اشتغل الصحفي والروائي الأمريكي فينسنت شيين (1899 - 1975) لحساب جريدة "شيكاغو ترببيون"، وخاض في سن صغيرة (25 سنة) مغامرات كبرى مراهنا بحياته من أجل أن يكون من أوائل الصحفيين الأمريكيين الذين غطوا حرب الريف (الريف اسم منطقة شاسعة في شمال المغرب) التي شنتها إسبانيا وفرنسا من 1921 إلى 1926. التقى بقيادات الثورة خاصة ابن عبد الكريم الخطابي الذي اشتهر بانتصاره على الإسبان في معركة "أنوال" في 1921. وقدم عصارة هذه التجربة في كتاب American among the Riffi An "أمريكي بين الريفيين؛ رحلة مراسل شيكاغو تريبيون في شمال المغرب" الذي صدر في 1926 وقام بترجمته الأستاذ محمد الداودي قبل أسابيع في المغرب (1).
يثير الكتاب جوانب أساسية متعددة منها ما يتعلق بالصحافة السردية، إذ يمكن تصنيفه ضمن الكتابات الأولى للصحافة الجديدة أو السردية التي تطورت أساسا في أمريكا في بداية القرن العشرين واشتهرت مع جون هيرسي صاحب كتاب "هيروشما" في 1946 (2)، ثم في 1965 مع ترومان كابوت صاحب كتاب "بدم بارد". وتعرف مؤسسة الصحافة الأمريكية نيمان الصحافة السردية بأنها "جنس يستعمل تقنيات الخيال ليطبقها على القصص غير الخيالية. حيث تتطلب الصحافة السردية تقارير عميقة ومتطورة، وتثمينا لسرد القصص وانزياحا عن الهيكلة التقليدية للأخبار اليومية، والخيال عند الاشتغال على اللغة" (3).
"أمريكي بين الريفيين" نموذج لأعمال جيل كامل من الصحفيين الأمريكيين ارتبطت لديهم الصحافة بالأدب فكانتا مدرسة وأسلوبا في العمل الصحفي بل وفي الحياة أيضا. ونذكر من بينهم الروائي إرنست همنغواي صاحب جائزة نوبل للآداب الذي كان صديقا لفينسنت شيين، واشتغل معه كمراسل حرب لعدة صحف في إسبانيا وفرنسا. وكان شيين مرتبطا بشبكة من الروائيين والشعراء في أمريكا بل وألف كتبا عن سيرهم الذاتية. في تلك الفترة كانت الصحافة الأمريكية مرتبطة بروابط قوية مع فرنسا التي وفرت لها مجالا أكبر جعلت عدة صحف تفتح مكاتب لها في باريس التي كان فينسنت يشتغل كمراسل فيها.
كتاب بين الصحافة وأدب السيرة
تقول إحدى دراسات جامعة أوكسفورد "إن ما جعل شيين يكون ضمن النجوم البارزين في الصحافة هو الجودة الأدبية لتقاريره، وقدرته الخارقة على وضع نفسه في قلب سيل الأخبار المكثفة، وقوة المشاعر التي شاهد بها تلك الأحداث" (4). في كتابه "أمريكي بين الريفيين"، يحكي الشاب فينسنت شيين، بنضج الكاتب المحترف، عن وقائع حرب الريف بأسلوب شيق وبكثير من التمكن. بل إنه كان، ربما، ناضجا بشكل غير مألوف لأنه كتب سيرته الذاتية في سن 35، وهو في بداية مشواره، مع أن الكتاب يكتبون عادة سيرهم في نهاية مسيرتهم. وقد حصلت السيرة على الجائزة الوطنية للكتاب وانتبه إليها المخرج العالمي ألفريد هتشكوك ليصنع منها فيلما بعنوان Foreign Correspondent "المراسل الأجنبي" الذي كان مرشحا لنيل الأوسكار في 1940.
