سعى الإنسان دائماً لفهم العالم الطبيعي، من أجل تطويعه لإرادته. ولأن البشر قضوا معظم حياتهم حول الخيول، حتى قبل ترويضها، كانت أكثر الرسومات لخيول. بدا أنّ هناك حياة غير مرئية في حركة الحصان من خلال الرسومات، حركة محجوبة عن أعيننا، وبالتالي عن الفهم البشري. استمرّ ذلك حتى سبعينيات القرن التاسع عشر، حين أصبح ليلاند ستانفورد - الرجل الذي أسس جامعة ستانفورد - مهووساً بهذا اللغز: عندما يهرول الحصان أو يعدو، هل يكون في لحظةٍ ما موجوداً كلياً في الهواء؟
هذا اللغز، الذي عمره من عمر الحياة البشرية، هذا السؤال القديم، أجاب عنه إدوارد مويبريدج في العام 1878، مع تطوير الأخوين لوميير، أوغست ماري لوي نيقولا (1862-1954) ولوي جان (1864-1948) تقنية التصوير (سينماتوغراف). فقد أنجب اختراعهما السينما، لتصبح وسيلة تعبيرية جديدة. استمرت العلاقة بين الصورتين، الثابتة والمتحركة، في التعمق والتطور، وأصبحت السينما واحدة من الوسائل الرئيسية لرواية القصص. كان ادوارد مويبريدج رائداً لأولى تجارب تحريك الصور. باستخدام كاميرته، كشف عالماً جديداً من الحركة. لقد عثر على الإجابة. في فيلمه الأول (والأول في التاريخ) "الحصان المتحرك" (1878)، اكتشفنا أن الحصان، لبرهة يكاد يكون غير مرئي، يكون تماماً في الهواء.
مع دخول الإعلام المرئي، ازدادت قوة علاقة الصحفيين بالأشخاص الذين يشكّلون القصة، فأرادوا تقديم المعلومة بطريقة مبتكرة جذابة للمشاهد.
1 - السرد الصحفي والسينمائي
يقول رولان بارت إن "السرد يمكن أن تحتمله اللغة المنطوقة، شفوية كانت أم مكتوبة، كما يمكن أن تحتمله الصورة، ثابتة كانت أم متحركة". لقد قامت الصحافة والسينما بتغذية بعضهما من خلال التورط في علاقات "غير شرعية" تماماً. الاقتراض المتبادل والسرقة كانا مهمين لكلا النظامين. وأهم ما أفادت به الصحافة من السينما كان السرد. فالسينما، بسبب خصائصها السردية، ذات قدرة على إعادة خلق الواقع بكل أبعاده، بما فيها الخيال. مع تطور الصحافة وانتشار وسائل الإعلام، ودخول القطاع السمعي البصري إليها، أصبح ضرورياً أن تقدم وسائل الإعلام المرئية صيغةً جماليةً، وأن تحوّل السرد الصحفي الكتابي إلى سرد صحفي مرئي، في محاولةٍ لاستمالة من خلال تقديم المعلومات بطريقة مرئية إبداعية. ومن أبرز ما يتم التركيز عليه في هذه المزاوجة، ضرورة عدم تكرار محتوى المرئي كلامياً، وهذا هو جوهر سينمائي بحت. هذا التطور أدّى إلى استحداث مساحة ابتكار، ونظرة نقدية حديثة، وإنشاء طرق جديدة لرواية الأخبار والحقائق في إطار المشهد الرقمي الجديد، مع إعطاء الجمهور إمكانية اختيار أشكال جديدة ومتنوعة لعملية استهلاكه المعلومات.
لا يمكن مقاربة الصحافة والسينما بأنشطتهما التخصصية البحتة، لكن سماتهما الأساسية - خاصة في عصرنا - تتناسب تقريباً في النموذج والتحليل. خلال السنوات الأربعين الماضية، تغيّرت وجهة الصحافة شيئاً فشيئاً، وأصبحت المؤسسات الإعلامية تبحث أكثر عن موضوع للتكلم عنه، بمعنى أن البحث عن الموضوع أو القصة أصبح أكثر صعوبةً، وبات العثور على قصة تصلح لتكون رواية صحفيةً أكثر تعثّراً. مع دخول التكنولوجيا الحديثة، أصبحت طريقة الوصول إلى المعلومات أسهل، مما هدد موقع الصحفي، أول ممتلك للخبر وناقل له. هكذا، أصبح الصحفيون أقرب إلى رواة القصص، وبدأت المؤسسات الإعلامية تتوق إلى السرد القصصي. مع دخول الإعلام المرئي، ازدادت قوة علاقة الصحفيين بالأشخاص الذين يشكّلون القصة، فأرادوا تقديم المعلومة بطريقة مبتكرة جذابة للمشاهد. بمعنى أن الصحفي ووجوده على الشاشة يجب أن يكونا مبررين، فالصحفي ليس القصة، بل الناس والأشخاص الذين يروونها، وهذه خاصية سينمائية سردية.
