في مطلع عام 2025، تلقت الصحافة المتأنية "خبرا سعيدا"؛ إذ توقّع مختبر نايمن أن تكون هذه السنة بمثابة فرصة لإحياء هذا النمط الصحفي وصعوده من جديد، الذي قد يبدو عصيّا على القراء والصحفيين معًا، لِمَا يتطلبه من تعقيدٍ وتركيبٍ وصياغة مقالات مطوّلة (Longform). كما يتطلب من الصحفي جهدا مضاعفا في البحث والتحقق والاستقصاء وسبر خلفيات القضايا والقصص، وهو ما يجعله بين كماشة ضغط الأخبار اليومية وروتينها، والحاجة إلى التفرغ الزمني والمهني لإنتاج مادة عميقة ومتأنية تستلزم متطلبات دقيقة.
بالموازاة مع هذه التحديات التي يواجهها الصحفي الذي يشتغل على القصص المتأنية، برز الذكاء الاصطناعي فاعلا جديدا يعيد رسم ملامح صناعة الأخبار والأجناس والأنماط الصحفية الأخرى مما يثير أسئلة حقيقية حول مستقبل الصحافة المتأنية مثل: ما هو حال الصحافة المتأنية في زمن تتسارع فيه الخوارزميات وتتصاعد فيه شهية الجمهور للمحتوى الفوري والسريع وفق الأرقام الموثقة؟ وهل سيغدو الذكاء الاصطناعي أداةً تعزز حضور هذا النمط الصحفي أم خصما يحول دون بقائه؟
حالُ صحافةِ التأني في ظل السرعة
تَرسَّخ مصطلح "الصحافة المتأنية" في الأدبيات الإعلامية من خلال مقال للصحفية سوزان غرينبرغ نُشر في مجلة بروسبكت عام 2007؛ إذ استعانت بمفهوم اقتصادي حديث حول "نهاية الوسط" وأسقطته على المجال الصحفي، لتصف به توجهاً يسعى إلى مقاومة هيمنة الإيقاع الخاطف للأخبار. ويشير هذا النمط إلى مقاربة إعلامية تقوم على العمق والرصانة بدل اللهاث وراء السرعة والسبق. فهو يناهض ما يسميه محمد خمايسة في مقال منشور بمجلة الصحافة بالوجبات السريعة. "الوجبات السريعة" من الأخبار التي تمنح شبعا معرفيا زائفا لكنها تضعف وعي المتلقي. ويعتمد على "الطهي البطيء"؛ أي إتاحة الوقت الكافي للتحقق والتحليل وإنتاج محتوى عميق ودقيق. كما أنه يعتبر مكملا للأخبار العاجلة عبر تقديم سياق شامل للتطورات، وليس مجرد مستجدات سطحية.
وبالرغم من تغول وهيمنة أشكال النشر الإعلامي السريع والجاهز في شبكات التواصل الاجتماعي والمنصات الصحفية، فإن هذا التوجه الصحفي مازال يحظى باهتمام بعض المؤسسات الصحفية الكبرى وثقة القراء.
رسَّخ مصطلح "الصحافة المتأنية" في الأدبيات الإعلامية من خلال مقال للصحفية سوزان غرينبرغ نُشر في مجلة بروسبكت عام 2007؛ إذ استعانت بمفهوم اقتصادي حديث حول "نهاية الوسط" وأسقطته على المجال الصحفي، لتصف به توجهاً يسعى إلى مقاومة هيمنة الإيقاع الخاطف للأخبار.
بيد أنه من البديهي أن نجد قطاعا مهما من القراء يميلون أكثر للمحتوى الصحفي السريع، وهذا يدل على أن نسبة قراء الصحافة المتأنية ليست كبيرة، لكنها حاضرة بشكل نسبيّ، والشاهد على ذلك أن القرّاء في 46 دولة موزعين على ست قارات ممن شملهم تقرير لرويترز ما زالوا يجدون قيمة في المضمون الصحفي العميق والمتأني؛ فقد أظهرت دراسة متخصصة صادرة عن مؤسسة "رويترز" خلال عام 2023 أن 39 بالمئة من المستجوبين أعربوا عن اهتمامهم بقراءة تقارير تفسيرية عميقة بدلا من الأخبار السطحية.
