يعد "بيت من ورق" أحد أبرز إنتاجات شبكة نتفيلكس وأنجحها، وهو مسلسل أمريكي مأخوذ عن رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب البريطاني مايكل دويس. تدور أحداث المسلسل في واشنطن العاصمة، وتتناول الصعود السياسي المفاجئ والمريب لزعيم الحزب الديمقراطي فرانسيس أندروود الذي كان من المفترض أن يعين وزيرا للخارجية في الحكومة الجديدة. تُجُووِز من قبل الرئيس، ليبدأ بعدها خطة معقدة طمح فيها للإطاحة بالرئيس وحكومته للوصول إلى الحكم. وفي سعيه لتحقيق ذلك، يستعين بمراسلة صحيفة واشنطن هيرالد زوي بارنز التي تقود تحقيقا صحفيا تزعم فيه فساد الحكومة.
رغم المبالغات الدرامية في المسلسل، وتعليق مايكل دويس في أكثر من مناسبة أنه استلهم فكرة الرواية من مسرحيات شكسبير وليس من خلفية عمله السياسي في حكومة تاتشر، فإن السجال الحاصل بين كل من المؤسسة الإعلامية وصناع القرار السياسي هو شيء لا يمكن دحضه؛ فعلى مدار العقود المنصرمة لعبت وسائل الإعلام دورا محوريا في صناعة كثير من القرارات السياسية.
يمكن أن يكون نموذج Muckraker الإعلامي هو أول تماس ينشأ بين الصحافة والسياسة. "Muckraker"، وترجمته "الكاشف"، هو نموذج إعلامي يقوم على أن التغطية الإعلامية تؤثر في الرأي العام، الذي بدوره يؤثر في القرارات الحكومية. ظهر هذا النموذج لأول مرة في الولايات المتحدة أواخر القرن التاسع عشر؛ إذ تحولت الصحافة الأمريكية، حينئذ، من كونها مجرد ناقل للأخبار إلى باحث وكاشف عن الانتهاكات والفساد داخل الحكومة، فيما أصبح يعرف بالصحافة الاستقصائية.
رغم أن دور وسائل الإعلام في صناعة القرار السياسي أصبح أقوى وأبرز في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، فإنه لم يعد يصب في المصلحة العامة بقدر ما أصبح يصب في مصلحة صناع القرار السياسي.
لقد كان لينكولن ستيفن أحد رواد الصحافة الاستقصائية، حيث عمل محررا في مجلة ماكلور إحدى المجلات الرائدة في التحقيقات الصحفية، وتخصص في التحقيق في الفساد الحكومي، وأعطاه الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت إمكانية الوصول إلى البيت الأبيض وإجراء ومقابلات ونشر القصص الصحفية.
كذلك لا يمكن تجاوز تجربة إيدا ترابيل، وهي من أوائل الصحفيات الاستقصائيات، واشتُهرت بكتابها "تاريخ شركة ستاندر أويل" الذي نشر في 1904، وهو كتاب توثق فيه مجموعة الانتهاكات التي ضلعت بها الشركة، والتي كانت تدار من قبل جون د. روكفلر أحد أغنى الشخصيات في التاريخ الأمريكي. نُشر الكتاب في الأول على شكل تسعة عشر مقالاً في مجلة "ماكلور" ما بين 1902 إلى 1904، وأسهم في سن بعض القوانين مثل قانون هيبرون، وإنشاء لجنة التجارة الفيدرالية.
استطاع كل من ستيفن وترابيل وزملائهم في هذه الفترة نقل الصحافة من مجرد ناقل للمعلومة إلى مدقق ومحقق فيها، فأصبحت تمثل سلطة رقابية جديدة قادرة على فرض نفسها على صناع القرار السياسي. وبحلول الستينيات، أصبح العمل الاستقصائي في الولايات المتحدة أكثر سهولة بعد صدور قانون حرية المعلومات الذي يجبر حكومة الولايات المتحدة الأمريكية على كشف جزئي أو كامل للمعلومات.
استطاع كل من ستيفن وترابيل وزملائهم في هذه الفترة نقل الصحافة من مجرد ناقل للمعلومة إلى مدقق ومحقق فيها، فأصبحت تمثل سلطة رقابية جديدة قادرة على فرض نفسها على صناع القرار السياسي.
ولعل أبرز الأمثلة عن تأثير وسائل الإعلام على صناع القرار هي قضية ووترغيت التي وقعت في سبعينيات القرن الماضي؛ إذ لعبت وسائل الإعلام دورا حاسما في كشف تجسس الرئيس الأمريكي على الحزب الديمقراطي. تضمنت قضية ووترغيت الأنشطة غير القانونية لإدارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، بما في ذلك اقتحام مقر اللجنة الوطنية الديمقراطية، والمحاولات اللاحقة للتغطية على تورط مسؤولين رفيعي المستوى.
أدت وسائل الإعلام، ولا سيما صحيفة واشنطن بوست، دورا مهما في التحقيق والكشف عن ملابسات القضية؛ إذ تابع الصحفيان بوب وودوارد وكارل بيرنشتاين من الصحيفة القصة منذ بدايتها، معتمدين على مصادر مجهولة ومعلومات مسربة، وتمكنت تقاريرهم الاستقصائية من كشف مدى الفساد والمخالفات داخل إدارة الرئيس نيكسون.
