الميدان هو من يصنع الصحفي، والدرجات العلمية وإن علت لا تضيف لمسيرة المراسل ما يضيفه الميدان. بعد سنوات من التخرج بشهادة بكالوريوس هندسية تبعها انخراط في العمل الصحفي، بدأت تتلاشى لدي فكرة العودة لمقاعد الدراسة، خصوصا وأن من شأنها -كما ظننت- تغييب الدارس عن الميدان.. ومن ابتعد فلربما ينسى أو يُنسى. حتى ظهرت لي فكرة "الدراسة الميدانية" وهذه الجملة القصيرة تختصر فلسفة الدراسة في كلية الصحافة بجامعة كولومبيا بنيويورك.
التقديم
الحصول على القبول لم يكن بالأمر السهل لكنه أيضا ليس بالمعقد، فقد استدعى إعداد متطلبات القبول بضعة أشهر. وكان على رأس التحديات بالنسبة لي، الحصول على درجة عالية في اختبارات اللغة الإنجليزية لغير الناطقين بها، فاللغة ركيزة الصحافة. كما كان من المتطلبات أيضا اجتياز اختبار تحريري يقيس مدى إلمامك بالشؤون الدولية والتاريخ المعاصر، إضافة لكتابة سيرة شخصية وأخرى أكاديمية تعرف بها عن نفسك وخبراتك بشكل موسع من أجل إقناع لجنة القبول بالكفاية لدخول الكلية التي أسسها الناشر الصحفي جوزيف بوليتزر عام 1913م، والذي تُمنح باسمه سنويا جوائز البوليتزر أو أوسكار الصحافة كما يحلو للبعض تسميتها.
لماذا كولومبيا؟
تقع جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك وهي عضو في رابطة الآيفي (Ivy League)، وهي رابطة لجامعات عريقة في شمال شرق أميركا، تضم جامعات هارفارد وييل وكولومبيا وبنسلفينيا وبرينستون ودارتموث وكورنيل وبراون. وقد تخرج من الجامعة الكثير من السياسيين والاقتصاديين، كما حصل العشرات من منتسبيها على جائزة نوبل، لتتصدر جامعات المعمورة في عدد خريجيها الحاصلين على هذه الجائزة، كما تخرج منها الرؤساء الأميركيون السابقون باراك أوباما وثيودور روزفلت وفرانكلين روزفلت وتسعة وعشرون من زعماء دول العالم وستة وعشرون ممن حصلوا على جائزة الأوسكار.
الصحافة في نيويورك
ناهيك عن كون المدينة المقر الرئيسي للنيويورك تايمز -أحد أكثر الصحف العالمية رصانةً- فإن دراسة الصحافة في نيويورك تتيح لك أن تكون صحفيا متخصصا في الشؤون الدبلوماسية.. فالمدينة مثلاً هي مقر الأمم المتحدة وفيها تعقد اجتماعات الجمعية العامة كل عام. وبالنزول إلى جنوب المدينة تجد وول ستريت، لتراقب منه مؤشرات أسواق المال والأعمال راصدا صعودها وهبوطها لتتخصص في تغطية الشأن الاقتصادي، وإن أردت الرياضة فلا تُذكر المدينة إلا ويذكر فريق اليانكيز للبيسبول وملعبه الشهير شمال المدينة، وإن رغبت آخر صيحات الموضة والأزياء فولي وجهك شطر الجادة الخامسة وحي سوهو، ودع عيناك تكتبان ما تشاهد لتخرج بلوحة سوريالية بديعة، ولعشاق الثقافة والمسرح من الصحفيين شارعهم أيضاً، وهو برودوي الشهير بالحراك الثقافي والفرق الفنية والمسرحية.
الدراسة الميدانية
"الكلية هي غرفة أخبار كبيرة والمدينة هي نطاقك الصحفي، البروفيسور هو مدير الأخبار والطلاب هم صحفيون يقدمون له المقترحات".. هذا ما قيل لنا في أول يوم دراسي، والذي استلمنا بعده بطاقات تسهل من تغطياتنا كصحفيين في المدينة وليس كطلاب. تبدأ الدراسة في برنامج ماجستير الصحافة بشهرٍ مكثف تتعلم فيه جل الأدوات الصحفية المستخدمة، بدءاً بصحافة الراديو وفيها تدرس أساسيات مقابلة الناس وطرح الأسئلة عليهم والتفاعل معهم، ثم تنتقل لأسس تسجيل الصوت ومونتاجه، لتبحر بعد ذلك في مبادئ التصوير الفوتوغرافي والتحكم في الضوء والإضاءة واختيار الزوايا المناسبة لكل حدث، وبعد أسبوعين مع الكاميرات بأنواعها تنتقل في الأسبوع الرابع لأساسيات التغطيات الصحفية وطرق جمع المعلومات وتدوينها.
