الإعلام سلاح الحرب والسلام.. بين المبادئ المهنية والمسؤولية الاجتماعية

الإعلام سلاح الحرب والسلام.. بين المبادئ المهنية والمسؤولية الاجتماعية

يتصرف الإنسان طوال الوقت، بناء على معلومات تحفز استجابته وتفاعله مع محيطه، يستقيها من احتياجاته الذاتية، أو من البيئة الطبيعية، أو من شبكة علاقاته الاجتماعية. يسمع قصة إذاعية، يشاهد برنامجا حواريا، يقرأ افتتاحية صحيفة، يتصفح موقعا إخباريا، فيشكل مجموعة من الخيارات والمواقف تجاه العالم في يومياته وتحولاته، في عظائم الأمور وصغائرها.

تلك هي الخطاطة العامة للأدوار التي يضطلع بها الإعلام في مختلف الأحوال، تلك الماكينة الأزلية التي تغرق العالم على مدار اليوم، بجديد الأخبار والمعلومات والوقائع. وهي أدوار تكتسي حساسية خاصة حين يعيش المجتمع لحظة تمزق للنسيج الوطني، يجسده عنف مسلح على درجة من الحدة بحيث يعطل إمكانيات الحوار والتفاهم والعيش المشترك. 

يتزايد الحديث في العقود الأخيرة عن دور الإعلام في بناء السلام وتكريس قيم الحوار والتعايش السلمي، والحال أن التاريخ الحديث يضع الإعلام في قفص الاتهام على خلفية مفعول التأجيج والتحريض الذي اضطلع به فاعلون في هذا القطاع الحيوي إبان العديد من النزاعات المسلحة. لقد كان الخبر المضلل والتحريض الخطابي دائما وقودا لحروب دامية، خصوصا في حقبة ما بعد الحرب الباردة. 

ومن وحي الانعكاسات السلبية للتغطيات الإعلامية لعدد من النزاعات، انبثق الرهان الدولي على زرع ثقافة السلام مع ما تقتضيه من استثمار في نجاعة الإعلام وسعي إلى توجيه قوة تأثيره نحو دعم مسارات التغيير السياسي للمجتمعات بوسائل سلمية تحفظ السلم والانسجام بين القوى والشرائح المكونة للمجتمع. وهو رهان -فضلا عن فاعليته التي تظل مثار تساؤل- يواجه تحفظا من شريحة واسعة من المهنيين، ممن يتمسكون بمبادئ الممارسة التقليدية للإعلام، بما تقتضيه من توصيف لما يجري، بدون انشغال بما ينبغي أن يكون. 

 

سجل أسود لمارد ينفخ في النار 

تم الاشتغال علميا على دور الإعلام في إثارة النزاع والحث على الكراهية أكثر من دوره في السلام. ولذلك دافعٌ منطقي يتمثل في الكتاب الأسود لتاريخ توظيف الوسيط الإعلامي بمختلف أشكاله مكتوبا ومسموعا ومرئيا، في التحريض على القتل والعدوان.

خلفت السياسة الدعائية للنظام النازي إرثا ضخما يوثق الطريقة التي يتحول بها وسيط وُجد في الأصل لربط الجسور وفتح مسالك تدفق المعلومات بشكل سيار؛ إلى مارد ينفخ في نار العنف. وتكرر ذلك على نحو مهول في عصر التبشير بالحداثة والحرية والمساواة، حين دقت نواقيس الجيل الجديد للحروب بعد نهاية الحرب الباردة وذوبان جليد الاستقطاب الأيدولوجي بين المعسكرين.

وجسدت حروب البلقان ومنطقة البحيرات الكبرى في إفريقيا حجم الشرور التي قد يقترفها الفاعل الإعلامي، تنفيذا لأجندة سياسية وعسكرية تقوم على زرع الحقد والكراهية وشيطنة الآخر.

تخلق الحرب أجواء مثالية لتزايد الطلب على المعلومة التي تلبي حاجة المواطن إلى فهم حقائق النزاع ومستقبله الفردي، ومآل الجماعة التي ينتمي إليها وسبل الحياة تحت القصف... إلخ. يقول الباحث ريمي ريفيل "إن الحرب حدث إعلامي من الدرجة الأولى، فصور وسرديات النزاعات الدولية تغير طبيعة المعلومة، وتقود السلطات السياسية والعسكرية إلى محاولة التحكم منهجيا في مضمون الصحافة والإذاعة والتلفزيون" (1).

