخلق "واقعا" إعلاميا يمكن وصفه بأنه يمثل الدرجة الثانية من "الحقيقة"، قد تقترب أو تبتعد بمقدار من "الحقيقة الأصلية" بحسب تأثرها بالعوامل السالفة الذكر. والصحفي في هذا المستوى لا يمكنه أن يدعي أنه في موقع من يستكشف العالم لينقل حقائقه بكل موضوعية وتجرد إلى المتلقين.. إنه يخضع لنظام ملزم يفرض عليه ما يقال وما لا يقال.
هذا هو المسار الطبيعي الذي يخضع له أي منتوج إخباري، أيا كانت طبيعته، فكيف إذا تعلق الأمر بقضايا مثل الإرهاب تتجمع فيها كل عناصر الإثارة التقليدية: الدم والدين والغموض.
2- تغطية متسرعة تنحو إلى الإثارة
إذا أخذنا بعين الاعتبار كل العمليات التي عرفتها فرنسا، فإن السيناريو ذاته يتكرر عند كل عملية إرهابية، سواء تعلق الأمر بشارلي إيبدو أو عمليات باريس أو نيس أو سانت إيتيان دوروفري.. تعبئة شاملة داخل غرف الأخبار وفي الميدان، خاصة في القنواتالتلفزيونية الإخبارية، إذ بمجرد وقوع العملية تنطلق تغطية مفتوحة تستمر لساعات -وربما لأيام- من البث المباشر للأخبار والمقابلات والتحليلات المستمرة دون توقف على مدار الساعة. وطيلة هذه المدة، تصل الأخبار مباشرة إلى أذن المذيع عبر السماعة التي تربطه بالمنتج، وكل تفصيل صغير أو حادث مهما بدا تافها؛ يتحول إلى موضوع تعليق من المراسل أو من المذيع. كما أن أي شخص يسكن قرب مسرح العملية أو مرّ قريبا منها، يمكن أن يصبح شاهد عيان تستجوبه القنوات الإخبارية لتقديم روايته، دون أي تمحيص أو تدقيق.
وهنا أورد شهادة سمعتها من مصدر موثوق، أنه خلال أحداث محمد مراح في ستراسبورغ عام 2012، تراهن بعض عناصر الحماية المدنية فيما بينهم على أنهم سيظهرون على القنوات الإخبارية الفرنسية من خلال حركة بسيطة، وهي مرورهم جريا أمام عدسات الكاميرات.. وصدق الرهان.. وبعد دقائق قليلة كانت كثير من القنوات الإخبارية الفرنسية تنقل أن "شيئا ما يحدث" في محيط العملية، وأن عناصر الحماية المدنية شوهدوا وهم يركضون. بعض المحللين يتمادون ويذهبون بعيدا في تقديم تفسيرات لا أصل لها.
هذه التغطية المفتوحة المستمرة لا تفرضها المقتضيات التحريرية، وإنما يفرضها وجودُ فراغ يجب ملؤه، ووقت تلفزيوني يجب تغطيته، وأيضا عطش لدى المشاهدين يجب إرواؤه. هكذا يبدأ تنافس شرس بين المؤسسات الإعلامية المختلفة، تضاف إليه منافسة وسائل التواصل التي تلقي بعبء إضافي على وسائل الإعلام؛ يتمثل في التثبت من صدقية الأخبار الواردة على شبكات التواصل الاجتماعي.
هذه الرغبة المحمومة في نقل كل الأخبار مباشرة ترتبط بمفهوم آخر يكتسي أهمية كبرى لدى الصحفيين، وهو مفهوم السبق المتمثل في نقل الخبر والصورة قبل الآخرين.
تلك العجلة لا تترك عادة لوسائل الإعلام الوقتَ للتثبت من صدقية الخبر ولمقارنة المصادر، ولذلك لاحظنا أن وسائل الإعلام الفرنسية كثيرا ما تلجأ إلى "الاحتمالية" (conditionnel) في صياغة الأخبار.. وهو استعمال لغوي في الفرنسية يحيل على الاحتمال، فنسمع في نشرات الأخبار وفي اللحظات الأولى لوقوع العملية.. "المهاجم قد يكون صاح: الله أكبر" و"المهاجم قد يكون لاذ بالفرار"، أو "رهائن قد يكونون قيد الاحتجاز".