الفريد أن الأساتذة هنا هم أبناء الميدان.. فمن يدرِّسك التصوير يعمل مصورا لدى مجلة ناشيونال جيوغرافيك.. ومن يعلِّمك صحافة الراديو كان مديراً للإذاعة الوطنية العامة بالولايات المتحدة.. وأستاذ مادة التغطيات الصحفية عمل محررا لدى النيويورك تايمز ومساعدته تعمل في القسم الاقتصادي لدى سي إن إن.
فصل الخريف
بعد الشهر التمهيدي المكثف أو ما يعرف بالـ"Boot Camp"، يبدأ البرنامج الفعلي بشهرين متتاليين من التغطيات الصحفية المتخصصة، حيث يتم تقسيم طلاب الدفعة لمجموعات.. كل مجموعة تعنى بتغطية نطاق جغرافي أو اختصاص محدد في نيويورك. شعبتي -على سبيل المثال- كان اختصاصها الأقليات العرقية في نيويورك، حيث يقوم كل طالب باختيار أقلية من الأقليات الموجودة -وما أكثرها هناك-فالمدينة تمثل أنموذجاً للتمازج البشري والتنوع العرقي، وهو ما يتيح لك تغطية دول متعددة في مساحة صغيرة.. فهناك مناطق يقطنها اللاتينيون وأخرى للعرب وأحياء يعيش فيها الآسيويون وأخرى يسكنها يونانيون.. وهكذا. كان على كل طالب اختيار أقلية في المدينة يسبر أغوارها ويحادث أهلها ويأكل معهم.. يشاركهم مناسباتهم السعيدة والحزينة ليخرج بقصص إنسانية وسياسية واقتصادية. شعبة أخرى يختص أفرادها بتغطية حدائق المدينة يراقبونها ويقابلون المشردين فيها ويتابعون مع الشرطة معدلات الجريمة. وشعبة ثالثة كلِّف طلابها بتغطية عالم المواصلات في المدينة، شبكة المترو وغموضها والحافلات وما يجري فيها من أحداث وأحاديث، هموم اتحادات سيارات الأجرة الصفراء والتحديات التي تواجههم في ظل تصاعد ثقافة أوبر.
وأثناء رحلة الشهرين وفي ذات الفصل الدراسي الأول المزدحم، يدرس الطالب عدة مواد مساندة من شأنها زيادة وعي وثقافة الصحفي، وهي إضاءات في تاريخ الصحافة وأخلاقياتها ومادة في القانون الأميركي، ورابعة تعنى بالجانب الاقتصادي في المهنة، مليئة بدراسة حالات لمؤسسات صحفية توقفت بسبب خلل ما في إدارتها. وفي الجزء الأخير من الفصل الأول (الخريف) يدرس الطالب مادة الصحافة التلفزيونية وأسس التعامل مع كاميرات الفيديو وبرامج المونتاج أو يختار المزيد من التبحر في صحافة الراديو، إضافة لمادة ثانية في الصحافة المكتوبة التي تندرج تحتها الكثير من الخيارات.. وكان اختياري مادة "التغطيات الصحفية العاجلة"، وفيها يصلك بريد إلكتروني في الصباح تكلف فيه بتغطية حدث ما في المدينة لتقوم بتسليم تقريرك الإخباري في وقت محدد لا تتأخر عنه، لتتعلم أسس الكتابة تحت الضغط وفي أي مكان وزمان، وهذه المادة مناسبة لمن يريد العمل لدى وكالات الأنباء العالمية كرويترز وأسوشيتد برس وغيرها.