واهتم باحثون عديدون بعمليات التلاعب بالرأي العام، ليس فقط من قبل الأنظمة السلطوية، وإنما أيضا من قبل حكومات الدول الديمقراطية بتواطؤ مع المؤسسات الصحفية. ذلك شأن كتّاب ذوي نظرة نقدية تجاه السياسات الغربية والأميركية بوجه خاص: نعوم تشومسكي، ريمي ريفيل، سيرج حليمي... وجميعهم انتقدوا الدعاية الأميركية والتوظيفات التي تصب باتجاه دفع الرأي العام نحو الانحياز إلى تدخلات عسكرية في الخارج كما بيّن تشومسكي وماكيسني بخصوص حربي فيتنام والعراق، بينما فضح سيرج حليمي ودومينيك فيدال دور وسائل الإعلام في تبرير التدخلات الغربية. بالنسبة لهما، فإن هذه الوسائل ضللت الرأي العام في معالجة مختلف النزاعات عبر العالم خلال العقود الأخيرة. وتطابقها مع مواقف السلطات الفرنسية تأكيد لهذا التواطؤ (2). 

وإن كان توظيف الإعلام في ترويج الأجندات السياسية لهذه القوة أو تلك أمرا غير جديد، فإن الحروب العرقية دفعت بالفاعل الإعلامي إلى لعب أدوار بالغة الفظاعة، توخت زرع الرعب والتحريض على ارتكاب جرائم ضد الآخر من منطلقات عرقية أو عقائدية. وحتى الآن يظل نموذج إذاعة "ميل كولين" (Mille Collines) في رواندا، نموذجا لهذا الانحراف الخطير للإعلام حين يصبح واجهة للتحريض على العنف وتمجيده وشيطنة العدو واعتباره كيانا دونيا.

 

التأسيس النظري لصحافة السلام

حينما تندلع المعارك في بلد معين، وغالبا في مناطق الهشاشة والبؤس وانهيار المؤسسات، تتعبّأ وسائل الإعلام المحلية لمتابعة الأحداث -في أحيان كثيرة- تحت مظلة حزبية أو من زاوية نظر طائفية، أو تنفيذا لأجندة دوائر اقتصادية أو سياسية أو أيدولوجية... إلخ. في الوقت نفسه، تتحول المنطقة المنفجرة إلى وجهة جاذبة لكبريات وسائل الإعلام الدولية التي تحوّل الحدث المحلي إلى شأن عالمي، والتي تثير تغطياتها انتقادات من نوع آخر.

يستدعي الباحث الكندي روس هاورد أمثلة بوروندي والكونغو ورواندا، حيث تحولت وسائل الإعلام المحلية إلى آليات دعائية لفرقاء النزاع، غذت الانقسام والكراهية. في المقابل، كشفت دراسات عديدة عن الطابع التبسيطي للتغطيات الدولية للأزمات التي عرفتها مناطق في إفريقيا وآسيا ووسط وشرق أوروبا. تغطيات تغذي المخيال الغربي البعيد عن حقائق النزاع، وتقدم وجبات دموية جاهزة لصناعة الإثارة، وتنزع إلى تقديم النزاعات الأهلية في صيغة صدام مسدود الآفاق. هذا دون إغفال الارتباطات التي تسم علاقة الإعلام الدولي بالقوى الدولية التي ينتمي إليها.

وكبديل لهذا التوجه، يتحدث هاورد عن الصحافة الناشطة إيجابيا، التي توجّه سلوكات الجمهور من خلال تقديم البدائل السلمية، وتتجاوز الحديث عن الانقسامات الإثنية والعرقية، وتمضي إلى الجذور الحقيقية للنزاعات، ثم تفرز وتؤكد النقاط المشتركة لدى أطراف النزاع (3).

