مراسلون أطفال من قلب الجحيم

يركض أحد الأطفال حاملًا حقيبته فرحًا بانتقاله إلى الصّف الثاني الابتدائي، يريد أن يتعلم ليصبح طبيبا أو شخصا مرموقا في المستقبل. مضى على هذه الإرادة ثماني سنوات حدّدت مسار الأطفال وأملهم الذي بات يتمثل بهاتف محمول يحمله الكبير والصغير في أكبر هجمة شرسة وصفت بالجحيم؛ تشنّها طائرات روسيّة وسورية على منطقة مأهولة بالسّكان في غوطة دمشق الشرقية.

من شرفة في البيت يظهر منها دخان القصف متصاعدا. يقف محمد نجم ابن الخمسة عشر عاما بمفرده، يُخرج من حقيبته هاتفا محمولا يسلّطه على وجهه دونما إيعاز من أحد؛ يقول بلغة إنجليزية متقطعة اسمه وعمره ومكان إقامته في غوطة دمشق، مضيفًا: "We are killed by your silence".

في مشهد آخر، تظهر الطفلة سندس وهي لا تتجاوز من العمر عشر سنين؛ بكامل جهوزيتها واستعدادها لتوجّه كلامها إلى الكاميرا مباشرة وتنقلنا من واقع الحياة العادي إلى طقوس الحياة تحت الأرض.

تلفت الطّفلة الأنظار إلى ظروف معيشية يرزح تحتها الآلاف في الأقبية المظلمة التي تنعدم فيها الكهرباء والماء وأطعمة فرغت من الأسواق بسبب الحصار تارة، وبسبب تدمير المحال فوق رؤوس أهالي الغوطة بما فيها من مقوّمات الحياة البسيطة للعيش.

وكسيّدة كبيرة منفعلة، تتذمّر الطفلة سندس لِعدم قدرتها على جلب وسادة من بيتها في الطابق الأعلى خشية القصف أثناء نزولها إلى الملجأ، وبحرقة تشير بيدها إلى طبيعة الحياة القاسية التي يعيشها الأطفال والنساء في الأقبية المعتمة، وكأن سندس ألِفَت الكاميرا وألفَتها فلا تتلكّأ ولا ترتبك ولا تتعثّر بالكلمات.

تكرّرت هذه الصور بمأساة مختلفة سابقا عاشتها الأحياء الشرقية لمدينة حلب خلال تصعيد جنوني وقصف عنيف وُصفَ بيوم القيامة؛ برزت فيه الطفلة بانا العابد ابنة السبعة أعوام كمنبر إعلامي يتلقّى منه النّاس الأخبار، حيث استخدمت بانا حسابها على موقع تويتر بمساعدة والدتها لتضع المتابع في تطوّرات شارعها لحظة بلحظة.. انطلاقًا من قصف بيتها ومقتل أصدقائها الأطفال.

 خارج المألوف

كل ما عاشه هؤلاء الأطفال في سنوات الحروب هو أصوات طائرات مرتفعة وأشخاص يتبعون القصف بكاميراتهم؛ وهو ما يعتبره الأطفال اليوم مشاهد صالحة للعرض فاقتنصوا ـ في أسلوب لا يشبه قبله ـ لحظات هامة من الأحداث اليومية خالقين منها دراما إعلاميّة تخترق العجز والصمت الإعلامي حيال ما يجري في سوريا، نقلَ الأطفال أصوات الفاجعة من حلب وغوطة دمشق الشرقية لكل القنوات والوكالات العالمية؛ متحوّلين بالضرورة إلى ظاهرة إعلامية تتفوّق على آلاف الصور التي يلتقطها المراسلون والمواطنون الصحفيون ومن يعملون لصالح وكالات عربية وعالمية، إذ يبدو أن الأطفال لم يخرجوا عن الإطار المألوف فحسب، بل انطلقوا من عفويّتهم وأسلوبهم المباشر ومشاعرهم المباشرة.. فلا سياسة تحريرية أو سياقا سياسيا معيّنا يلتزم فيه الطفل حين يقرر الإدلاء بمعلوماته.. سيما وأن عين المشاهد العربي ألفت مشاهد الدم والأشلاء، ولم يعد من السهل أمام أي صورة أن تجد طريقها إلى وجدان المتابع العربي.

