بات الحضور الأنثوي في الإعلام العربي مختلفا وأكثر كثافة، وازدادت المساحة الجادة فيه بشكل لا تخطئه الأعين، وكان للصحفيات حضور واضح في التغطيات الإخبارية على مدار العقود الثلاثة الماضية.
لعقدين من الزمن، لعبت قناة "الجزيرة" دورا مهمّاً في إخراج المرأة من النمط التقليدي ومن الأداء الوظيفي وسط سياق إعلامي ضيق؛ إلى حضور أكثر اتزانا وجدية.. وهكذا، دخلت الصحفيات عبر تلك البوابة كمقدمات للأخبار الجادة وناقلات لها من موقع الحدث مهما بلغت فيه الصعوبات.
مقاعد محجوزة في غرف الأخبار
آمال وناس واحدة من هذه التجارب المقدَّرة التي نجحت في حجز مقعد لها في أصعب مواقع غرف الأخبار، كمنتجة تدير الوقت وتتابع مجريات الأحداث حول العالم لتعد نشرات أخبار مكتملة، دون أي فرق بينها وبين زملائها الذكور. وفي الوقت الذي يهرب فيه الجميع من هذا العمل المضني، تقدم آمال صفوة خبرتها.
تقول آمال إن الآفاق متاحة في "الجزيرة" حتى لتقلّد المرأة رئاسة التحرير، وإن كان الأمر لا يخلو من بعض العقليّات التي لا تحبذ ذلك، لكن الخطوة الأولى برأيها تبدأ بتعزيز عدد الصحفيات داخل غرف الأخبار. وهي ترى أن لا تمييز سلبيا بينها وبين زملائها المُعدِّين؛ فهي لا تحبذ عيش دور الأقليات المضطهدة، وقد عملت والعديد من زميلاتها الصحفيات في دورية الليل سنوات طويلة، قبل أن تكلَّف بالنشرات النهارية. وبالنسبة لإشكاليات العمل الأخرى، فهي لا تبتعد كثيرا في جوهرها عما يعانيه بقية الزملاء.
ومن بين الصحفيات اللاتي حجزن لهن مقاعد في غرفة الأخبار، سلام هنداوي التي أعدت عنها المجلة موضوعا منفصلا للحديث أكثر عن تجربتها كمراسلة حربية، وهي تحصد ثمار المثابرة في برنامجها "المسافة صفر"، وترى أن الجزيرة منحتها فرصة إثبات نفسها في أكثر من تغطية ثم في برنامجها، مع تأكيدها أن هذا الحضور في "الجزيرة" ليس هيِّنا إذا ما نظرنا إلى الكثير من الزميلات الصحفيات في الميدان وعلى الشاشة، وحتى في إدارة بعض الأقسام بغرف الأخبار.
الصحفية إنسان لا أداة إنتاج
طوال أكثر من عشرين عاما عملت ديما الخطيب في مواقع عدة داخل وخارج شبكة "الجزيرة"، وفي سلم خبرتها الطويل عملت صحفية منتجة في غرفة أخبار الجزيرة، وسبق أن ترأّست مكتبا خارجيا للقناة. وهي اليوم المديرة التنفيذية لمنصة AJ+.
تجد ديما أن رئاسة تحرير غرفة الأخبار عمل شاق بالنسبة للصحفيات والصحفيين.. "ما من شكٍّ بأن قناة الجزيرة تريد للمرأة تبوأ كافة المناصب.. ولا أقول ذلك بصفتي مديرة تنفيذية تدافع عن الشبكة، وإنما من تجربتي الشخصية داخل المؤسسة ومن الطريقة التي كبرتُ بها هنا في دعم تام من الجميع.. العمل في غرفة الأخبار مهمة شاقة تتطلب التزاما طويلا بساعات العمل تأخذ من عمر الرجل والمرأة، أي أن هذا الموقع يتطلب من كليهما الاستغناء عن الحياة الخاصة مقابل النجاح المهني.. رئاسة غرفة الأخبار يعني تلك اللحظة التي سيفاضل فيها الإنسان بين طفله والخبر العاجل".
تواجه المرأة الصحفية حسب ديما العديد من المعقيات في العمل الصحفي، على غرار العمل ليلا والخروج لتغطيات خطرة، بالإضافة لمعيقات اجتماعية تتعلق بلباسها أو تعرّضها للتحرش، ناهيك عن الأحكام المسبقة من الرجل حول استطاعتها أداء المهمة.. كل هذه الأسباب تمنع المرأة من أن تكبر في السلم الوظيفي.. ومن هنا تضيف ديما "أعذر المرأة على عدم وصولها لرئاسة غرفة الأخبار في شبكة الجزيرة، فالمرأة تدفع ثمناً أكبر من الرجل في مسارها، ورغم أن الرجل يضحى بحياته الخاصة أيضا لصالح العمل، إلا أن المرأة تُضحى أكثر بسبب متطلباتها البيولوجية كأم وزوجة محكومة بكثير من الواجبات، وعندما تنتهي الصحفية من الإنجاب تكون قد ضاعت منها السنوات التي تبني فيها الخبرة التي توصلها لهذا المنصب وربما تنفلت منها الفرصة.
تجد ديما أن الصحفية تعاقَب على كونها امرأة، ليس فقط من المؤسسة التي تعمل بها بل من المجتمع بأكمله والذي تقوم فيه منظومة العمل بالتعامل مع الرجل والمرأة كأدوات إنتاج دون مراعاة لمحيطهم الأسري. وفي البحث عن الحلول تقترح وجود الحضانة ثم المدرسة داخل "الجزيرة" لحلِّ نسبة كبيرة من الإشكالات التي تعيق الريادة، واختصار الوقت والجهد وتحقيق الطمأنينة وتعزيز للإنتاجية.