يؤمن دعاة صحافة السلام بالوظيفة الاجتماعية الرمزية لوسائل الإعلام، التي لا تنحصر في القيام بفعل الإخبار، بل في إعطاء معنى للعالم المحيط بالناس. إعطاء المعنى يقتضي الأخذ بعين الاعتبار انعكاسات كل فعل إعلامي، ومدى مساهمته في إحداث أثر إيجابي في المجتمع أو العكس. وهذا ما يجعل من الصحفي فاعلا اجتماعيا قائم الذات، وليس مجرد شاهد على الأحداث (4).

ويحذر هذا التيار من مخاطر انخراط الإعلام في ممارسة التضليل، وترويج الإشاعة، وتغذية الجهل والأحكام المسبقة، التي تشكل العدو اللدود لأي سلام مستدام في منطقة منكوبة بجنون العنف.

هكذا، بدأ دور وسائل الإعلام في مناطق النزاع يستأثر باهتمام المانحين والمنظمات غير الحكومية التي تنبهت منذ التسعينيات إلى ضرورة تشجيع هذه المنابر على تقديم تغطيات غير منحازة إلى فصيل دون آخر، وإبراز وجهات نظر تعددية، وتناول قضايا بناء السلام، من قبيل التفاهم بين المكونات العرقية والإثنية، والانتخابات، ومحاربة التمييز، وفضح الصور المغلوطة والبروباغندا، وتشجيع المجتمعات على التصالح مع الماضي وتصور مستقبل مشترك.. (5). 

وتدين التطورات النظرية وتجسيداتها الميدانية في مجال توظيف الإعلام في تشجيع السلام بشكل كبير؛ للباحث جوهان غالتونغ، عالم السياسة النرويجي ومؤسس شبكة لتحويل النزاعات بوسائل سلمية، إذ يرى أن دور الصحفيين داخل رقعة صراع مسلح، يتمثل في تسهيل الحوار داخل المجتمع، والدفاع عن حقوق الإنسان ومن لا صوت له، والقيام بدور وسيط موضوعي بين مختلف الأطراف.

ويرسم غالتونغ خطاطة لأدوار صحفيي السلام والحرب، تشكل مرجعا للباحثين والمنظمات الدولية وغير الحكومية التي تستثمر في هذا الباب. بالنسبة له، صحفي السلام يدرس تشكيلة النزاع، والأطراف، والأهداف والمشاكل، بينما صحفي الحرب يتمركز حول ساحة النزاع. صحفي السلام يبحث عن نقاط لتحقيق معادلة رابح/رابح، بينما يتعقب صحفي الحرب نتيجة صفرية؛ من سيقضي على الآخر. صحفي السلام يعطي الكلمة لجميع الفرقاء، وصحفي الحرب يتعامل بمنطق "نحن والآخر" في خدمة سياسة دعائية عدوانية. صحفي السلام يعتبر الحرب مشكلة، وصحفي الحرب يعتبر "الآخر" مشكلة. صحفي السلام يؤنْسِن جميع أطراف النزاع، وصحفي الحرب يُشيْطن الآخر (6).

 

التفعيل الميداني لصحافة السلام

لقد حث انهيار جدار برلين المجموعة الدولية على تكثيف هذا التوجه نحو دعم وتمويل إصلاح القطاع الإعلامي في سياق تجفيف الماضي السلطوي بمناطق واسعة من العالم، وأنفقت ملايين الدولارات في السعي إلى انبثاق إعلام مستقل بأوروبا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقا. ومنذ أواسط التسعينيات، ضخت الوكالات الحكومية والمتعددة الأطراف وغير الحكومية استثمارات كبرى لتشجيع عمليات إصلاحية من هذا النوع في البلدان المتضررة من النزاعات، باتجاه المساعدة على بروز إعلام محلي مؤهل لمواكبة مسارات التغيير السلمية والديمقراطية. وشملت هذه التجارب مناطق مختلفة مثل البوسنة وكوسوفو وتيمور الشرقية وأفغانستان، تجسيدا لأطروحة ليبرالية تؤمن بدور الإعلام في تنمية القيم الديمقراطية والحكامة الجيدة وبناء السلام.

ومضت برامج السلام التي انخرط فيها المانحون والمنظمات الأممية وغير الحكومية إلى تشجيع حركية توجيه المضامين الإعلامية نحو نصرة السلام، في أفق تشكيل شبكة حلفاء من وسائل إعلام منخرطة عضويا في المسار السلمي، تراهن على تأثير إرادي في السلوكات والتصورات باتجاه تجاوز الاستقطاب العدائي المغذي للنزاعات المسلحة داخل المجتمع.