قدوة الأطفال

وبين مراسل ومصور ومواطن صحفيّ، وجد مئات السوريين أنفسهم منخرطين في المجال الإعلامي إلى أبعد حد، فبعد مرور سبعة أعوام على مشاهد النيران مترافقة مع زخم الأحداث المتتالية؛ فالمواطن السوري بدا أمام عجز واضح في ابتكار أسلوب جديد يلفت أنظار العالم إليه مجددًا وفق ما يقول الإعلامي السوري " محمد نور" الذي يعمل في صحيفة أجنبية، مشيرًا إلى أن معظم المواطنين الصحافيين اضطروا إلى الانصياع لضوابط الإعلام المرئي بعد انضمامهم إلى قنوات محلية وعربية معتمدين على التقنيات البسيطة في متناول أيديهم؛ بما يتضمّن ذلك إجراء بعض التحسينات قبل التصوير وبعد. لافتًا أن الفيديوهات المسجّلة تحتاج أحيانًا للإعادة مرة واثنتين لضمان عدم وجود أخطاء فنية أو لغوية.

ويرى أن عوائق عديدة اليوم في وجه المراسل السوري؛ ليس أولها عدم تلقي التدريب الكافي وليس آخرها بقاء معظم المدن السورية تحت الحصار لسنوات، ما جعله بمنأى عن التطوّر الإعلامي وابتكار أفكار جديدة. فلم يعد يلتفت إلى اللقطات الغريبة والمميزة لأن المكان صار جزءا من حياته وذاكرته اليوميّة يألَف مشاهده ويحفـظ أحداثه عن ظهر قلب.

ولا يزال المواطن الصّحفي السّوري رغم كل هذه العوائق هو القدوة التي يحتذي بها أطفال الجيل الجديد، ويرغبون في أن يكونوا مثله في المستقبل، لأن "المراسل" اليوم هو الظاهرة والمهنة الأكثر رواجا في الشّوارع السورية المشتعلة بالنيران؛ والتي لا ينفع معها أكثر من كاميرا تتتبع الأحداث وصوت مرتجف يقول للناس.. " نحن هنا.. نحن من لحم ودم.. نرجوكم أنقذونا.. الغوطة تباد"

المزيد من المقالات

صحفيو شمال غزة يكسرون عاما من العزلة

رغم الحصار والقتل والاستهداف المباشر للصحفيين الفلسطينيين في شمال غزة، يواصل "الشهود" توثيق جرائم الاحتلال في بيئة تكاد فيها ممارسة الصحافة مستحيلة.

محمد أبو قمر  نشرت في: 17 نوفمبر, 2024
جيريمي سكاهيل: الحرب على غزّة وضرورة العودة إلى "صحافة المواجهة"

يدعو الصحفي الاستقصائي الشهير جيريمي سكاهيل إلى إحياء ما أسماه "صحافة المواجهة" للتصدي لحالة التفريط بالقيم المهنية والإنسانية الأساسية في وسائل إعلام غربية مهيمنة، وخاصة في سياق تغطية الإبادة في قطاع غزة.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 6 نوفمبر, 2024
في السنغال.. "صحافة بلا صحافة"

شاشات سوداء، وإذاعات تكتم صوتها وصحف تحتجب عن الصدور في السنغال احتجاجا على إجراءات ضريبية أقرتها الحكومة. في البلد الذي يوصف بـ "واحة" الديمقراطية في غرب أفريقيا تواجه المؤسسات الإعلامية - خاصة الصغيرة - ضغوطا مالية متزايدة في مقابل تغول الرأسمال المتحكم في الأجندة التحريرية.

عبد الأحد الرشيد نشرت في: 5 نوفمبر, 2024
تهمة أن تكون صحفيا في السودان

بين متاريس الأطراف المتصارعة، نازحة تارة، ومتخفية من الرصاص تارة أخرى، عاشت الصحفية إيمان كمال الدين تجربة الصراع المسلح في السودان ونقلت لمجلة الصحافة هواجس وتحديات التغطية الميدانية في زمن التضليل واستهداف الصحفيين.

إيمان كمال الدين نشرت في: 28 أكتوبر, 2024
الأثر النفسي لحرب الإبادة على الصحفيين

ما هي الآثار النفسية لتغطية حرب الإبادة على الصحفيين؟ وهل يؤثر انغماسهم في القضية على توازنهم ومهنيتهم؟ وماذا يقول الطب النفسي؟

أحمد الصباهي نشرت في: 18 أكتوبر, 2024
"أن تعيش لتروي قصتي"

في قصيدته الأخيرة، كتب الدكتور الشهيد رفعت العرعير قائلا "إذا كان لا بد أن أموت فلا بد أن تعيش لتروي قصتي".