يتعلق الأمر في النهاية بطريقة "ماكرة" لتمرير الأخبار غير المؤكدة على أمل أن تتبين صحتها فتكون المؤسسة قد سجلت سبقا، وإلا فهي حِلٌّ من أمرها ما دامت استعملت صيغة عدم التأكيد. وهذا الأمر له أثر إعلامي لا يخطئه الباحثون، خاصة عندما يتعلق بحادث كبير يساهم في تغيير البنية الذهنية للمجتمع.
والأمر نفسه ينطبق على من يقدَّمون على أنهم محلِّلون، إذ ليس لديهم الوقت الكافي ولا المعطيات التي تسمح بتقديم تحليل رصين وهادئ، لذلك نجد أنفسنا أمام "محلِّلين على السريع" (Fast analysts) مستعدين للحضور إلى البلاتوهات التلفزية في كل وقت، وغالبا ما يرددون كلاما عاما يصلح لكل الحالات، وفي أحيان كثيرة يكون مليئا بالأحكام المسبقة التي تقول للمشاهدين ما يرضيهم، أي أنها تنحو باتجاه تكريس الأفكار النمطية المسبقة حول الإرهاب.
والمثال الأبرز لذلك.. حادث مطار أورلي بالعاصمة باريس في مارس/آذار الماضي، عندما نزع شخص سلاح شرطي وحاول إطلاق النار قبل أن تتعامل معه الشرطة. أحد المحللين على قناة "بي.أف.أم" (BFM) -وهي القناة الإخبارية الأولى في فرنسا- ربط بشكل متعسف بين توقيت هذا الحادث وموعد صعود طائرة تابعة لشركة خطوط العال متجهة إلى تل أبيب، مستنتجا دون أن تتوفر لديه أي معطيات أن الجاني إنما كان يستهدف هذه الطائرة، ليسترسل بعد ذلك في ربطٍ لا دليل عليه بين العملية ومعاداة السامية في فرنسا.
وترتبط هذه العجلة بخاصية أخرى تميز تغطية الإعلام الفرنسي لقضايا الإرهاب وهي الإثارة، لأنه في سياق منطق السوق القائم على جذب أكبر قدر من المتابعين، تبحث بعض وسائل الإعلام عن منح جاذبية أكبر لتغطياتها من خلال المبالغات والتضخيم، ويصل الأمر إلى خرق أخلاقيات المهنة، بل وإلى تحوير الحقيقة.
الأمثلة كثيرة.. في هجوم نيس الذي أودى بحياة 84 شخصا، لم تجد القناة الفرنسية الثانية حرجا في إجراء مقابلة مع رجل وإلى جانبه جثة زوجته المقتولة. وهذا مثال واحد فقط من عشرات الأمثلة. ويكفي أن أشير هنا إلى أن المجلس الأعلى للسمعي البصري في فرنسا -وهو الهيئة العليا المخولة بتنظيم القطاع- رصد 36 إخلالا في تغطية وسائل الإعلام لأحداث شارلي إيبدو خلال يومين فقط، من بينها نشر فيديو الشرطي أحمد المرابط لحظة قتله من قبل الأخوين كواشي منفذيْ عملية شارلي إيبدو. وجل هذه الخروقات المسجلة ترتبط بالاستعجال والبحث عن السبق والإثارة.
والملاحظ أن الإعلام الألماني على سبيل المثال كان أكثر تأنيا في التعاطي مع العملية التي استهدفت سوق أعياد الميلاد في برلين. بل إن إطلاق صفة العملية الإرهابية على العملية تم بعد ساعات طويلة، وبعدما أكدت الشرطة ذلك.
3- معايير مزدوجة
ثمة خاصية أخرى تميز تعاطي الإعلام الفرنسي مع العمليات الإرهابية، تتمثل في الخلط وعدم أخذ مسافة كافية من الحدث. فبمجرد وقوع عملية تدور الآلة الإعلامية بأقصى سرعتها. وقبل تبيّن تفاصيلها، تتداول وسائل الإعلام القاموس الذي يحيل على الإرهاب، وخلال هذه المرحلة تختلط الشائعات بالحقائق، خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، ومعها يصعد خطاب الكراهية.
