ترجمة: د. سحر وفقا
سمع مورازان عن "صحافة الكاتكمباس"(1) لأول مرة داخل مدرجات الجامعة، والمقصود بها ممارسة مهنة الصحافة ضمن حدود ضيقة مسموح بها ولكنها غير مواتية لمزاولة المهنة، كنقص الموارد التكنولوجية. وبالأخص، الاضطرار للعمل في إطار السرية التامة لمراوغة الرقابة المستبدة التي فرضها الدكتاتور أناستاسيو سوموزا ديبايل، منذ أواخر الستينات وبقيت سارية حتى اغتيال الرئيس، أي لما يناهز عشر سنوات.
وكان مقاتلو الجبهة الساندينية للتحرير الوطني قد عكفوا على وضع استراتيجية للإبلاغ عن إخفاقات وبطولات المقاومة المتمردة التي خاضتها الجبهة ضد آخر رمز في سلالة سوموزا الذي نفي إلى باراغواي، بعد أن فقد السلطة، وهناك اغتيل في 17 سبتمبر/أيلول 1980.
أما اليوم، وبعد مرور أزيد من 40 عاما، فقد تغيرت الأدوار: أغلب من كانوا بالأمس ثائرين ومتمردين، صاروا بيروقراطيين يحملون بنادق ديكتاتورية الرئيس دانييل أورتيغا سابيدرا، وحرمه نائبة الرئيس، روزاريو مورييو. هؤلاء هم من يضطهدون بتعصب الأجيال الشابة من الصحفيين، الذين لا يملكون خيارا سوى التنديد بالفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، وكذا بالشطط في السلطة، حيث يحيون مجبرين "صحافة الكاتكمباس". وعلق مورازان (اسم مستعار) على هذا قائلا: "إنه تناقض تاريخي".
في السنوات الثلاث الماضية، لجأ ما يناهز 80 صحفيا إلى كوستاريكا وإسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية، للاشتغال في المنفى، لكن لا أحد منهم تجرأ على كتابة اسمه على التقارير الاستقصائية، ولا المقالات النقدية ضد الحكومة لتجنب أي عقوبات كيدية. وقد أدى هذا إلى اختفاء بعض مكاتب التحرير، لأن الصحفيين بدأوا يشتغلون في أماكن مختلفة لمراوغة عناصر الاستخبارات التي تضيق عليهم؛ كثيرون منهم فقدوا عملهم بسبب إغلاق بعض وسائل الإعلام، وزج بآخرين في السجن مثل ميغيل ميندوزا، الذي عبر عن معارضته للحكومة على وسائل التواصل الاجتماعي.
"نحن نواصل العمل بشكل لامركزي، بعد أن تركنا مكتبنا، ومع ذلك فليست لدينا أي ضمانات"، هكذا علق الصحفي السابق في جريدتي La Prensa وEl Confidencial، من العاصمة ماناغوا.
بين سنتي 2018 و2020، وافق المجلس الوطني لنيكاراغوا، التابع كليا لحكم أورتيغا، على ثلاثة قوانين ومشروع قانون إصلاح، تم بموجبها وضع الاستراتيجية القانونية لفرض الاضطهاد والرقابة على المدافعين عن حقوق الإنسان والناشطين والمعارضين السياسيين وكذا على الصحفيين: "القانون الخاص بالجرائم الإلكترونية" و"قانون الدفاع عن حقوق الشعب" و"قانون تنظيم العملاء الأجانب" من خلال تعديل المادة 37 من الدستور، حيث تنص على السجن المؤبد في حق مرتكبي جرائم الكراهية.
وينص القانون "الخاص بالجرائم الإلكترونية"، في مادتيه 29 و30، على السجن لمدة تتراوح بين سنة وخمس سنوات، لمن يحرض أو يروج لارتكاب أفعال إجرامية أو يضر بشرف الناس وسمعتهم أو يحرض على الكراهية والعنف أو يمس بالاستقرار الاقتصادي والأمن العام؛ سواء كان ذلك بنشر أخبار زائفة أو معلومات مغلوطة عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو النظم المعلوماتية الحديثة. وحسب مورازان، فخطورة الموضوع تكمن في ترك السلطة التقديرية مطلقة في أيدي القضاة لتحديد الأخبار الزائفة والمغلوطة من غيرها. وأن يحدث هذا في إحدى دول أمريكا الوسطى، حيث استقلال القضاء شبه منعدم، فيمكن اعتبار الأمر سلاحا تحت الإمرة الأورتيغية يُستخدم حسب الأهواء.