لينا شنّك نشرت في: 15 أكتوبر, 2024
عامٌ على حرب الإبادة في فلسطين.. الإعلام الغربي وهو يساوي بين الجاني والضحيّة

ما تزال وسائل إعلام غربية كبرى تثبت أنّها طرفٌ في حـرب الرواية، ولصالح الاحتلال الاسرائيلي.. في هذا المقال، يوضّح الزميل محمد زيدان كيف أن وسائل إعلام غربية كبرى ما تزال تطوّر من تقنيات تحيّزها لصالح الاحتلال، رغم انقضاء عام كامل على حرب الإبـادة في فلسطين.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 8 أكتوبر, 2024
حسابات وهمية بأقنعة عربية.. "جيش إلكتروني منظم"

أُغرقت منصات التواصل الاجتماعي بآلاف الحسابات الوهمية التي تزعم أنها تنتمي إلى بلدان العربية: تثير النعرات، وتلعب على وتر الصراعات، وتؤسس لحوارات وهمية حول قضايا جدلية. الزميلة لندا، تتبعت عشرات الحسابات، لتكشف عن نمط متكرر غايته خلق رأي عام وهمي بشأن دعم فئات من العرب لإسرائيل.

لندا شلش نشرت في: 6 أكتوبر, 2024
رصد وتفنيد التغطيات الصحفية المخالفة للمعايير المهنية في الحرب الحالية على غزة

في هذه الصفحة، سيعمد فريق تحرير مجلة الصحافة على جمع الأخبار التي تنشرها المؤسسات الصحفية حول الحرب الحالية على غزة التي تنطوي على تضليل أو تحيز أو مخالفة للمعايير التحريرية ومواثيق الشرف المهنية.

مجلة الصحافة نشرت في: 23 سبتمبر, 2024
"مأساة" الصحفي النازح في غزة

بينما تقترب حرب الإبادة الجماعية في فلسطين من سنتها الأولى، ما يزال الصحفيون في غزة يبحثون عن ملاذ آمن يحميهم ويحمي عائلاتهم. يوثق الصحفي أحمد الأغا في هذا التقرير رحلة النزوح/ الموت التي يواجهها الصحفيون منذ بداية الحرب.

أحمد الأغا نشرت في: 22 سبتمبر, 2024
من الصحافة إلى الفلاحة أو "البطالة القسرية" للصحفيين السودانيين

كيف دفعت الحرب الدائرة في السودان العشرات من الصحفيين إلى تغيير مهنهم بحثا عن حياة كريمة؟ الزميل محمد شعراوي يسرد في هذا المقال رحلة صحفيين اضطرتهم ظروف الحرب إلى العمل في الفلاحة وبيع الخضروات ومهن أخرى.

شعراوي محمد نشرت في: 15 سبتمبر, 2024
المصادر المجهّلة في نيويورك تايمز.. تغطية الحرب بعين واحدة

ينظر إلى توظيف المصادر المجهلة ضمن المعايير المهنية والأخلاقية بأنها "الخيار الأخير" للصحفيين، لكن تحليل بيانات لصحيفة نيويورك تايمز يظهر نمطا ثابتا يوظف "التجهيل" لخدمة سرديات معينة خاصة الإسرائيلية.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 5 سبتمبر, 2024
عمر الحاج.. "التحول" الصعب من العطلة إلى بؤرة الزلزال

قبل أن يضرب زلزال عنيف مناطق واسعة من المغرب، كان عمر الحاج مستمتعا بعطلته، ليجد نفسه فجأة متأرجحا بين واجبين: واجب العائلة وواجب المهنة، فاختار المهنة. في تغطيته لتداعيات الكارثة الطبيعية، التي خلفت آلاف القتلى والجرحى، خرج بدروس كثيرة يختصرها في هذه اليوميات.

عمر الحاج نشرت في: 17 أغسطس, 2024
رفاق المهنة يروون اللحظات الأخيرة لاغتيال إسماعيل الغول

كانت الساعة تشير إلى الرابعة عصرا أمس (31 يوليو/ تموز)، مراسل الجزيرة في مدينة غزة إسماعيل الغول، والمصور رامي الريفي، وصحفيون آخرو

Mohammad Abu Don
محمد أبو دون نشرت في: 1 أغسطس, 2024
في الحرب على غزة.. كيف تحكي قصة إنسانية؟

بعد تسعة أشهر من حرب الإبادة الجماعية على فلسطين، كيف يمكن أن يحكي الصحفيون القصص الإنسانية؟ وما القصص التي ينبغي التركيز عليها؟ وهل تؤدي التغطية اليومية والمستمرة لتطورات الحرب إلى "التطبيع مع الموت"؟

يوسف فارس نشرت في: 17 يوليو, 2024
الأمهات الصحفيات في غزة.. أن تعيش المحنة مرتين

أن تكون صحفيا، وصحفية على وجه التحديد تغطي حرب الإبادة الجماعية في فلسطين ومجردة من كل أشكال الحماية، يجعل ممارسة الصحافة أقرب إلى الاستحالة، وحين تكون الصحفية أُمًّا مسكونة بالخوف من فقدان الأبناء، يصير العمل من الميدان تضحية كبرى.

