بين الأخبار الرسمية عن المؤتمرات والاتفاقيات المناخية الدولية، وخطط حكومية مفرطة في التفاؤل، وتغطيات صحفية غارقة في التشاؤم أو المصطلحات التقنية، قد يشعر العديد بأن قضية التغيّر المناخي معقدة وحتمية، وفي الوقت ذاته، مجردة وبعيدة عن الواقع اليومي.
من جهة أخرى، قد يبدو الحديث عن أزمة المناخ ترفا في ظل الحروب والأزمات المعيشية والسياسية التي تشهدها الدول العربية، ورفاهية لا يمكن للدول - سوى الغنية والمستقرة منها - الانشغال بها. كما أن البعض يشكك في السرديات السائدة حول تغيّر المناخ في المنطقة، خاصة أن كثيرا من المعلومات مستمدة من منظمات دولية ومصادر غربية قد تحمل أهدافا غير واضحة أو تُقدَّم بمنظور لا يعكس الواقع المحلي وأولويات شعوب المنطقة.
لكن كونها من أكثر مناطق العالم تأثرا بتداعيات التغيّر المناخي، تواجه دول المنطقة تهديدات متصاعدة تمس الأمن الغذائي وأمن الطاقة، والصحة العامة، والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. تتضح آثار الاحتباس الحراري بشكل متزايد يومًا بعد يوم من الخليج إلى المغرب العربي، جرّاء موجات الحرّ الحادة والمتكررة، وفترات الجفاف الطويلة، وارتفاع مستوى سطح البحر، والحرائق والفيضانات والعواصف الرملية. وتبقى الفئات الأكثر تأثرا في مواجهة التحديات الناجمة عن هذه التحولات هي: صغار المزارعين والرعاة والعمال الزراعيون والصيادون والأسر ذات الدخل المحدود.
قد يبدو الحديث عن أزمة المناخ ترفا في ظل الحروب والأزمات المعيشية والسياسية التي تشهدها الدول العربية، ورفاهية لا يمكن للدول الانشغال بها. كما أن البعض يشكك في السرديات السائدة حول تغيّر المناخ في المنطقة، خاصة أن كثيرا من المعلومات مستمدة من مصادر غربية قد تحمل أهدافا غير واضحة أو تُقدَّم بمنظور لا يعكس الواقع المحلي وأولويات الشعوب.
وسط تزايد المخاطر وتباين الآراء والأولويات، كيف يمكن للصحافة أن تؤدي دورها في التحقق من المعلومات وتحليل السياسات المناخية ومساءلة المؤسسات والسلطات وإيصال الأصوات المستثناة من النقاش العام، وتأطير القضايا وترجمتها من مفاهيم مجردة إلى واقع ملموس؟
قد يبدو بديهيا أن للعناوين دورا محوريا؛ إذ تمثّل أول ما يلفت انتباه الجمهور وتؤثّر في قراره بشأن التفاعل مع المحتوى أو تجاوزه. كما لا يقتصر دور العناوين على جذب الانتباه فقط، بل يساهم في تشكيل الإطار الذي يَفهم من خلاله الجمهور القضايا المختلفة، ويوجّه تصوراته عنها، بما في ذلك قضيّة التغيّر المناخيّ.