وينص "قانون الدفاع عن حقوق الشعب"، في مادته الأولى، على معاقبة الأفراد الذين يقومون بخيانة الوطن، وهي التهمة التي لفقت لأكثر من ستة مرشحين لرئاسة الجمهورية وزُجّ بهم في السجن، خلال السنوات الثلاث الماضية.
من بين هؤلاء ميغيل مورا، مؤسس 100% Noticias، القناة التي كانت تبث على التلفزيون بشكل مفتوح، حيث ترتكز على النشر الصحفي، ولكن قرارا رئاسيا أقفل أبوابها. كما اتهمت شخصيات أدبية بارزة بجريمة خيانة الوطن، مثل الكاتب سيرجيو راميريز، وهو حاليا لاجئ سياسي في كوستاريكا، وكذا رجال أعمال من أمثال مايكل هيلي وألفارو باغاس. أما "قانون تنظيم العملاء الأجانب" فقد دخل حيز التنفيذ في سبتمبر/أيلول 2020، ويلزم كل المنظمات غير الربحية التي تتلقى أموالا من التعاون الدولي أو من حكومات أجنبية، بوجوب التسجيل لدى وزارة الخارجية للإبلاغ عن الدخل وعن سبل إنفاقه. الأمر الذي فُعِّل كشرط لمواصلة العمل، وقد أخضع الدخل للمراقبة والتدقيق من لدن هيآت المراجعة المالية الحكومية وكذا الجهات المانحة. وكانت النتيجة المباشرة لهذا القرار، إغلاق المؤسسات المسؤولة عن تعزيز قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والشفافية ومحاربة الفساد، فضلا عن تجميد، أو على الأقل تقليص التحقيقات الصحفية سواء الرقمية أو الورقية، التي كانت تمول من الخارج.
فمثلا، في مايو/أيار 2021، عادت شرطة نيكاراغوا لمداهمة مكاتب جريدة "الكونفيدونسيال"، بعد أن قامت بذلك في وقت سابق، وهي الجريدة التي أسسها كارلوس فيرناندو تشامورو باريوس، حيث اتهمته بغسيل الأموال، واستدعي على إثرها حوالي عشرين صحفيا للتحقيق معهم، وهذا بالضبط ما وقع أيضا مع جريدة "لابرينسا". كما فرض الإغلاق على مؤسسة فيوليتا باريوس دي تشامورو التي دربت عدة صحفيين ومكنتهم من منح دراسية في الخارج كما كانت تقدم سنويا "الجائزة الوطنية بيدرو خواكين تشامورو" للتميز الصحفي، على مدار ثلاث عشرة سنة. لقد كان لوسائل الإعلام الثلاث تلك قاسما مشتركا هو تلقي أموال من التعاون الدولي لتمويل ميزانياتها ومشاريعها الصحفية الخاصة، في ظل غياب نموذج اقتصادي مستدام للصحافة.
لذلك، ومنذ مداهمة مكاتبها، استمرت صحيفة الكونفيدوسيال في العمل من مكتبها في دولة كوستاريكا، لكن العمل أصبح أكثر تعقيدا، نتيجة لتوسيع نطاق الرقابة؛ أصبحت المصادر التي اعتمد عليها الصحفيون لسنوات عديدة ترفض الحديث خوفا من التعرض للطرد من وظائفها أو الزج بها في السجن أو نفيها خارج البلد، كما جف حبر كتاب الأعمدة بعد أن كانوا صحفيين شرسين في وقت ماض، في حين لم يعد للمعلنين رغبة في الإعلان.
وخلال انعقاد الملتقى الثالث للصحافة الإيبروأمريكية، الذي كان مقره الرئيسي في إسبانيا، وصف كارلوس فيرناندو تشامارو الأمر بأنه "صعب للغاية"، مضيفا أن الجريدة حاليا تمول عبر تبرعات قرائها وعدد زهيد من المؤسسات الخاصة وعبر عائداتها من المنصات الرقمية كيوتيوب.