مشروع التخرج
صحيح أن مدة برنامج الماجستير هي سنة، لكنها سنة مكثفة جدا.. فلا يوجد وقت كبير للاسترخاء خلالها.. فإجازة ما بين الفصلين هي موعد البدء في كتابة مشروع التخرج الذي عكف الطلاب على اختيار عنوانه مع المشرف الخاص خلال فصل الخريف، حيث يختار كل طالب موضوعا يقع ضمن دائرة اهتمامه، شرط أن يكون على ارتباط بالمدينة المقر للجامعة (نيويورك) ليتمكن من الكتابة والعودة لمصادره مرات ومرات، حتى يستوفي شروط الكتابة ويخرج بمادة صحفية معتبرة قابلة للنشر في كبرى وسائل الإعلام، إذ أن مشروع التخرج في كلية الصحافة ليس بحثا أكاديميا حول أهمية الإعلام أو تأثيراته بل هو قطعة صحفية مطولة، أو فيلم وثائقي أو برنامج على الراديو أو معرض للصور، كل حسب اهتمامه واختصاصه وتوجهه المستقبلي.. وكان مشروع التخرج الخاص بي حول "أدوار المبعوثين الخاصين للأمين العام للأمم المتحدة في بلدان الربيع العربي" مع التركيز على دور جمال بن عمر في اليمن كأنموذج، وهو ما استدعى مني السفر إلى لندن والرياض والدوحة وواشنطن تباعا، لمقابلة بعض المصادر الدبلوماسية والمحللين السياسيين مع العديد من الزيارات لمقر الأمم المتحدة في نيويورك، لتنتهي إجازة الكريسميس بتسليم النسخة الأولى من مشروع التخرج.
فصل الربيع
بعد التسليم يبدأ فصل الربيع وهو فصل التخصص، إذ يختار كل طالب مادتين متخصصتين من قائمة طويلة منوعة تلبي رغبات التخصصات الصحفية المستقبلية للطلاب.. فهناك مادة متخصصة لكتابة الملفات الشخصية "البروفايل"، وأخرى في الاقتصاد وثالثة حول التغطيات في الصين ورابعة لمن اختار تغطية النزاعات حول العالم، ومادة أخرى لمن أراد الاختصاص في تغطية التعليم أو الأديان، ومادة تختص في صحافة المعلومات والأرقام والكتابة تحت الضغط والأفلام الوثائقية وغرفة الأخبار الدولية لمن أراد العمل في شبكات إخبارية دولية. وكذلك خيارات متنوعة في الصحافة الاستقصائية، وكتابة التقارير للمجلات ومادة لتغطية الانتخابات، وغيرها. وبالإضافة لكل ذلك، توجد مادة إلزامية للجميع في الصحافة الرقمية مع جرعة مكثفة من تقنيات التحقق للتعامل مع الكم الهائل من المعلومات والأخبار على منصات التواصل الاجتماعي.
دراسة وأكثر
فضلا عن جميع ما ذكرت أعلاه، لا يخلو أسبوع من عدة ندوات وفعاليات صحفية لصحفيين زائرين أو خريجين سابقين أو خبراء وأكاديميين أو مسؤولين في شبكات التواصل الاجتماعي، إضافة لتنظيم الكلية العديد من الزيارات لمؤسسات صحفية عريقة وحديثة في المدينة كجزء من البرنامج الدراسي، كـ"النيويورك تايمز" و"سي أن أن" و"فايس نيوز" و"كوارتز" وغيرها.. وزيارات لمؤسسات تعنى بحقوق الصحفيين، كلجنة حماية الصحفيين وهيومن رايتس ووتش، ليخرج الطالب برصيد زاخر من العلاقات والخبرات. كما تتيح الدراسة التعرف إلى مشاريع صحفية استثنائية مثل وكالة "صحارى ريبورترز" وهي عبارة عن غرفتين صغيرتين يغطي فيها عدد محدود من الصحفيين قضايا الفساد وحقوق الإنسان والشأن السياسي في نيجيريا، ليمثل موقعهم الإلكتروني أحد أهم المصادر الصحفية هناك.. وهكذا تشكل رحلة الدراسة تجربة فريدة للطالب، ليتخرج بعد هذه الرحلة بمخزون أكاديمي وخبرة ميدانية ملما بمتطلبات المهنة وأخلاقياتها، متسلحا بمهارات تقنية وعلاقات مع زملاء يتوزعون كل عام في عشرات الدول والمؤسسات الصحفية حول العالم، ليصبح على أتم استعداد لخوض غمار مهنة المتاعب.