طوال العقود الماضية، تأثرت استراتيجيات السرد واللغة المعتمدة في صياغة المحتوى الصحفي السمعي البصري بأدوات السينما بقوة.
إلا أنّ السينما لا تهدف إلى توجيه رسائل، ولا إلى تحريك الرأي العام أو الكشف عن الفساد بطريقة مباشرة... كل هذا يندرج تحت العمل الصحفي، إذ إنّ الصحفي ملزَم بواجب وهو مسؤول تجاه الجمهور، بمعنى أنّ عليه نقل الواقع من دون تلاعب بالمعطيات، ولا تحريف للحقائق. في المقابل، يتمتع المخرج السينمائي بالحرية الكاملة في خلق ساحة للتصوير وتوظيف ممثلين وتأليف نصوص من أجل إنتاج فيلم سينمائي.
على مدى عقود، اختار معظم النقاد "المواطن كين" (1941) كأفضل فيلم على الإطلاق، لاعتبارات كثيرة، ليس أقلها أنّ العمل الأول للمخرج الأميركي أورسون ويلز يتناول العلاقة الناشئة بين القوتين المركزيتين: الصحافة والسينما. الصحفي هو ذاك الرجل الحديث المغامر المدني، رجل الحاضر في حركة مستمرة، والسينما هي فن الحركة. يكمل كل منهما الآخر: السينما من خلال قوتها السردية، والصحافة من خلال حاجتها لنقل الواقع. في سياق الحاجة البشرية لسرد الواقع، تغذّت الصحافة من السينما، ورفد التمثيل السينمائي عالم الصحافة بالصورة.
2- سرد الواقع بين السينما والصحافة
كانت السينما ولا تزال الوسيلة الأبرز لسرد القصص (وإن لم يكن هذا دورها الأساسي). في النهاية السينما هي فن، حتى إنها تجمع الفنون كلها. بوصفها فنًاً خالصاً، تجمع السينما مكونات عدة قادرة على إثارة الاهتمام مثل: الحوار، حركة الكاميرا، الموسيقى، الشخصيات... مكونات العمل السينمائي تنصهر في بوتقة واحدة لخلق قطعة فنية قابلة للنقد ولإثارة أسئلة عديدة لدى المتلقي، فهي عصية على الاختزال في مظهرٍ أحادي مثل "شخصيات متكلمة" أو في كونها سردية بصرية لحقائق جوهرية. كما لا يمكننا اختصارها بالموسيقى والمشاهد المتوالية التي تحاول إثارة نوع من "المشاعر العميقة" بشكل ميكانيكي. كل هذه أدوات تسخّرها السينما لخدمتها في تكوين عالم خيالي، يحتمل أيضاً نقل الواقع والحقيقة (كما قال المخرج الفرنسي جان لوك غودار "الفيلم هو الحقيقة 24 مرة في الثانية") إلى الشاشة، كما في "السينما الواقعية" التي تنقل واقعاً حقيقياً حدث أو يحدث بشكل سينمائي للمتلقي. هذه الحقيقة، وكيفية نقلها، تشكلان ركناً من أركان الصحافة، لكن الفرق بين السينما والصحافة يكمن في كيفية سرد الواقع. في السينما، يمكننا تجميل الواقع أو التلاعب به، إنما في الصحافة لا يمكن فعل ذلك أبداً، فالواقع يجب أن ينقل كما هو بموضوعية.
السينما، بسبب خصائصها السردية، ذات قدرة على إعادة خلق الواقع بكل أبعاده، بما فيها الخيال.