الأمثلة كثيرة.. في مارس/آذار الماضي كاد شخص مخمور أن يدهس مارة في مدينة أونفير في بلجيكا. العملية أحالت على عملية نيس وعملية برلين. في اللحظات الأولى للعملية بدأ الحديث عن عملية إرهابية، ثم تبين بعدها أن الأمر يتعلق بشخص مخمور ومخدر، وأن فعله ليس له دوافع دينية أو أيدولوجية.
في المقابل، عندما قتل متطرف يميني ستة مصلين في مسجد في كيبيك، كانت الصورة مختلفة.. تغطية محدودة كمًّا ومختلفة كيفًا، علما بأن الهجوم يشبه ذلك الذي وقع ضد كنيسة سانت إيتيان دوروفري في فرنسا عندما ذُبح قس أثناء الصلاة صباحا صيف العام 2016، فكلا الهجومين استهدف دارا للعبادة، لكن التغطية الإعلامية لجل وسائل الإعلام الفرنسية لم تنتبه لهذا التشابه حد التطابق. وفي الوقت الذي استعملت فيه وسائل الإعلام الكندية مصطلح الإرهاب لوصف العملية التي استهدفت المسجد، اكتفت جل وسائل الإعلام بالحديث عن هجوم أو إطلاق نار، أو استعملت مصطلح الإرهاب بين مزدوجتين للإحالة إلى تصريحات الحكومة الكندية.
صحيح أنه ليس هناك تعريف دولي متفق عليه للإرهاب، لكن التوجه العام الذي درجت عليه الدول والمنظمات غير الحكومية يعتبر أن الإرهاب هو "كل استعمال للعنف لأهداف دينية أو سياسية أو أيدولوجية"، لكن التغطية الإعلامية أضافت -ولو بشكل غير مقصود- شرطا جديدا كي يوصف الهجوم بالإرهاب، وهو أن يكون الفاعل مسلما.
وأضرب هنا مثلا.. في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 تسلل شخص إلى دار عجزة للرهبان قريبة من مونبيلييه الفرنسية وقتل حارس المبنى الذي يعيش فيه نحو ستين راهبا، معظمهم عاد للتو من إرسالية تنصيرية في أفريقيا. لأول وهلة تعاملت وسائل الإعلام الفرنسية مع الأمر على أنه عملية إرهابية، فكل المواصفات متوفرة، لكن بعد بضع ساعات تبين أن الأمر له علاقة بشخص كان يعمل سابقا في المبنى ذاته، وأن الحادثة تتعلق بتصفية حسابات.
بيْن الخبر في صيغته الأولى وتأكيد الطبيعة الجنائية للحادث، كانت وسائل الإعلام قد أفردت تغطية مفتوحة استُدعيت فيها كل مفردات الإرهاب والخطر القائم بين ظهراني الفرنسيين.. لكن تغيّر هوية المنفذ غيّرت توصيف الجريمة.
ولذلك عندما نسمع في وسائل الإعلام الفرنسية عبارة "ولم يتم التأكد إن كانت العملية إرهابية"، فكأنما يقول بطريقة غير مباشرة "ولم يتم التأكد إن كان الفاعل مسلما".. لأنه إذا تبين أنه مسلم، فإن العمل إرهابي إلى أن يثبت العكس، وأما إذا كان المنفذ غير مسلم فيتم التعامل مع القضية برصانة أكبر، ويتم بحثها من أوجهها المتعددة، من بينها احتمال الاختلال النفسي، أو تصفية حسابات وغير ذلك.
وهذا ما يمنح المسلمين الفرنسيين إحساسا بأن هناك توجها إعلاميا لربط مصطلح الإرهاب باسمهم. وهذا الأمر -وإن لم يكن مقصودا- يساهم في مزيد من خلط المفاهيم ومن الإقصاء الاجتماعي، ويزيد من الهوة الاجتماعية القائمة بين أبناء الوطن الواحد، علما بأن من مسؤولية الصحفي ألا يسمح للبديهيات وما يتداوله الناس بالتأثير على تغطيته.