تدل هذه الأرقام على وجود شريحة مهمة من القراء تطمح إلى عمق وتوازن في معالجة القصص والقضايا لا سيما المعقدة منها.
على الرغم من ذلك، لا تزال صحافة العمق تواجه تحديات في مواكبةٍ آنيةٍ لوتيرة التطور الصحفي الرقمي؛ إذ حلّ الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الجديدة باعتبارها عوامل ضاغطة تجعل الاهتمام بالمختصرات والملخصات أمرا سهلاً، ما يضع مزيدا من التحديات على المؤسسات الصحفية التي تتبنى صحافة العمق، وهي التي تحاول أيضا أن تكسب قراءً ينقسمون إلى جَمْعٍ يميل إلى متابعة محتوى التأني والعمق وآخر تستهويه السرعة والتبسيط.
ما يطلبه القراء: السريع أم المتأني؟
أكدت استطلاعات الرأي الحديثة أن شريحة ليست بالهينة من الجمهور قد تملّ من الأخبار السريعة وتبحث عن المقالات المطولة؛ فالقراء الأكبر سنا المعتادون على الصحف التقليدية يحافظون على ولاءٍ أكبر للأخبار المفصّلة والدقيقة وبالتالي يميلون للصحافة المتأنية.
في المقابل، أفاد تقرير معهد رويترز 2023 أن نسبة كبيرة من المشاركين ما زالوا يُقدّرون الأخبار المختصرة والأكثر إيجازا؛ فقد أوضح التقرير السنوي حول الصحافة الرقمية لمعهد رويترزعام 2023 أن نحو نصف الأمريكيين مثلاً قد يشعرون بأن الأخبار التي "تتناول فقط الأساسيات" كافية لهم، بينما يشعر بعضهم بالإرهاق من الأخبار "السلبية".
ويُستشف مما سبق أن عينة هذه الدراسات تؤكد أن قراء الصحافة ليسوا أحادِيِي التفضيل؛ ففئات منهم تبحث بجدية عن تغطية أكثر عمقًا وتفسيرًا، بينما تنجذب فئات أخرى نحو السبق والخبر "الترند" خاصة من الأجيال الشابة. هذا التنوع في تفضيلات القراء يتطلب من وسائل الإعلام تقديم أنواع متعددة من المحتوى الصحفي؛ من أخبار الترند السريعة إلى إنتاج القصص الصحفية العميقة والتحقيقات المطولة بشكل متوازن دون الاستهانة بأحدهما.
الذكاء الاصطناعي: شريك أم خصم؟
على نحو تدريجي، باتت نماذج الذكاء الاصطناعي عنصرا مهما في تحسين سير عمل الصحفيين وتيسيره، فتُستخدم اليوم في مهام عديدة كالمساعدة على التحرير الآلي للمقالات وتدقيقها، واستخراج المعطيات والبيانات من الملفات المعقدة، علاوة على توليد الصور أو تصميمها على شكل إنفوغرافيك وتسهيل العمليات التقنية المرتبطة بإنتاج الفيديو وإعداده. ويرى قطاع مهم من الصحفيين أن الذكاء الاصطناعي بمنزلة شريك لهم في إنجاز هذه المهام وليس خصما؛ إذ يخفف العبء عنهم في الأعمال الروتينية، وهو ما يسمح لهم بالتركيز على مهام إبداعية معقدة ومركبة.
في هذا السياق، طوّرت وكالة الأنباء الأمريكية أسوشيتد برس استخداما آليّا لكتابة تقارير الأرباح المالية المدرجة على سبيل المثال، مؤكدة أنه يتيح لصحفييها التركيز على المواد الصحفية العميقة والمتأنية كالتحقيقات الاستقصائية.