ولكن، كما هو واضح، ليس هناك شيء اسمه "الأخبار" كما كانت عليه الحال قبل ثلاثين أو أربعين عاماً. فالأخبار وطريقة نقلها وسرعة وصولها للمتلقي تغيّرت. لا يمكن القول إن "الحزمة" الإعلامية كلها تغيرت، لكن طريقة إنتاج وتوزيع الكلمات وطريقة عمل الصحفيين هذه - بالتأكيد - تغيرت. ذلك أن التطور التكنولوجي أثر بشكل جوهري على مستوى التلقي، وبالتالي على نظرته.
لقد أصبح التصوير أكثر سهولةً وفي متناول الجميع، مما سمح لأي شخص لديه اتصال بشبكة الإنترنت، بإنشاء محتوى وتوزيعه. الآن يمكن لأي شخص في أي مكان في العالم أن يقول ما يريد، وأن ينقل ما يريد بالطريقة التي يريدها وفي الوقت الذي يريده. يمكنه التقاط الحدث لحظة وقوعه ونقله للعامة بنقرة، ليتلقفه الجميع بإيجابية لكونه متاحاً، سهلاً وبسيطاً. إذن، ماذا تُرك للأخبار؟
هكذا، كُسر الاحتكار، ولم تعد الطريقة التقليدية في نقل الخبر وسرد القصة الوحيدة، ولا الفضلى. لنأخذ مثلاً وقوع كارثة طبيعية في بلدٍ ما، هذا بحد ذاته خبر، سيتكفّل مئات الشهود بنقله لحظة وقوعه عبر هواتفهم النقالة على الإنترنت، لكنه لن يظلّ كذلك في اليوم الثاني لأنه حدث وانتهى. ما لم ينته بعد هو آثاره، نتائج الكارثة. هنا يأتي دور الصحفي الذي سينقل المعلومة، لكنه لن يكتفي بها كخبر، بل سينقلها كقصة يستخدم فيها التقنيات السينمائية. على الرغم من أن ما حدث مأساوي، لكن لم يعد ممكناً الآن النظر إليه على أنه "أخبار"، فقد أصبح بائتاً بمجرد مرور ساعات قليلة على وقوعه، بما أنّ المشاهد المباشرة التي نقلته قد ملأت الشاشات الصغيرة والهواتف. هنا يأتي دور السرد السينمائي في إيصال الحقيقة، عبر تحويل الخبر إلى قصة تثير الاهتمام الإنساني، ويمكن روايتها من خلال عدسة سينمائية تضفي عليها تأثيراً عاطفياً أكبر. وهنا يبدو جليّاً مدى التداخل بين السينما والصحافة من حيث التقنيات: كاميرات التصوير، كتابة السيناريو، تحضير مخطط التصوير أو ما يعرف بالستوري بورد، عملية المونتاج... كل هذه التقنيات الآتية من مرحلة إنتاج الفيلم في السينما، تعتمد اليوم في التقارير الصحافية المصورة. السرد الصحفي يعتمد على أسلوب كتابة قصصي، يرمي إلى جذب القارئ، والسينما بطريقة تنتمي لفن تقديم القصة. على الصحفي الآن - بعدما سبقه الخبر - أن يلحقه هو باستخدام أسلوب سينمائي يوظّف المَشاهد الواقعية في قصة. وسيقوم بذلك من خلال البحث عن قصة ما (مثلاً قصة عائلة فقدت منزلها في الكارثة) داخل الخبر الكبير (الكارثة الطبيعية مثلاً)، وتبنّي المعنى الأصلي للسينما من خلال تقديم سيناريو القصة كذريعة لتسجيل الاحداث على الأرض والتفاعل معها، بدلاً من الدخول مباشرةً في الخبر الكبير ونقله، وهذا ما تفعله السينما بالتحديد عندما تصنع فيلماً عن كارثة طبيعية. يكون الحدث الكبير هو المحرك الخلفي والأساسي لسلسلة من القصص الصغيرة تتصدر المشهد بصفتها المحرك الإنساني والعاطفي للقصة. وهذا بالتحديد ما يمكن أن يستفيد منه الصحفي ليكون تقريره أكثر دقةً، ويلمس المشاهد عبر مخاطبة حسّه الإنساني..
الصحفي هو ذاك الرجل الحديث المغامر المدني، رجل الحاضر في حركة مستمرة، والسينما هي فن الحركة. يكمل كل منهما الآخر.