"النظام يحاول قطع كل التمويلات عن وسائل الإعلام الناقدة لجعلها تختفي كلية"، هذا ما أوضحه موزاران معترفا بانخفاض جودة العمل التي أفضت إلى ضعف التحقيقات الصحفية، بينما تظل التحقيقات القليلة المنشورة غير موقعة بأسماء أصحابها، مقابل نشر التغطيات السطحية والمقالات المتواضعة على نطاق أوسع، مما دفع مكاتب التحرير للإغلاق وعرض الصحفيين للنفي، لدرجة أنهما (أورتيغا وزوجته) استطاعا فرض حقيقتهما"، يقول موزاران.
وفي دوامة مماثلة، وجدت دولة السالفادور نفسها بعد أن رفع رئيسها، نجيب أبو كيلة، مشروع "قانون حماية العملاء الأجانب" إلى المجلس التشريعي الذي يشبه في محتواه نظيره في نيكاراغوا، غير أن له خصوصية أكثر تطرفا، وتكمن في تحديد نسبة 40% من الضرائب المضافة عن كل "تمويل ونفقات وتحويلات مالية" تخصصها الجهات المتعاونة للمنظمات المدنية. وقد نفت الحكومة، في خضم ذلك، أن يكون الغرض من سن هذا القانون اضطهاد النشطاء والصحفيين، مؤكدة أن الأمر يتعلق بـ "شفافية" الأموال التي تستثمرها الحكومات والمؤسسات الخاصة سواء فيما يخص المساعدات الإنسانية أو تعزيز الديموقراطية أو محاربة العنف ضد المرأة أو حماية حقوق مجتمع الشذوذ الجنسي (LGBTQ+)، وغيرها. ولهذه الغاية أمر الرئيس بإنشاء مؤسسة "سجل العملاء الأجانب" الذي يلزم جميع الجمعيات والمؤسسات غير الربحية بالتسجيل فيه، بغض النظر عن ماهية عملها. وستعمل المؤسسة جنبا إلى جنب مع "وحدة التحقيقات المالية التابعة لمكتب المدعي العام للجمهورية"، وهي المؤسسة المسؤولة عن متابعة هذه الجرائم". وفي حالة عدم الامتثال للقوانين أو ارتكاب مخالفات، تطبق الحكومة غرامة قد تصل إلى 10000 دولار، بالإضافة إلى الحكم بإغلاق أبواب المنظمة المعنية.
وقد أكد خوان كارلوس بيديجين، وزير الداخلية في السالفادور، للنواب البرلمانيين أن القانون يهدف إلى تحديث الإدارة العامة بما يتوافق والقوانين المعمول بها في بلدان كالولايات المتحدة الأمريكية وبعض بلدان أوروبا منذ مطلع القرن العشرين، وهو التصريح الذي رفضته السفيرة السابقة (2015-2019) للولايات المتحدة الأمريكية في دولة السالفادور، جون إليزابيث مانيس. إن هذا التصريح ليس صحيحا في مجمله، فمنذ دخول "قانون الجمعيات والمؤسسات ذات الأهداف غير الربحية" حيز التنفيذ في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1996، فإن كل الجمعيات والمؤسسات التي تتلقى أموالا من التعاون الدولي، وتشتغل بتبرعات الشركات الخاصة الوطنية وفي الخارج، أصبحت مسجلة في قاعدة بيانات وزارة الداخلية وملزمة بتقديم تقارير سنوية عن ميزانياتها المالية لتتمكن من مواصلة العمل.
في هذا البلد تتلقى المنظمات غير الربحية أموالا من الخارج لمشاريع متنوعة، كتنفيذ برامج الأمن الغذائي في المناطق النائية، وتمكين المعلمين، وتأسيس وصيانة المؤسسات التعليمية المسيحية، وتهيئة أو إعادة تأهيل الفضاءات العامة، وكذا الحيلولة دون العنف، وإعادة الإدماج الاجتماعي لسجناء سابقين، وتعزيز مكانة المرأة والدفاع عن حقوقها، ودعم الرياضيات وعلم الروبوتات، ... وتمويل الصحافة الاستقصائية.