الحرفية في الكتابة تظهر في عدة مؤشرات مثل تسلسل الأحداث وسردها والتركيز بقوة على الحوار، من خلال نقل الكاتب، بشكل دقيق ومطول لحواراته مع الفاعلين في الحرب، ومع السكان العاديين الذين كان يلتقي بهم. وهو ما يطرح السؤال حول طريقته في العمل: هل كان يسجل الحوارات في وقت لم تكن هناك أدوات تسجيل؟ أم إنه كان يعتمد على الذاكرة؟ وهو ما يطرح السؤال، في هذه الحالة، حول الحدود بين الذاكرة والخيال؟ وهو جانب جوهري. فالبعد عن الخيال قدر المستطاع، والقرب من الوقائع قدر الإمكان هو ما يميز، في النهاية، الصحافة عن القصة والرواية. ولذلك، لم يكن غريبا أن يتجه شيين في وقت لاحق من مساره، إلى كتابة سيناريوهات بعض الأفلام الأمريكية.
على مستوى اللغة، يبدي المؤلف قدراته على الاقتصاد وعدم الإطناب، بشكل تبدو معه لغة 1926، لغة معاصرة تماما، وقد ساهم في ذلك الترجمة المتميزة بسلاستها الكبيرة. يصف شيين الأمكنة والساكنة عبر قراءة عميقة لنفسية الشخصيات والأبطال، انطلاقا من قائد ثورة الريف ابن عبد الكريم الخطابي إلى أصغر فاعل ولاعب في الحرب، مستعملا الكثير من الدعابة الأمريكية وحسا قويا للملاحظة ولوصف التفاصيل: اللباس، الوجوه والملامح، نفسية الشخصيات، الطبيعة... إلخ
كما يمكن تصنيف شيين ضمن صنف الصحفي "المرافق" Embedded، رغم أنه مصطلح حديث ارتبط بحرب العراق بحيث إنه رافق الريفيين وقيادتهم العسكرية لمدة 3 أشهر في حربهم ضد المستعمر ليحكي تجربته منذ أن حل بشمال المغرب قادما من الجزائر إلى مغادرته للمنطقة عند وصوله إلى طنجة. وهي مدة سمحت له بالتعرف على الحياة اليومية للسكان، وبأن يعيش معهم فصولا من الحرب؛ حيث عاش لحظات القصف الغبي والدموي، كما يسميه، للطائرات الإسبانية لجبال الريف عندما كان أسيرا عند إحدى القبائل. ثم سافر، وهو راكب على بغل، وسط جثث مآت الجنود الإسبان المتعفنة التي سقطت في معركة وقعت قرب مدينة الشاون (مدينة شمال المغرب)، ويصفها بعض الكتاب والمؤرخين بمعركة "أنوال الثانية". كما نجا شيين بأعجوبة من طلقات الرصاص خلال تسلله بين مواقع الجنود الإسبان من أجل دخول مدينة طنجة المحاصرة من قبل الإسبان ... كان فينست شيين نموذجا للصحفي "المرافق" والمحمي من قبل الجنود الريفيين، لكنه ربما كان يريد أيضا حماية استقلاليته عندما رفض هدية مالية من شقيق الخطابي قدمها له عند توديعه له، رغم أن شيين أبدى بعض التفهم لهذا النوع من الكرم الريفي العربي.