عند مراجعة أبرز العناوين المتعلقة بالتغيّر المناخي في المنطقة، يتضح أن أغلبها يغلب عليه إما طابع التشاؤم والتركيز على الكوارث البيئية الشديدة، ووصف الأحداث المتطرفة القادمة بأنها حتمية ووشيكة مثل "الحرارة تخرج عن السيطرة: كارثة مناخية بانتظار كوكب الأرض بحلول 2200"، وهو ما يجعل القارئ يفقد الاهتمام حتى وإن كان الخبر دقيقا، وإما استخدام مصطلحات علمية معقدة بالنسبة للبعض مثل "الغازات الدفيئة" و"تخزين الكربون"، أو مفاهيم تبدو بعيدة عن حياة الناس مثل "ذوبان القطب الشمالي" و"احترار المحيطات" كما في العنوان التالي: "احترار المحيطات يعطل عمليات تخزين الكربون الحيوية". في حين أن صياغة العناوين بأسلوب يربط الظاهرة بتأثيرها المباشر على حياة الناس يمكن أن تجعلها أوضح وأكثر قربًا من المتلقي؛ كما في: "38.4% انخفاض إنتاج الحبوب الشتوية في لبنان بسبب الحرب والمناخ" أو "الجفاف والتصحر والهجرة تهدد واحات المغرب بالاندثار". في المقابل، كثيرا ما تُقدّم تغطيات المؤتمرات والمشاريع "الخضراء" بعناوين رسمية وعالية النبرة، توحي بأن الأمور تسير وفق خطة مدروسة، وهذا يجعل الأزمة تبدو شأنا تقنيا وإداريا بعيدا عن واقع الناس اليومي مثل "الأردن يواجه التغير المناخي بـ 86 مشروعا للنمو" أو "الشرق الأوسط الأخضر.. ماذا تستهدف المبادرة السعودية للحياد الكربوني؟" مغفلة أحيانا أزمات مقلقة مثل جفاف السدود وتراجع المحاصيل وازدياد الضغوط على موارد المياه والطاقة.
يظهر من مراجعة العناوين أن أغلبها يغلب عليها إما طابع التشاؤم والتركيز على الكوارث البيئية الشديدة، ووصف الأحداث المتطرفة القادمة بأنها حتمية ووشيكة مثل "كارثة مناخية بانتظار كوكب الأرض بحلول 2200"، وهو ما يجعل القارئ يفقد الاهتمام حتى وإن كان الخبر دقيقا، وإما استخدام مصطلحات علمية معقدة بالنسبة للبعض مثل "الغازات الدفيئة" و"تخزين الكربون"، أو مفاهيم تبدو بعيدة عن حياة الناس.
لكن الأزمة المناخية ليست مجرد نظريات وتقارير دولية ومصطلحات معقدة؛ إنها حاضرة يوميا، متمثلة في ارتفاع أسعار الطعام والغش في الصناعات الغذائية نتيجة تراجع الإنتاج، وانقطاع الكهرباء بسبب زيادة الطلب على التكييف، وزيادة حالات الجفاف وضربات الشمس والتسمم الغذائي لدى كبار السن والأطفال نتيجة موجات الحر الطويلة، وزيادة عدد الولوج إلى المستشفيات بسبب انتشار الأمراض التنفسية والحساسية الناتجة عن الغبار، والنزوح نتيجة فقدان سبل العيش، وتراجع جودة وخدمات المياه والصرف الصحي نتيجة انخفاض هطول الأمطار، وزيادة الاعتماد على المبيدات الحشرية في ظل انتشار الآفات، وغيرها الكثير.
رغم أن هذه الأخبار - من ارتفاع أسعار الطعام إلى انقطاع الكهرباء - تحظى بتغطية واسعة، فإنها كثيرا ما تقدم بمعزل عن سياق التغير المناخي، إلا أن ارتباطها المباشر بتفاصيل الحياة اليومية يجعلها مدخلا فعّالا لطرح القضيّة بطريقة أقرب وأكثر وضوحا للجمهور. عنوان مثل "لماذا ارتفعت فاتورة الكهرباء؟" قد يَلقَى تجاوبًا أكبر بكثير من عنوان عام مثل "تهديدات موجات الحَرّ" لأنَّ القارئ يريد فهم العوامل التي تمس واقعه.
تنطبق المفاهيم نفسها على مضمون التغطيات أيضا وليس على العناوين فقط؛ فعندما يكون المحتوى عامًا جدًا وتقنيًا مثل مناقشة "صعوبة التكييف مع المناخ" أو "بناء مدن مستدامة" دون التطرق إلى تفاصيلها ومعانيها في سياق القارئ، تتسع الفجوة بين الصحافة المناخية والجمهور.