ألوان ولهجات على الشاشة
جدلٌ من نوع جديد رافق ظهور مقدِّمة الأخبار على شاشة "الجزيرة" ميادة عبده، وهي أول سمراء تظهر على هذه الشاشة.. جدل وضعها تحت مجهرٍ يدقّق في كل حركة وكلمة تصدر منها.
حاجز الجندر لم يكن كافيا، ليضاف إليه حاجز اللون الذي لم يعتده العرب في القنوات غير المحلية.. تقاتل ميادة وهي تدافع عن رأيها بأن الكفاءات المهنية كانت الرافعة الأولى لحضورها، وبأن الشكل مجرّد مكمِّل تُراعى فيه الحدود المقبولة.. وهنا تشير إلى أن دورها كمذيعة يتجاوز دور قراءة النشرة، فهي تجهز ما ستقرؤه وتبدي رأيها في الصيغ، وتساهم في الإعداد للمقابلات التي ستجريها بالبحث عن معلومات تساهم في وضع المشاهد في الصورة الكاملة.. قتال لا ينكر الصورة النمطية التي تعتبر المرأة مجرد ديكور على حد وصفها، وهي معركة موكلة إلى المرأة في نبذ هذا الاعتقاد عبر ترسيخ حضورها المؤثر.
عن تجربتها في "الجزيرة"، تقول ميادة إن الأمور في هذا السياق كله كانت مثالية.. فلا الشكل ولا الجنس كانا عائقين. ويرى كثيرون أنها شكَّلت إضافة إلى المشهد الإعلامي كمكون عربي وإنساني أساسي لم يعتد المشاهد العربي عليه.
ومن حيث انتهينا مع ابنة القارة السمراء، تكمل زميلتها على الشاشة روعة أوجيه القادمة من المدرسة الفرنسية، كما تصف نفسها. تقول روعة إنها حاولت ابتداءً المساهمة في بناء النشرات، لكن الجو العام لم يتقبل الأمر، والاعتبار في ذلك أن المذيعين عموما لم يعتادوا فعل ذلك، وتعتقد أن قبول تدخّلها من قبل منتجي النشرات ليس بالمستوى ذاته لو كان المذيع رجلا.
وعلى خلاف زميلاتها السابقات، كانت روعة أكثر حدة في الإشارة إلى بعض التمييز أو الذكورية كما عبّرت، مستندة إلى التقييم العددي في حضور الزميلات الصحفيات داخل غرفة الأخبار. ومن هذا الباب ترى أن الفرص المتاحة للتقدم في المناصب القيادية لغرفة الأخبار قليلة ضمن الاعتبار العددي، خصوصا أن مستوى الكفاءة المطلوب متوفر بين الصحفيات العربيات عموما وفي "الجزيرة" خصوصا. وبرأي روعة فإن "هناك اعتبارات أخرى (غير جندرية) تخضع لها اختيارات مواعيد النشرات، كالتسلسل الزمني لتوظيف المذيع وقدم خبرته".
مع هذا، فقد أبدت اعتراضا على رفض بعض المدراء لمقترحات معينة تقدّمها بحجج تتعلق بمراعاة ظروفها الشخصية، مؤكدة أنها هي من تستطيع تحديد أولوياتها في العمل والتوفيق بينه وبين ظروفها، معتبرة هذا النوع من "التعاطف" تحديدا لطموحاتها.
التمييز الإيجابي لصالح المرأة
استكمالا للآراء السابقة، قابلنا في مجلة "الصحافة" مدير التحرير في غرفة أخبار "الجزيرة" أحمد الشروف الذي أخبرنا بأنه لا توجد إحصائيات دقيقة لأعداد العاملين في الغرفة من رجال ونساء، لكن المُلاحظ أن العدد يميل لصالح الرجال، سواء من ناحية الموظفين أو المُدراء، رغم أن المؤسسة ليس لديها أي سياسة للتمييز، بل تحاول تعزيز الفريق بالعنصر النسائي، وأنه إن كان هناك صحفي وصحفية متقدمان لنفس الوظيفة وكان التفاوت في الكفاءة بسيطا لصالح الرجل، فالصحفية -في هذه الحالة- تُقدّم على الصحفي عملاً بقاعدة "التمييز الإيجابي لصالح المرأة".
كما أن هناك أقساما -والحديث للشروف- يطغى فيها وجود المرأة، كقسم التقديم الإخباري الذي يضم مذيعات أكثر من المذيعين لكون المتقدّمين من الإناث أكثر.. عند تلك الجزئية، استوقفناه لمناقشة إن كان "الشَّكل" معيارا يتفوق على الكفاءة، وكانت إجابته بأن الشكل واحد من المعايير في مهنة التقديم الإخباري إلى جانب القدرة والكفاءة، إلا أنها مطبّقة على المذيعة والمذيع بنفس الدرجة.
وبالنسبة لتواجد الصحفيات في أقسام أخرى بغرفة الأخبار، علّق الشروف بأن الصحفيات عامة لا يملن إلى "إنتاج النشرات" لما في هذا العمل من ضغط نفسي وتوتر، لكن الباب مفتوح لأي زميلة تود العمل في ذلك القسم، كما حدث مع زميلتين "مميزتين" هما نانسي إسكندر وآمال ونّاس.
أما في حال تقدّم زميل أو زميلة بمقترحات، فإن الإدارة من حقّها تقدير الموقف لأنها تتحمّل المسؤولية، والمعايير والمخاوف المقدّرة تنطبق على كلا الجنسين.. "لا تمييز بين الموظّفين لا من حيث الرواتب ولا من حيث الأهمية ولا البدَلات في كل الشبكة".