لكن، للذكاء الاصطناعي جانب مظلم يتجسد في تكريسه للتحيزات والأجندات في الخوارزميات الذكية، بحكم أنه يوصف بـ "الصندوق الأسود" المعقد؛ فهو يحمل معه انحيازات تقنية قد تنبع من خلفيات مطوّريه وبياناته، وهو ما قد يُعمِّق تأثيرها في السردية الإعلامية المعتمدة وحقائقها دون إدراك من المستخدم (الصحفي).
وفي خضم هذه المخاوف المفترضة يُطرح سؤال ملح: هل تستطيع آليات الذكاء الاصطناعي توليد مقال صحفي مطول يمتثل لمتطلبات الصحافة المتأنية؟
عمليا، تظل كفاءة الذكاء الاصطناعي محدودة في إنتاج أو مسايرة العمل الصحفي المطول العميق والمتأني؛ إذ خلصت دراسة حديثة أنجزها الباحثون إيبان ألبازو ريفاس وسونيا بارات وونستي ميرا فيرنانديز إلى أن المساعي الحالية لتحسين أدوات توليد النصوص لا تزال عاجزة عن تحسين نوعية السرد الطويل. فبالرغم من أن النماذج اللغوية تستطيع تعديل نص أو اختصاره، فإنها ما زالت بحاجة إلى اعتماد آليات التحليل البشري وفهم وتفسير السياق المعقَّد الذي يجري تناوله ومعالجته في التحقيقات المعمقة، وبالتالي يصعب على الذكاء الاصطناعي أن يحاكيه أو أن يولده بالكامل.
من ناحية أخرى، يمكن للصحافة المتأنية استغلال الذكاء الاصطناعي لتعزيز انتشارها. فمثلا، يمكن لأدوات التلخيص الآلي أن ترفع فرص جذب القراء؛ فقد رصدت صحف نرويجية وأفريقية زيادة ملحوظة في الوقت الذي يقضيه القراء بالموقع عند إضافة ملخصات آلية للمقالات الطويلة مما قد يدل على أن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والصحافة المتأنية لا تشوبها الخصومة بالأساس، بقدر ما تشي بحضور شراكة محتملة تؤشر على أن الآلة يمكن أن ترفع من كفاءة الإنتاج والانتشار، شريطة إدماجها بحذر وتحت إشراف بشري يحافظ على دقة الحقائق وجودة السرد الصحفي العميق.
ما تحتاجه صحافة "العمق"
تحتاج صحافة "العمق"(الصحافة المتأنية والتفسيرية والاستقصائية والبحثية والقصص الصحفية العميقة...) إلى آليات عملية ومنظومات تقنية تساعدها على الانتشار والترويج وكسب أكبر قدر من القراء وبالتالي ضمان بقائها واستدامتها في ظل واقع رقمي يزداد توغلا ويأتي على مساحة الصحافة.
في هذا السياق، يظل البحث التقليدي عبر محركات البحث أهم الآليات التقنية التي تساعد على انتشار واكتشاف محتوى الصحافة المتأنية، غير أن التوظيف المكثف لآليات البحث في نماذج الذكاء الاصطناعي يهدد هذه الوضعية وفق تقديرات بحثية تشير إلى أن واجهات البحث المدعومة بالذكاء الاصطناعي قد تقلص حركة البحث المباشر نحو المنصات الصحفية بنسبة قد تصل من 20 إلى 60%، وهو ما يعرّض إيرادات الإعلانات لخسائر كبيرة.
تحتاج صحافة "العمق"(الصحافة المتأنية والتفسيرية والاستقصائية والبحثية والقصص الصحفية العميقة...) إلى آليات عملية ومنظومات تقنية تساعدها على الانتشار والترويج وكسب أكبر قدر من القراء وبالتالي ضمان بقائها واستدامتها في ظل واقع رقمي يزداد توغلا ويأتي على مساحة الصحافة.