الخلفية الفنية السينمائية والسرد السينمائي يمكن أن يساعدا الصحفي في الحصول على "ستوري بورد" أوسع يمكّنه من تصوير لقطات بطريقة سينمائية، وسرد القصة بطريقة أكثر اكتمالاً وتأثيراً. يمكن لكل مراسل أن يفعل ذلك. أن يستوعب ويتبنى القصة، ويقدم المعلومات الأساسية الكافية لوضع الأحداث في سياقها الصحيح. بعد ذلك، تأتي الصورة والصوت ليكملا ما قدمه بطريقة أكثر وضوحاً وبطريقة سرد مباشرة.
3- صحافة الفيديو والسينما
لا يحتاج الصحفي المعاصر إلى أكثر من كاميرا في اليد، وخلفية فنية سينمائية متواضعة، وقدرة على التحرر من القيود التلفزيونية الكلاسيكية، كي يقدم قصة حقيقية، تنقل الخبر بصيغة فنية، وتصل إلى المشاهد بطريقة عصرية. على الصحفي أن يعي أن الأمر لا يتعلق بالكليشيهات السينمائية؛ لأن السينما أكثر تعقيداً من محاولة اختصارها بكليشيهات. ليأخذ من السينما فقط ما يحتاجه لتأدية عمله، من خلفيات، وتقنيات تصوير تتعلق بزاوية الكاميرا وحركتها، وكيف يمكنها أن تترجم العواطف..
أصبح بإمكان الصحفي اليوم أن يشهد على الحقيقة وأن يقدمها بطريقة شخصية في الوقت عينه، مخفّفاً من جرعة الموضوعية والحياد. لا بد للصحفي من أن يعرف أن السينما تتطلب الكثير من الأساليب والتقنيات، ولكن الأساسي فيها هو القصة. لذلك على صحفي الفيديو أن يتتبّع القصة، وأن يعيد من خلال حنكته الصحفية وخلفيته السينمائية صياغة ما عبّر عنه المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي بقوله "الفنان قادر على تجاوز حدود المنطق المتماسك، ونقل التعقيد والحقيقة العميقة للارتباطات غير السوية والظواهر الخفية للحياة". انطلاقاً من هذه الأرضية، أصبح بإمكان الأخبار الآن أن تكون أكثر بكثير من مجرد صراحة وواقع ينقل بحذافيره. فصّناع الأخبار التقليديين، غالباً ما يجدون لقطات بصرية رائعة، لكنهم يدمّرونها ويهدمون تأثيرها بالتكلم عنها وعن معناها. صحفيو الفيديو يحاولون التعامل مع ما يقدمونه على أنه شيء شخصي، يحاولون البحث عن أفضل قصة، وتسجيل الأحداث كما لو كانوا يقدمون فيلماً سينمائياً. الحجر الأساسي هو رواية القصة من منطلق خصوصية الرؤية، وتقديمها من خلال فهم بصري ونصي بأشكال وأنماط مختلفة. هذا المنظور منح الصحافة السينمائية وصحافة الفيديو فهماً أعمق وأكبر من ذلك التقليدي للصحافة.
4- الأفلام الوثائقية والصحافة
الوثائقي هو فيلم غير خيالي، بمشاهد من الواقع تحاول إعطاء صورة لحالة معينة، لا تأتي فيه المحادثات والأفعال من نص مكتوب، وليس هناك ممثلون. من حيث الموضوعات، يمكن تصوير أي شيء، الأحداث والأنشطة والمحادثات الحقيقية التي يتم تسجيلها على الفور. فالفيلم الوثائقي قائم على الواقع؛ يحتوي على قصص اجتماعية، سياسية، وتاريخية يمكن فهمها على أنها قصص حول الحالة الاجتماعية والنفسية للناس في سياق العلاقات بالعالم الخارجي. يعرض الوثائقي قصص البشر وظواهر المجتمع وظلم السلطة ومواضيع رئيسية أخرى. يتناول الظواهر، لكنه أيضاً يلاحق التفاصيل، والمواضيع الصغيرة داخل الكادر الكبير، والأنماط الاجتماعية للعلاقة بين الأفراد، والعوالم المجهولة للبشر، بما في ذلك عالم النباتات والحيوانات. والهدف من الوثائقي بشكل عام هو نقل واقع ما، طرحه وفتح النقاش الاجتماعي حوله، وتقديم رؤى جديدة في المجالات الاجتماعية والتاريخية هدفها توعية المشاهد بالمواضيع التي تؤثر في مسار التاريخ البشري.