في المقابل، يمكن تناول مواضيع التغيّر المناخي من خلال أساليب متنوعة وَفقا لطبيعة المادة المطروحة والجمهور المستهدف. يُعتبر السرد القصصي لتجارب الناس الواقعية مع آثار التغيّر المناخي أحد القوالب الفعّالة للوصول إلى الجمهور بشكل أعمق، ويمكن دعمه بمعلومات علمية تعزز قدرته على توضيح الصورة الأكبر.
رغم أن أخبار ارتفاع أسعار الطعام وانقطاع الكهرباء تحظى بتغطية واسعة، فإنها كثيرا ما تقدم بمعزل عن سياق التغير المناخي، لكن ارتباطها المباشر بتفاصيل الحياة اليومية يجعلها مدخلا فعّالا لطرح القضيّة بطريقة أقرب وأكثر وضوحا للجمهور. عنوان مثل "لماذا ارتفعت فاتورة الكهرباء؟" قد يَلقَى تجاوبًا أكبر بكثير من عنوان عام مثل "تهديدات موجات الحَرّ".
على سبيل المثال، يمكن تناول النقص التاريخي في الأمطار هذا العام من زاوية ملموسة عبر تتبّع موسم الزيتون وارتفاع أسعار الزيت، وتسليط الضوء على قصص مزارعين يواجهون تراجعا في إنتاج محاصيلهم، وإسناد هذه القصص ببيانات تعكس انخفاض إنتاج الزيتون أو تراجع معدلات هطول الأمطار في الأعوام الأخيرة أو غيرها من المؤشرات التي تعكس ملامح التغيّر المناخي وتقاطعاتها مع الواقعين الاقتصادي والاجتماعي. ونظرًا للدور المحوري الذي يؤديه توقيت النشر في صدى الطرح، فإن وجود شخص مطّلع على هذه القضايا ومستعدّ لتناولها حين تكون في صدارة النقاش يعزز قدرة التغطية الصحفية على الوصول إلى الجمهور بشكل فعّال ومرتبط بالواقع. كما يمكن، عند مخاطبة جمهور أكثر تخصصًا أو اهتمامًا، تناول المسائل من زوايا تحليلية أعمق، سواء عبر تفكيك البنية التحتية والسياسات العامة أو دراسة إدارة الموارد أو التباين الاجتماعي في التحديات أو غيرها.
بغض النظر عن طبيعة المادة الصحفية، تساهم الرسوم البيانية - عند توظيفها بشكل مناسب - في توضيح المعلومات وربط الظواهر المناخية بسياقها بشكل فعّال قد لا يمكن أن يحققه النص وحده، سواء التغيّر عبر الزمن مثل معدّل هطول الأمطار أو مساحة المراعي، أو المقارنات مثل مقارنة حصّة الفرد من المياه في منطقة معينة مع مناطق أخرى أو بالمعايير الدولية، أو التوزيع مثل توزيع مصادر الطاقة في دولة معينة، أو العلاقات مثل ارتباط ارتفاع درجات الحرارة بتقلّص المراعي الطبيعية.
على سبيل المثال، بدلاً من الاكتفاء بالقول إن "حصة الفرد من المياه في الأردن تقلّ بنحو 88 بالمئة عن خط الفقر المائي العالمي"، قد يُظهر الرسم البياني التالي للمتلقي صورةً أبلغ؛ فهو يجسد تزايد حدّة الأزمة عبر الزمن، كما يضع الأرقام في إطارها النسبي مقارنة مع خطي الفقر والكفاية المائية.

من اللافت للانتباه أنه في حين قد يشعر الصحفيون أحيانًا أن تغطية القضايا المعقدة مثل الأزمة المناخية تتطلب تقديم حلول، إلا أن بعض الدراسات (1) تظهر أن الناس قد يرفضون القضية المطروحة برمتها إذا كانت الحلول المقدمة لا تتوافق مع آرائهم السياسية. فالإسراع في تقديم الحلول قد يهمّش فهم جوهر القضية وأبعادها، وهو ما يستدعي تقييم أهمية طرح الحلول بحسب ما يقتضيه السياق.