شيين عالم اجتماع ومؤرخ
ثمة جانب ثان أساسي في الكتاب يهم العلاقة بين الصحافة وعلم الاجتماع والأنثربولوجيا، فقد تلقى فينسنت شيين في المنزل تربية وتكوينا مشبعا بقراءة الأدب والروايات. لكنه سيوجه اهتمامه في جامعة شيكاغو إلى العالم الإسلامي وسينجز بحثا جامعيا عن تاريخ الحركة الوهابية. كما صدر له، لاحقا، كتاب عن إيران (5). ويعتبر كتابه عن منطقة الريف توثيقا هاما لوقائع اجتماعية واقتصادية في شمال المغرب. لم يكن فينسنت شيين متخصصا في الأنثروبولوجيا ولكنه يقدم لنا مادة خامة غنية حول الإنسان واللغة والدين والعادات، مبديا نوعا من التعاطف مع قضية المرأة من منظور أمريكي. وهو يمزج بين السرد الصحفي وبعض أدوات علم الاجتماع من ملاحظة وحوار وتحقيق. لم يكن شيين صحفيا جاء لتغطية سريعة لأخبار حرب كانت تشغل الغرب آنذاك، بدون خلفيات علمية كما يفعل صحفيو "الفاست فود"، ولكنه اطلع على دراسات متخصصة حول المنطقة رغم ارتكابه لبعض الأخطاء، حسب المترجم، لعدم توفر دراسات كثيرة حول الريف آنذاك. وبعد نشره لهذا الكتاب، واصل فينسنت شيين اهتمامه بالمنطقة وبالأبحاث الصادرة حولها حسب ما يبينه مقال نقدي نشره حول رواية إثنوغرافية بعنوان "لحم الثور البري" للكاتب الأمريكي كارلتون كون الصادرة في 1932. وقد قدم فينسنت شيين قراءة لهذه الرواية نشرت في جريدة "نيويورك هيرالد تربيون" في 1932 يتحدث فيها عن قلة الدراسات عن الريف خلال زيارته لها.
يكشف كتاب شيين عن النظرة العرقية التي كانت آنذاك سائدة في المجتمع الأمريكي عن المسلمين عموما وعن المغاربة بشكل خاص حسب ما كانت تكتبه الصحف. فمقاومة الريفيين للاستعمار، حسب تلك النظرة، تفسرها دوافع عرقية كانت ترى أن الريفيين يدافعون عن عرقهم وليس عن تحرير أرضهم. كما كانت للمجتمع الأمريكي معتقدات مغلوطة تقول إن سكان شمال المغرب لهم أصول أوربية واسكندنافية. ويحيل المترجم في هذا الصدد على دراسات الباحث الفلسطيني إدوار سعيد وخاصة كتابه الشهير “الاستشراق".
ومن بين الطرائف اللغوية الدالة التي وقعت لشيين عند اعتقاله من طرف إحدى القبائل هي أنه وجد صعوبة في التفاهم مع سجانيه بسبب عدم إتقانه للعربية والريفية. وقد بذل جهدا كبيرا حتى يشرح لمعتقليه أنه يمارس مهنة الصحافة وليس مهنة أخرى.. وفي النهاية، فهم أحد معتقليه كلامه فقال له: "نعم فهمت الآن. أنت صحفي تعمل عند مخزن ميريكان". وتعني كلمة "مخزن" في المغرب السلطة عموما. وهذا الحوار يكشف عن طبيعة التمثلات التي كانت لدى سكان الريف عن الصحافة وعن ارتباطها دائما بالسلطة وبرجالها سواء في المغرب أو في أمريكا.
وإذا كان شيين ينتقد الاستعمار الإسباني، فإنه يبدي، في المقابل، تقييما إيجابيا بشكل عام للحماية الفرنسية ويرى أن "فرنسا أبانت دوما عن تميز وعبقرية في تمدين مختلف شعوب شمال إفريقيا". وقد حاول مثل كل صحفي محترف أن يتصل بالإسبان لأخذ "الرأي الآخر" في موضوع حرب الريف، وذهب إلى مدريد من أجل محاورة قائد العمليات العسكرية في الريف، لكنه لم يحصل على أية معلومات، لأن الإسبان رفضوا الحوار معه، كما رفضوا الترخيص له بدخول الريف لأن دخوله قد يساهم، في رأيهم، في فك الحصار الإعلامي الذي كانوا يضربونه على المنطقة.
أهمية الصورة والأرشيف
في عصر الأخبار الكاذبة والترجمات المسروقة، حرص المترجم محمد الداودي على الإشارة إلى التراخيص الرسمية التي تثبت أنه حصل على إذن مكتوب من عائلة شيين لترجمة الكتاب، وكذا على الموافقة القانونية للترجمة. ونجد في الكتاب عناية خاصة بالصورة وجهدا في البحث عنها في الأرشيف في المغرب وإسبانيا وإنجلترا.. مما سمح بالكشف عن العديد من الصور التي لم تكن متوفرة في النسخة الإنجليزية. وقد جاء مشروع الترجمة، في الأصل، ثمرة بحث جامعي في أمريكا قام به المترجم حول الكتابات الأمريكية حول منطقة الريف. ويبين هذا البحث - الترجمة الأهمية الكبرى للأرشيف في أمريكا سواء الأرشيف الشخصي للكتاب والصحفيين، أو الأرشيف الرسمي في الجامعات (7).
