عجيبة هي الأدوات والتطبيقات الحديثة التي أصبحت متاحة لنا وبين أيدينا.. لا تمر أشهر قليلة إلا ونكتشف معها المزيد من هذه التقنيات في إطار سوق عالمي متسارع النمو، لا يتوقف عن التنافس على ابتكار الجديد منها وتطويرها. الهاتف المحمول الذي يمتلكه كل واحد منا في جيبه، واحد من أهم هذه الأدوات وأكثرها تأثيرا -برأيي- على عملنا نحن الصحفيين.
أذكر بعد فترة وجيزة من بداية عملي في الجزيرة صيف العام 2011، وتصاعد أحداث الثورات العربية في بلد تلو الآخر، بدأت تتسلل تدريجيا إلى غرفة الأخبار مشاهد صوَّرها ناشطون بهواتفهم، وشيئا فشيئا أصبحت هذه المقاطع المصورة مصدرَنا الوحيد لنقل ما يجري هناك. معظم هذه المقاطع كانت مخالفة للمعايير الفنية للجزيرة، لكنها فرضت نفسها كمصدر أساسي حتى في الوكالات العالمية التي نستخدمها.
كان ذلك اعترافا فعليا بما يُعرف بصحافة المواطن، لكنه كان أيضا دافعا للتفكير مليّا من جهتنا كصحفيين في الإمكانيات التي تتيحها هذه الأدوات لإنتاج المحتوى الإعلامي. هذا التفكير سرعان ما ترسخ لديّ في صيف العام 2014، حين شاركتُ في دورة تنظمها سنويا مؤسسة طومسون بالعاصمة البريطانية لندن لمجموعة صحفيين من دول مختلفة. امتدَّت الدورة على مدى شهر وتنوعت مواضيعها لتشمل أنواعا مختلفة من الأشكال الإعلامية المطبوعة والمسموعة والمرئية، وكان من بينها أيضا ما يسمى "صحافة الهاتف المحمول".
ما زلت أذكر تلك اللحظة التي دهشنا فيها جميعا عندما شاهدنا إعلانا تلفزيونيا فائق الجودة صوِّر باستخدام الهاتف المحمول فقط، ثم بدأنا بمشاهدة أشكال إعلامية أخرى أنتِجت بالهواتف المحمولة من تقارير وبرامج تلفزيونية وأفلام وثائقية.. كان ذلك مدهشا حقا، خاصة لناحية جودة الصورة وثباتها.
تعرَّفنا إلى مجموعة تطبيقات تحسِّن جودة التصوير بالهاتف المحمول، مثل تطبيق "برو فيلمك" (FilmicPro)، وأخرى تستخدم للمونتاج "آي موفي" (I movie) على الجهاز نفسه. والأمر الأساسي الآخر هو تثبيت الهاتف المحمول على حامل صغير لضمان ثبات الصورة، فضلا عن معرفتي بأسس التصوير والمونتاج. لم يكن الأمر معقدا.. خرجنا في شوارع لندن وبدأنا التصوير، قبل أن أكتشف أنني أعددت تقريرا قصيرا -تصويرا ومونتاجا- باستخدام الهاتف المحمول فقط.
أدركت حينها أن تلك كانت مرحلة متقدمة من الإنتاج الإعلامي المحترف باستخدام الهاتف المحمول، وأن هذا الجهاز يتمتع بإمكانيات تفوق تقديراتنا.
لقد كانت بالفعل تجربة مختلفة عن التجربة التقليدية في كثير من النواحي.. لعل أكثر ما لفت نظري فيها هو إمكانية استخدام الهاتف المحمول بشكل سلس في أي مكان وأي لحظة، وقدرته على التقاط اللحظات العفوية للناس على عكس الكاميرات العادية، ففي نهاية الأمر هو مجرد هاتف صغير لا رهبة له مثل الكاميرا الكبيرة.
استفدت كثيرا من ذلك التدريب إلى أن تحوّل إلى تطبيق فعلي عندما ذهبت إلى العاصمة الإيرلندية دبلن في مارس/آذار 2015 لتغطية مؤتمر عن صحافة الهاتف المحمول، هو الأول على مستوى العالم. اقترحت على إدارة الأخبار أن أغطِّي المؤتمر باستخدام الهاتف المحمول فقط، وهذا ما حدث. صوَّرت تقريرا تلفزيونيا عن فعاليات المؤتمر وقمت بعملية المونتاج مستخدمة الهاتف المحمول، قبل أن أرسل المادة إلى الدوحة لتبثَّ على الشاشة.
وخلال المؤتمر التقيت عددا من المراسلين والصحفيين في وسائل إعلام تلفزيونية عالمية استخدموا التقنية ذاتها في ظروف مختلفة، بعضها كان لتغطية حدث عاجل عبر البث المباشر، وهذه أيضا زاوية مهمة في استخدام الهواتف المحمولة في التغطيات الصحفية، لا سيما مع تطوير تطبيقات البث المباشر بصور عالية الجودة، كانت الجزيرة قد بدأت استخدامها أيضا، وهي تجربة تعززها اليوم كاميرات الهواتف المحمولة التي تتطور بشكل سريع لتضاهي الكاميرات الاحترافية.
كانت تجربة مختلفة، لكن بالتأكيد لا يمكنها إلغاء طريقة العمل التقليدية، إذ للكاميرا التلفزيونية العادية استخدامات وقدرات تفوق كاميرا الهاتف المحمول. غير أن اكتشاف قدرات هذا الأخير لناحية الإنتاج التلفزيوني يضع بين أيدي الصحفيين أدوات جديدة سهلة الاستخدام، خاصة في المناطق التي يصعب إدخال الكاميرات العادية إليها، أو في لحظات الأحداث الطارئة والعاجلة التي قد لا تتوفر فيها الكاميرا العادية. ومع استخدام هذه الهواتف باحترافية، بات يمكن للمراسل الصحفي إنتاج مواد مصورة تكون بالمستوى المطلوب لعرضها على الشاشة.
لاحقا، ازدادت لدي رغبة متابعة كل ما هو جديد في هذا المجال، خاصة أنه يتطور بشكل سريع ومستمر. وأتاح لي العمل مع مركز الجزيرة الإعلامي للتدريب والتطوير نقل تجربتي إلى نحو ثلاثين متدربا شابا أثناء ورشة عمل خاصة في المغرب.
في اليوم الأول رأيت في أعين المشاركين الاندهاش ذاته الذي شعرت به في لندن، وبرغم أن أيام الورشة كانت قليلة نسبيا (ثلاثة أيام فقط)، فقد استطاع المشاركون فيها إنتاج أفلام قصيرة باستخدام هواتفهم الشخصية. وفي نهاية الورشة عبروا عن اندفاعهم لتعلم المزيد، وتغيرت فكرتهم عن أن المقاطع المصورة بالهاتف المحمول هي تلك التي تتسم بالاهتزاز وعدم الوضوح.. فبأدوات بسيطة، تعلموا كيف يمكنهم الحصول على أفضل المقاطع المصورة من ذلك الجهاز الصغير.
لا أختلف عنهم كثيرا، إذ سأحرص أيضا على تعلم المزيد عن هذه التقنيات المتسارعة التطور والتي بالتأكيد وضعت القوة في جيب كل من يحمل هاتفا محمولا، فكيف إذا كان صحفيا في الأساس؟!