عند تغطية التغيّر المناخي في المنطقة العربية، لا يواجه الصحفيون تحديًا معرفيًا فحسب، بل تحديًا في بناء الثقة مع الجمهور في قضية كثيرًا ما تُقدَّم من خلال عدسة "غربية" تنقل سرديات حول "المشاريع الخضراء" و"الاستدامة" وأجندات مرتبطة بسياسات تعزز مكاسب القوى المهيمنة والتطبيع البيئي لإدامة أنماط الاستغلال والاستيلاء على الموارد الطبيعية على حساب مجتمعات المنطقة. يزداد هذا التحدي شدّة بسبب استمرار نفوذ الدول الصناعية والجهات التي ساهمت تاريخيًا في تفاقم الأزمة المناخية، وهو ما يزيد شعور الجمهور بعدم الثقة في الاستجابة الدولية لها، خاصة حين يُلقَى على عاتق الدول والمجتمعات الأقل إسهامًا في الانبعاثات عبء غير متكافئ من تكاليف التكيّف والحلول، ويُفاقمه الاعتمادُ المتزايد على القروض من مؤسسات عالمية تحت مسمى "التمويل البيئي" تضيف أعباء مالية جديدة بدل دعم حقيقي يراعي العدالة المناخية.
عند تغطية التغيّر المناخي في المنطقة العربية، لا يواجه الصحفيون تحديًا معرفيًا فحسب، بل تحديًا في بناء الثقة مع الجمهور في قضية كثيرًا ما تُقدَّم من خلال عدسة "غربية" تنقل سرديات حول "المشاريع الخضراء" و"الاستدامة" وأجندات مرتبطة بسياسات تعزز مكاسب القوى المهيمنة والتطبيع البيئي لإدامة أنماط الاستغلال والاستيلاء على الموارد الطبيعية على حساب مجتمعات المنطقة.
إلى جانب البعد السياسي، يساهم اعتماد المعلومات كما تَرِد من مصادر غربية في تعميق فجوة الثقة لدى الجمهور من المنظور المنهجي والمعرفي؛ إذ لا تنطبق كثير من هذه المفاهيم على المنطقة العربية بالطريقة نفسها. مثلًا، يُقدَّم قطاع تربية الماشية دوليًا بوصفه من أبرز مسببات الغازات الدفيئة. لكن هذه المفاهيم لا تعكس بدقة واقع تربية الماشية في أغلب دول المنطقة التي رغم مواجهتها تحديات بيئية فإن طبيعتها تختلف عن أنماط الإنتاج الصناعي التي تستند إليها التقديرات الدولية.
ضمن هذا السياق، تقع على عاتق الصحفيين في المنطقة مسؤولية مضاعفة تتمثل في امتلاك وعي نقدي مزدوج: أن يكونوا قادرين على إنتاج معرفة تستند إلى واقع المنطقة وأولوياتها وتُتيح المساحة لجميع الأطراف المعنية في النقاش، وأن يتعاملوا بحذر مع المعرفة الجاهزة والمصطلحات المستوردة والخطط المطروحة، بالتوازي مع البحث الدقيق في المعلومات والتحقق من المصادر ومساءلة الجهات المؤثرة في صنع القرار وإدارة الموارد.
يمكن للصحفيين في المنطقة أن يؤدوا دورا حاسمًا في تحويل أزمة التغيّر المناخي إلى قضية مفهومة وملموسة من خلال فهم عميق للمواضيع المقدَّمة وتوضيح المخاطر بطريقة بناءة وتفكيك السرديات والخطط المطروحة وتقديم المعلومات بأساليب تحوّل الصحافة المناخية من نشاط هامشي إلى ركيزة أساسية في بناء وعي مجتمعي قادر على مواجهة التحديات المتداخلة، وأداة فاعلة في تحقيق عدالة مناخية تخدم شعوب المنطقة وتصون مواردها.
المراجع
Campbell, T. H., and A. C. Kay. "Solution Aversion: On the Relation Between Ideology and Motivated Disbelief." Journal of Personality and Social Psychology 107, no. 5 (2014): 809–824. https://doi.org/10.1037/a0037963.