لعل أسهل تفسير لمصطلح "فيلم وثائقي صحفي" هو: عندما تصبح السينما صحافة، والصحافة سينما مصغّرة.
كانت السينما الوسيط الوحيد الذي استخدم الصور المتحركة لتقديم عمل صحفي، إلى أن تمّ اختراع التلفاز الذي أصبح المروج الرئيسي للصحافة السمعية والبصرية من خلال الوثائقيات ونشرات الاخبار. فالمؤكد أن الصحافة السمعية البصرية بدأت في السينما، وعندما انتقلت إلى التلفزيون تركت خلفها الكثير من المكتسبات والميزات على مستوى الصورة التي طورتها، فخسرت الكثير خلال عملية الانتقال تلك. في تحليل سريع للحظات المفصلية في تاريخ السينما، يبدو واضحاً كيف كانت السينما أداة صحفية سواء في نقل خبر أو في التضليل (نذكر في هذا السياق الأفلام عن الحرب، إعلانات التجنيد خلال الحرب العالمية الأولى، أفلام البروباغندا).
طوال العقود الماضية، تأثرت استراتيجيات السرد واللغة المعتمدة في صياغة المحتوى الصحفي السمعي البصري بأدوات السينما بقوة، وتحولت من خلال اعتمادها على خصائص السرد الفنية السينمائية والوثائقية، إلى ما يشبه فيلماً وثائقياً قصيراً بطريقة عصرية، لديه القدرة على تمثيل بعض جوانب الواقع بشكل أكثر كفاءة ومصداقية من الاشكال الصحفية التقليدية، التي تسند بشكل عام إلى صحفي واحد أو أكثر يترجم الواقع إلى خطاب شفهي، يرفقه ببعض الصور والمشاهد المناسبة، لكنها تفتقر إلى اللغة السينمائية. عزّزت التقنيات الجديدة التي تقلل من تعقيدات وتكاليف الإنتاج هذا التحول السردي. نلمس ذلك بوضوح في مجموعة واسعة من المنتجات الصحفية التي تراوح بين النشرات الإخبارية إلى المناقشات السياسية من خلال التقارير الميدانية والتقارير الوثائقية والشهادات وما إلى ذلك. تجد هذه التقنيات المزيد من المساحات في المناطق التي كانت مقتصرة في السابق على الوسائط والأساليب الصحفية التقليدية، مثل القنوات الإخبارية والبرامج الصحفية وحتى الأخبار التلفزيونية. وبهذه الطريقة، يشتد الوثاق بين السينما والصحافة أكثر فأكثر، وبهذا المعنى، لا يعود الخبر خبراً ينقله صحفي بكاميرا ثابتة وتعليق مستفيض، بل يصبح قصة عولجَت سينمائياً وأصبحت تشكّل رواية كاملة.
لوهلة، قد يبدو أنّ تناقضاً يشوب علاقة صناعة الأفلام الوثائقية بالصحافة، لناحية تفاصيل المحتوى وطريقة التوزيع والدافع. ولكن عند التعمق في المسألة، يظهر جلياً تداخل النمطين، خاصة إذا اعتمدنا تعريف مصطلح وثائقي على أنه أي شكل من المادة المستخدمة للتواصل والتوثيق، وتغطية حدث واقعي حقيقي، وقصة حياة، وما إلى ذلك.. التقارير في مجال الصحافة هي محاولة توثيق محايد.
لعل الفرق الوحيد مع الفيلم الوثائقي يكمن في كمية المحتوى المعطى، وسرعة وإيقاع الإنتاج، والدافع في توزيع مثل هذا المحتوى على جمهور معين من المشاهدين، ودرجة الحياد والموضوعية، وأخيراً النزعة الفنية.
ليس ثمة فرق جوهري بين صانع الأفلام الوثائقية والصحفي. ولكن، بالتأكيد، ثمة اختلافات بينهما، وإن كان هناك صحفيون اشتهروا بصناعة الأفلام مثل الأمريكي جون ألبرت والأسترالي جون بيلجز، اللذان ينتميان إلى مدرسة صحفية أصبحت تقريباً في طور الانقراض. في تلك المدرسة، يتمتع الصحفي باستقلالية تامة وخاصة في صناعة الفيلم، هو صانعه، والمحرك الأساسي لنقل قضية معينة يهتم بها بشكل شخصي.