Amani Shninu
أماني شنينو نشرت في: 14 يوليو, 2024
بعد عام من الحرب.. عن محنة الصحفيات السودانيات

دخلت الحرب الداخلية في السودان عامها الثاني، بينما يواجه الصحفيون، والصحفيات خاصّةً، تحديات غير مسبوقة، تتمثل في التضييق والتهديد المستمر، وفرض طوق على تغطية الانتهاكات ضد النساء.

أميرة صالح نشرت في: 6 يونيو, 2024
الصحفي الغزي وصراع "القلب والعقل"

يعيش في جوف الصحفي الفلسطيني الذي يعيش في غزة شخصان: الأول إنسان يريد أن يحافظ على حياته وحياة أسرته، والثاني صحفي يريد أن يحافظ على حياة السكان متمسكا بالحقيقة والميدان. بين هذين الحدين، أو ما تصفه الصحفية مرام حميد، بصراع القلب والعقل، يواصل الصحفي الفلسطيني تصدير رواية أراد لها الاحتلال أن تبقى بعيدة "عن الكاميرا".

Maram
مرام حميد نشرت في: 2 يونيو, 2024
فلسطين وأثر الجزيرة

قرر الاحتلال الإسرائيلي إغلاق مكتب الجزيرة في القدس لإسكات "الرواية الأخرى"، لكن اسم القناة أصبح مرادفا للبحث عن الحقيقة في زمن الانحياز الكامل لإسرائيل. تشرح الباحثة حياة الحريري في هذا المقال، "أثر" الجزيرة والتوازن الذي أحدثته أثناء الحرب المستمرة على فلسطين.

حياة الحريري نشرت في: 29 مايو, 2024
"إننا نطرق جدار الخزان"

تجربة سمية أبو عيطة في تغطية حرب الإبادة الجماعية في غزة فريدة ومختلفة. يوم السابع من أكتوبر ستطلب من إدارة مؤسستها بإسطنبول الالتحاق بغزة. حدس الصحفية وزاد التجارب السابقة، قاداها إلى معبر رفح ثم إلى غزة لتجد نفسها مع مئات الصحفيين الفلسطينيين "يدقون جدار الخزان".

سمية أبو عيطة نشرت في: 26 مايو, 2024
في تغطية الحرب على غزة.. صحفية وأُمًّا ونازحة

كيف يمكن أن تكوني أما وصحفية ونازحة وزوجة لصحفي في نفس الوقت؟ ما الذي يهم أكثر: توفير الغذاء للولد الجائع أم توفير تغطية مهنية عن حرب الإبادة الجماعية؟ الصحفية مرح الوادية تروي قصتها مع الطفل، النزوح، الهواجس النفسية، والصراع المستمر لإيجاد مكان آمن في قطاع غير آمن.

مرح الوادية نشرت في: 20 مايو, 2024
كيف أصبحت "خبرا" في سجون الاحتلال؟

عادة ما يحذر الصحفيون الذين يغطون الحروب والصراعات من أن يصبحوا هم "الخبر"، لكن في فلسطين انهارت كل إجراءات السلامة، ليجد الصحفي ضياء كحلوت نفسه معتقلا في سجون الاحتلال يواجه التعذيب بتهمة واضحة: ممارسة الصحافة.

ضياء الكحلوت نشرت في: 15 مايو, 2024
"ما زلنا على قيد التغطية"

أصبحت فكرة استهداف الصحفيين من طرف الاحتلال متجاوزة، لينتقل إلى مرحلة قتل عائلاتهم وتخويفها. هشام زقوت، مراسل الجزيرة بغزة، يحكي عن تجربته في تغطية حرب الإبادة الجماعية والبحث عن التوازن الصعب بين حق العائلة وواجب المهنة.

هشام زقوت نشرت في: 12 مايو, 2024
آليات الإعلام البريطاني السائد في تأطير الحرب الإسرائيلية على غزّة

كيف استخدم الإعلام البريطاني السائد إستراتيجيات التأطير لتكوين الرأي العام بشأن مجريات الحرب على غزّة وما الذي يكشفه تقرير مركز الرقابة على الإعلام عن تبعات ذلك وتأثيره على شكل الرواية؟

مجلة الصحافة نشرت في: 19 مارس, 2024