الصحف الإلكترونية الثلاث التي تتلقى تمويلا دوليا هي El Faro، Revista Factum وRevista Gato Encerrado، وميزانياتها تأتي كلها من الخارج بنسبة 90 أو 100%، كما تم التحقق من ذلك خلال مراجعة تقاريرهما المالية التي تم الإدلاء بها كل سنة، وكذا من خلال التصريحات التي أدلى بها رؤساء تحرير هذه الصحف لمجلة الصحافة.. الأمر الذي جعلها محط انتقادات الرئيس.
وقد أظهرت التقارير المقدمة لوزارة المالية من طرف صحيفة "الفارو"، على سبيل المثال، خلال سنوات 2018، 2019 و2020، ما مجموعه 911، و961، و979 ألف دولار (بالترتيب) كمداخيل، منها: 618، و599، و691 ألف دولار تلقتها من عملاء دوليين من أمثال:Ford Foundation, Open Society y GDP/Seattle من الولايات المتحدة الأمريكية، وHIVOS الهولندية، وVIKES الفنلندية، وجمعية أطباء العالم الإسبانية، ومن كندا عن طريق مشروع التحقيق في الإجهاض كمؤشر على عدم المساواة، ومن الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون، من بين مؤسسات كثيرة أخرى.
بينما الأموال المتبقية وهي: 293، و362 و288 ألف دولار بين سنة 2018 و2019 و2020 على التوالي، كانت مستخلصات الأموال التي حصلت عليها الصحفية من أموال الإعلان والورشات التكوينية واشتراكات القراء، وعناصر أخرى كشراكات مع وسائل إعلام دولية كالتايمز ماغزين، والنيويورك تايمز الأمريكية، وإلبايس الإسبانية.
وقد حذر سيزار كاسترو فاجواغا، رئيس رابطة الصحفيين في السالفادور والمدير السابق لمجلة ريفيستا فاكتوم، من أن "المقصود من سن تلك القوانين هو مهاجمة وسائل الإعلام التي تتلقى دعما"، مضيفا "أنه انتقام وهم يحاولون إسكاتنا، ففرض ما قيمته 40% ضريبة على التحويلات التي نتلقاها -والتي ستضاف إليها الضرائب الحالية الجاري بها العمل، كالضريبة على الدخل- ستجبر مكاتب التحرير على اقتطاعات كبيرة، بل وستؤدي إلى شلل في دينامية العمل". ولكن بخلاف صحف نيكارغوا، لن تتمكن الصحف السالفادورية من العمل من الخارج، بما أن صحفييها الذين سيظلون بالبلد سيتعين عليهم دفع الضريبة المعمول بها، بما أن القانون سيعتبرهم بشكل أوتوماتيكي عملاء أجانب، وفي حالة عدم الامتثال أو التهرب الضريبي، سيواجهون تهم غسيل الأموال. وهذا سيكون نفس مصير الجمعيات والمؤسسات التي تروج للشفافية ومكافحة الفساد في الإدارات العمومية، حيث ستكون بدورها، وعلى غرار الصحفيين، محط انتقاد وهجوم الرئيس بوقيلة وموظفيه ونوابه المواليين لحكمه.
وفي تصريح لإدواردو إيسكوبار، عن المنظمة غير الحكومية Acción Ciudadana، الذي يجري تحقيقات في الشأن الانتخابي قال: "التعاون سيتوقف في جميع المجالات". وهو التصريح الذي يتماشى وتصريح دافيد موراليس، عن المنظمة غير الحكومية Cristosal، الذي يجري بدوره تحقيقات عن الجرائم المرتكبة خلال الحرب الأهلية في السالفادور، حيث يقول: "ستُحَلُّ جميع المنظمات وستظل المشاريع معلقة". وإلى حدود الساعة، لا الصحف ولا الجمعيات تملك خططا استراتيجية لمواصلة العمل عندما يدخل القانون حيز التنفيذ قبل انتهاء سنة 2021، حسب بعض المصادر.
1- كلمة الكتاكومباس تعني سراديب الموتى أو المدافن الرومانية تحت الأرض. في حين أن مفهوم "صحافة الكتاكومباس" يعني الصحافة السرية أو الممنوعة التي كانت تقرأ في سراديب الكنائس على ضوء الشموع، لينتقل المفهوم للإشارة إلى الصحافة السرية التي صارت تتخذ منصات التواصل الاجتماعي فضاء لها، للإفلات من الرقابة المفروضة عليها ومن التضييق على حرية التعبير.