ومن خلال تقاريرهما، كشف وودوارد وبرنشتاين عن نمط من إساءة استخدام السلطة وتجاهل سيادة القانون. ساعدت التغطية الإعلامية المتواصلة للقضية في تشكيل التصور العام، ما أدى إلى غضب واسع النطاق للرأي العام وفقدان الثقة بإدارة نيكسون.
أدت التغطية التي قدمتها واشنطن بوست والوسائل الإعلامية الأخرى إلى الضغط من أجل المساءلة القانونية للمتورطين بمن فيهم الرئيس نيكسون. وبالفعل، وُجهت ثلاث تهم رئيسية لنيكسون، وبدا واضحا أن مجلس النواب سيصوت بالإيجاب لصالح عزله من منصبه، ليكون أول رئيس يُعزل، قبل أن يقدم استقالته في الثامن من أغسطس 1974.
بعد ووترغيت غدا من الواضح للمؤسسات السياسية الدور الأساسي والفعال الذي تلعبه وسائل الإعلام، فأدى إلى ظهور "الحزبية الإعلامية"؛ إذ أصبحت الأحزاب السياسية تتخذ من وسائل الإعلام حليفا للدعاية لها ولتلميع صورتها. ويقابل ذلك الدعمَ دعمٌ مالي بطريقة معلنة أو غير معلنة. على سبيل المثال، الدعم الذي يقدمه الحزب الديمقراطي الأمريكي لشبكة سي أن أن الذي يقابله دعم جمهوري لشبكة فوكس نيوز.
بيد أن ذلك لا يعني أن وسائل الإعلام لا تتبنى من خلال أجندتها وسياستها التحريرية أفكارا حزبية؛ فمن المعروف مثلا أن صحيفة التلغراف البريطانية، هي صحيفة يمينية ذات موقف تحرير محافظ، وصحيفة لوموند الفرنسية ذات سياسة تحريرية يسارية معتدلة، إضافة إلى صحيفة "دي فيلت" الألمانية ذات السياسة التحريرية اليسارية... إلخ.
رغم أن دور وسائل الإعلام في صناعة القرار السياسي أصبح أقوى وأبرز في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، فإنه لم يعد يصب في المصلحة العامة بقدر ما أصبح يصب في مصلحة صناع القرار السياسي؛ فدور وسائل الإعلام هنا لم يعد الاستقصاء لكشف الحقائق وتسليط الضوء على الفساد فقط، بل في كثير من الأحيان الدفاع وتلميع صورة المؤسسة السياسية عندما يُسلّط الضوء على الفساد السياسي.
ومع تطور منصات التواصل الاجتماعي، تمكن العامة من مشاركة آرائهم بشأن القضايا المجتمعية والعالمية بحرية نسبية لم تتحها وسائل الإعلام التقليدية، ويُطلق على ذلك مصطلح "صحافة المواطن". ورغم الجدل الكبير بشأن الإشارة إلى ذلك النوع من النشاط بوصفه عملا صحفيا، فإن المنصات أصبحت تحظى بتأثير أكبر.
وهناك العشرات من الأمثلة التي تمكنت فيها منصات التواصل الاجتماعي، من التأثير في القرارات السياسية بطريقة مباشرة وغير مباشرة، ولعل أبرزها أحداث الربيع العربي؛ إذ مثلت منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب أدوات قوية لتنظيم المعلومات ونشرها، واستخدم الناشطون هذه المنصات لمشاركة مقاطع الفيديو والصور المتعلقة بالفساد الحكومي وانتهاكات حقوق الإنسان والدعوات إلى التغيير السياسي، علاوة على دورها في تعبئة الرأي العام وتشكيله. سمحت مواقع التواصل الاجتماعي بتسهيل انتشار المعلومات والتنسيق بين المتظاهرين في المناطق المختلفة، واستُخدمت علامات التصنيف مثل #Jan25 في مصر لمشاركة آخر التحديثات أولا بأول.كذلك شكلت هذه المنصات فضاء للرواية المضادة للسردية الإسرائيلية بشأن أحداث السابع من أكتوبر، ما أدى إلى احتجاجات عالمية على جرائم الإبادة الجماعية.
وهناك العشرات من الأمثلة التي تمكنت فيها منصات التواصل الاجتماعي، من التأثير في القرارات السياسية بطريقة مباشرة وغير مباشرة، ولعل أبرزها أحداث الربيع العربي؛ إذ مثلت منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب أدوات قوية لتنظيم المعلومات ونشرها
أفضت هذه الاحتجاجات إلى المساهمة في التعريف بالقضية الفلسطينية وتاريخها وتأطيرها في سياقها الحقيقي المتمثل في وجود قوة محتلة بموجب القانون الدولي.
منذ أواخر القرن التاسع العشر، بدأت وسائل الإعلام تؤدي دورا مختلفا في المعادلة السياسية؛ فلم يعد دورها يقتصر فقط على النقل والتوثيق، بل أصبحت مساهما مُهمّا في صناعة القرارات السياسية. وعلى الرغم من أن هذا الدور انطلق من منظور أخلاقي قائم على كشف الفساد السياسي، فإنه تطور ليصبح ربما مساهما في حماية الفساد السياسي، ولكن ظهور مواقع التواصل الاجتماعي خلق نوعا من الحرية النسبية والمشروطة أدى إلى إعادة نوع من التوازن في العلاقة بين الحقلين.