وبعض تلك الاختلافات تكمن في جوهر التعاقد الذي يفرض على العمل مناخه ومزاجه. فالعقد الذي يربط الصحفي مع منظمة صحفية يعمل لصالحها يختلف تماماً عن ذاك الذي يبرمه صانع الفيلم مع جمهوره.
5- "وثائقي الويب" بين السينما والصحافة
تحظى القصص التي تستخدم وسائط متعددة في صناعتها بشعبية كبيرة بين المتلقين، ويتم تلقفها وتناقلها بقوة وكثافة على وسائل التواصل الاجتماعي. "وثائقي الويب" هو فيلم وثائقي على شبكة الإنترنت يمزج بين النص والفيديو والصوت وأشكال تعبيرية أخرى، ويسمح للمشاهد بالتفاعل. يشمل هذا النوع مجموعة واسعة من أشكال التعبير التي ترتبط بطرق مختلفة بالواقع الذي نريد أن نقول عنه شيئاً. "وثائقي الويب" يضع نفسه في الوسط بين الصحافة والسينما، وينهل الميزات من الطرفين: التقاليد الصحفية والسرد السينمائي. لذلك يتجه العديد من الصحفيين، في نقل قصصهم اليوم إلى الاستثمار في هذا المولود الجديد. لكن الجدير بالذكر أن هذا النوع الجديد - حيث الخلط بين السينما والفيلم الوثائقي والصحافة - ذهب أبعد بكثير من ذاتيته، وعرف كيف يستفيد من الشاشة الكبيرة والوثائقي؛ لإعطاء روح جديدة للصحافة، ولكن مع الإبقاء على مبادئ الموضوعية حافظ إلى حد ما على صورة المؤسسات الصحفية كسلطة رابعة، تتمثل مهمتها في مراقبة الناس والمؤسسات الأخرى ذات السلطة في المجتمع.
غالبا ما يقتصر العمل الصحفي التقليدي على تسجيل أحداث حقيقية مقترنة بمقابلات وتعليقات، يكون الغرض منها الانخراط في القصة أو الكشف عن سوء استخدام السلطة في المجتمع والعالم. ينسحب ذلك أيضاً على نقل قصص الأفراد أو المجموعات في نطاقات أضيق. أما في الطريقة الجديدة للسرد التي استعارتها الصحافة من السينما، فنتلمس بشكل واضح تداخل الوسائط والأشكال والأدوات، مما يقتضي على المتلقي الواعي إتقان تمييزها والتفريق بينها. ففي النهاية، الصحافة ليست سينما ولا السينما صحافة. أكبر مثال على ذلك أن الصحفي ليس مخرجاً. الصحفيون هم أفراد مدموغون بظروف مثل الجنس والمعرفة والخلفية الثقافية والقدرة على الملاحظة... السينما ترفد من الصحافة، لكن على الصحافة أن تقنّن من استخدام الوسائل التي ترفدها بها. ثمة توازن يجب أن تخلقه وأن تراعيه دائماً: استعارة أدوات السرد السينمائية يجب أن تخضع لضوابط، فالخيال هنا مساحته محدودة، لكنّ الدراما، بجاذبيتها وسطوتها على المتلقي، يجب أن تبقى حاضرة، ليس كحجر أساس كما في السينما، لكن كعنصر جذب وإثارة. على الصحفي أن يقدم مادته الصورية بطريقة تشرك وتتبنى رأيه ضمن حبكة درامية سينمائية... أي حبكة من الضروري أن تحافظ على جوهر واضح وبناء تقدمي حول قصة واضحة واقعية وموثوقة.
6- سينمائية الصحافة
لم تعد وظيفة الصحافة نقل الواقع فقط، بل أصبحت تتجاوز ذلك لتقديمه بطريقة مرئية وتمثيله وعرضه للمشاهد في فهم معين من خلال تفسير الأحداث. الغرض الرئيسي إذاً، هنا هو اختيار القصة وتركيبها وترتيبها وترجمتها من خلال مشاهد مرئية. هذا التركيب يعتمد في هيكليته على عدة أدوات سينمائية منها القصة، والنوع، وتطوّر الشخصيات، والتصوير، والألوان، والسيناريو، والستوري بورد، والصور المتحركة.