بالموازاة، تراجع الاعتماد على شبكات التواصل الاجتماعي بصفتها مصادر لترويج المحتوى الصحفي حسب نتائج دراسة تحليلية صادرة عن مؤسسة "رويترز" أظهرت انخفاض نسب الاستناد على إحالات فيسبوك إلى 21 %، وإكس بنسبة 34 %.
في المقابل، بدأت منصّات الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT توليد إحالات بسرعة؛ حيث نمت إحالاته إلى مئات الآلاف في ديسمبر من عام 2024، رغم أنها لا تزال قليلة مقارنة بمنصات التواصل الاجتماعي التقليدية.
استثمرت جهات غربية في أدوات وآليات ذكية تنظم المحتوى العميق؛ فعلى سبيل المثال طوّرت مجموعة Reach البريطانية أداة "Neptune" للتوصية بالمقالات باستخدام الذكاء الاصطناعي، وهو ما أدى إلى زيادة وقت بقاء القراء على الموقع وتفاعلاتهم.
وفي سياق مماثل، طورت فوربس "شات بوت" يحمل اسم "Adelaide" بهدف الرد على استفسارات المستخدمين وتوجيههم إلى مقالات مناسبة. وعمل فريق إكسلور التابع لمؤسسة جورناليهويس الهولندية على تجريب تقنيات تلخيص آلي للنصوص، فأتاح ذلك تقديم ملخصات مبدئية للمقالات الطويلة لزيادة جاذبيتها وسهولة الوصول إليها. وهذا ما يعكس سعيَ منابر الإعلام إلى جعل المحتوى العميق أكثر سهولة في التناول، دون التضحية بجوهره.
طورت فوربس "شات بوت" يحمل اسم "Adelaide" بهدف الرد على استفسارات المستخدمين وتوجيههم إلى مقالات مناسبة. وعمل فريق إكسلور التابع لمؤسسة جورناليهويس الهولندية على تجريب تقنيات تلخيص آلي للنصوص، فأتاح ذلك تقديم ملخصات مبدئية للمقالات الطويلة لزيادة جاذبيتها وسهولة الوصول إليها. وهذا ما يعكس سعيَ منابر الإعلام إلى جعل المحتوى العميق أكثر سهولة في التناول، دون التضحية بجوهره.
علاوة على ما سبق، يتجه الناشرون لاستكشاف قنوات جديدة لعرض المحتوى الصحفي المتأني. فمثلاً، أطلقت بعض المؤسسات نشرات بريدية (نيوزليتر) متخصصة تروّج للتقارير الطويلة والتفسيرية، كما هو الحال مع تجربة صحيفة El Periódico de España
في المحصلة، تقف الصحافة المتأنية عند مفترق طرق حاسم: بين قراء يميلون إلى الأخبار الفورية، وآخرين ما زالوا متشبثين بالقصص المطولة والقراءات العميقة. وفي قلب هذا المشهد، يبرز الذكاء الاصطناعي أداةً تحمل دورين مزدوجين؛ إذ يمكن أن يتحول إلى مساعد يمنح لهذا النمط الصحفيِّ فرصًا جديدة للانتشار والتجديد، أو قد يشكل -في الوقت نفسه- خصما له فيزيد من صعوبة بقائه في المستقبل. فهل يمكن اعتبار هذه السنة فعلا سنة صعود الصحافة المتأنية أم هي مؤشر على بوادر أفولها؟
في الحقيقة، لا يمكن أن نجيب على هذا السؤال على نحو جاهز، والإجابة مرهونة بقدرة هذا النمط الصحفي على إعادة ابتكار أدواته وأساليبه في مواجهة عالم سريع الإيقاع، غير أن المؤكد أن الصحافة المتأنية لن تنقرض ما دام هناك قارئ يبحث عن القصة الكاملة خلف العنوان، وعن المعنى العميق والمركب الذي يتجاوز اللحظة السريعة والعاجلة.