لا يشكل الكتاب فقط أول ترجمة إلى العربية لكتاب مهم صدر قبل 100 سنة، بل يتضمن مسحا واسعا للدراسات التي تناولت حرب الريف وتاريخ المنطقة وكذا جزءا من تواريخ دول مجاورة خاصة إسبانيا وفرنسا وأمريكا. ومن هنا تأتي راهنيته في سياق يتميز بتزوير التاريخ والتلاعب به، وبحروب الذاكرات الوطنية المتعصبة. إنه بمثابة كتاب داخل كتاب، يدقق في تفاصيل هذا التاريخ المشترك اعتمادا على العديد من المراجع الأكاديمية حول تاريخ الصحافة والأدب والسينما. وربما كان مفيدا الإشارة إلى وضعية الصحافة المغربية والعربية آنذاك، وهي في بداياتها، لمعرفة كيفية تغطيتها لحرب الريف وطبيعة تمثلاتها وعلاقتها مع السلطة من أجل مقارنتها مع الصحافة الأجنبية.
تعكس تجربة "أمريكي بين الريفيين" أيضا مسارات النجاح والسقوط في عالم الصحافة وبنياته وأنانياته. فرغم النجاح الكبير الذي حققه شيين، فإنه تعرض للطرد من قبل صحيفته بعد شهر فقط من عودته من المغرب إلى باريس بسبب، ما يظهر، أنه ضريبة للشهرة ولغيرة زملائه ولتبعية بعض الصحف للمال ولرجال الأعمال. لكن ذلك لم يمنع الكاتب من مواصلة مغامراته حيث قام بتغطية العديد من الأحداث خلال الحرب الأهلية الإسبانية والحرب الأهلية الصينية والحرب العالمية الثانية، ومن مواصلة كتاباته في الصحافة وأدب الرحلة وفي السينما (8).
هوامش
- "أمريكي بين الريفيين American among the Riffi An رحلة مراسل شيكاغو تريبيون في شمال المغرب". ترجمة وتقديم وتعليق محمد الداودي. منشورات باب الحكمة. تيفراز. مطبعة الحمامة. تطوان. المغرب. 2022.
- مقال محمد مستعد "قراءة في تاريخ الصحافة الأمريكية" مجلة الصحافة. معهد الجزيرة للإعلام: https://institute.aljazeera.net/ar/ajr/article/1457
- دراسة Alexandre Eyriès بعنوان "الصحافة السردية على محك الواقع: نحو ممارسة سوسيولوجية. منشورات المركز الوطني للبحث العلميCNRS. مجلة هيرميس. Le journalisme narratif à l’épreuve du réel : vers une sociologie en actes
- دراسة جون ماكسويل هاميلتون بجامعة أكسفورد للصحافة عن السيرة الذاتية لفينسنت شيين:
https://www.universitypressscholarship.com/view/10.7312/columbia/978023…
- كتاب " فارس الجديدة. إيران". الصادر في العام 1927.
- التيمة والبنية في سيرة شيين"" دراسة Sameul Kliger صامويل كليجر بجامعة ديوك دورهام: https://www.jstor.org/stable/372612
- حول أهمية الأرشيف الصحافة الأمريكية انظر مقال محمد مستعد: "قراءة في تاريخ الصحافة الأمريكية" مجلة الصحافة. معهد الجزيرة للإعلام: https://institute.aljazeera.net/ar/ajr/article/1457
- ترك فينسنت شيين حوالي 15 كتابا. من بين رواياته التاريخية: "يوم في معركة" - "تشريح الفضيلة"... ومن بين كتبه السياسية: "غاندي والطريق إلى السلام"...