القصة: المفارقة الأساسية بين السينما والصحافة أنه في السينما، يمكن أن تكون القصة خيالية، لكن في الصحافة القصة أو الخبر لا بد من أن يكونا حقيقيين. ولكن، حتى وإن كان الخبر حقيقياً، لا بد للصحافة المرئية من تقديمه بطريقة سينمائية نوعاً ما. مع مرور الوقت، قامت الصحافة بتحسين تقنياتها وبصوغ أشكال وأدوات جديدة لرواية القصة. كانت القصة المرئية في المقام الأول شهادةً مباشرةً في مجال الحقيقة يتم نقلها بواسطة مراسل. في عصرنا الرقمي، بدّلت الصحافة جلدها. فقد بات الصحفي يعيد صياغة الخبر بوسائل جديدة، حتى لا تبدو قصته تافهة لا تتخطى كونها قطرة في بحر من الأخبار ستذوب من دون أن يلاحظها أحد. التنافس أصبح أقوى، وإرضاء المتلقي أصعب. في ظل تعرّض الجمهور لدفق من الصور والأخبار، وخضوعه لعدد متزايد من المحفزات، أصبح الرهان الأساسي يكمن في جذب انتباهه وإبهاره.. في هذا السياق، تحتاج رواية القصص الصحفية المرئية إلى مقاربات جديدة، وأفكار بسيطة ولكن واضحة. القصة الجيدة تصمد أو تسقط بوضوح شخصياتها.
الخلفية الفنية السينمائية والسرد السينمائي يمكن أن يساعدا الصحفي في الحصول على "ستوري بورد" أوسع يمكّنه من تصوير لقطات بطريقة سينمائية، وسرد القصة بطريقة أكثر اكتمالاً وتأثيراً.
اللغة السينمائية في القصة الصحفية: اللغة السينمائية مظلة شاسعة ناتجة عن اندماج العديد من اللغات التأسيسية لرواية قصة سينمائية أو تقرير صحفي مصوّر. وعلى من يريد استخدام هذه اللغة في الصحافة أن يكون الكاتب والمصور والاستشاري والمحرر. واستخدام هذه اللغة في الصحافة يمنح الحياة لنهج تركيبي مختلف تماماً عن نهج المقال المكتوب أو نشرة الأخبار، بفضل حركة الكاميرا المستمرة والشخصيات. على الصورة أن تشرح الخبر وأن تظهره. وهذا الاستخدام في الصحافة يتداخل مع عدة تقنيات لا بد من استعمالها أيضا: ً الألوان وكيفية استخدامها ومعناها في السينما وربطها مع الواقع الذي ننقله في التقرير. يجب تحضير مكان التصوير وإن كان خارجياً؛ إذ من الضروري اختيار البيئة المناسبة لنقل القصة التي نتناولها، وجعل الشخصيات تتفاعل مع البيئة الحقيقية المحيطة بها. الصورة الخارجية للشخصيات وتقديمها مثلما هي، مثلاً إن كنا ننقل قصة عن صياد فلا بد من أن تعكس الهيئة الخارجية للشخصية ما يقوم به في حياته اليومية. تحرير المشاهد وربطها مع بعضها البعض لتكون سلسلة كاملة من الأحداث التي تقع. عدم تطابق الصورة مع الكلام المسموع بل تكاملهما؛ فالصورة لا يجب أن تجسّد الكلام المسموع، بل أن تشكّل تكملة له لفهم القصة بشكل أعمق. استعمال الأصوات، ليس فقط لتحديد وتوضيح نبرة التطور الصوتي للسرد، ولكن أيضاً لخلق جو مؤثر، وهنا تأتي الموسيقى طبعاً بسطوتها في تسليط الضوء على لحظات عاطفية محددة مثلاً. الرسومات، والغرافيك المكملة للقصة تنفخ فيها الروح وتوصلها بطريقة أسهل.
الستوري بورد: يمكن ترجمة هذا المصطلح حرفياً على أنه "لوحة القصة"، ويمكن التعبير عن معناه من الناحية السينمائية على أنه نقل المكتوب إلى قصة مصورة. هذه التقنية بدأت في السينما في الثلاثينيات، في فترة تطوير وتخطيط الفكر البصري. في الصحافة، تتيح هذه التقنية للصحفي رسم ما يريد نقله، فيراه أمام عينيه قبل أن يخلقه. يشعر به ويرى إن كان هناك بعض التعديلات أو الزيادات التي يجب الإضاءة عليها.