وتمركزت محاور العمل في هذه البرامج الدولية على تعزيز القدرات في مجال مقاربة النزاعات ورفع القدرات المؤسساتية للمؤسسات الإعلامية، وتعزيز العلاقات بين وسائل الإعلام والمجتمع المدني والحكومات، ونشر دراسات حول دور وسائل الإعلام في ثقافة السلام، وبلورة إستراتيجيات لسبل مواجهة إعلام الكراهية ودعم التنظيم الذاتي للمهنة (7).

وفي هذا الباب، راهنت اليونيسكو من موقعها في تشجيع حرية التعبير وثقافة السلام؛ على تطوير وسائل الإعلام، وخصوصا الإذاعات الجماعية/المحلية بالنظر إلى دورها في الحياة اليومية للمجموعات السكانية المحلية، وتنظيم نقاشات حول القضايا التي تهم المستمعين بلغاتهم المحلية، فضلا عن تكوين شباب على التنشيط الإذاعي وفق قيم إيجابية تمجد التعايش، على غرار النموذج الذي تم تجريبه في جنوب السودان. وتشمل هذه المحاور تعزيز بيئة تسمح بانبثاق صحافة مستقلة انطلاقا من ترسانة معيارية حديثة عبر تغيير القوانين المؤطرة، وإصلاح المؤسسات من قبيل وزارة الإعلام ولجان تقنين وسائل الإعلام، ووضع قوانين تكرس حرية التعبير وولوج المعلومات.

وفي تخطيط تدخلاتها، تعتقد مؤسسة "هيرونديل" السويسرية غير الحكومية التي كانت وراء إنشاء مجموعة من الإذاعات المستقلة في البلدان التي هزتها النزاعات الماضية أو الجارية: تيمور الشرقية، وكوسوفو، والكونغو، وليبيريا، وسيراليون، والسودان، أن الإذاعات المستقلة تلعب دورا هائلا لفائدة السلام من خلال بث أخبار غير متحزبة وتبديد الإشاعات والدعايات ذات النفس العدائي.

وبخصوص محتوى إعلام السلام، يرى باحثون أن بإمكان وسائل الإعلام بث قيم السلام في ضمير الجمهور، لكن أساسا من خلال تقنيات إعلامية غير تقليدية مثل الحملات الإعلانية الاجتماعية، والمسلسلات الإذاعية، والدراما التلفزيونية.

لقد اتجه الرهان إذن، نحو تقديم الرسالة الإعلامية في قالب ترفيهي من أجل فاعلية بيداغوجية (تربوية) أكبر. ويستخدم هذا النهج على نطاق واسع من قبل منظمات مثل "بانوس"، و"البحث عن أرضية مشتركة"، و"إنتر نيوز"، من خلال إنتاج مسلسلات إذاعية وتلفزيونية ووثائقيات لترويج قيم السلام والمواطنة، خصوصا في البوسنة وبوروندي ولبنان وأنغولا. إنها أدوات تتوخى تقوية اللحمة الاجتماعية، كما تمر بشكل سلس على قنوات الرقابة السياسية، مقارنة مع الخطابات المباشرة التي قد تقمعها السلطات (8). 

وتنبني البرامج الميدانية لإعلام السلام على توظيف رسالتها لإرساء علاقات إيجابية بين الجماعات، خصوصا في سياق نزاعات قومية وإثنية ودينية، بما يتيح التقليص من الاستقطاب عبر تقديم صورة الآخر في مرآة الذات. في العراق مثلا، كان من المهم إبراز أن الشيعة والسنة عانوا على السواء من دوامة العنف. وفي رواندا، تم تقاسم قصص أبطال أنقذوا ضحايا ينتمون إلى المعسكر العرقي الآخر لاعتبارات إنسانية، مجازفين بحياتهم أحيانا (9).

ويعتبر "معهد صحافة الحرب والسلام" في كتيب إرشادي صدر بترجمات عديدة، أن جوهر الكتابة الجيدة عن الصراع هو صحافة ملتزمة تعتمد على الحقائق، ومعتدلة في الطابع العام، ومتوازنة في اختيار المصادر والمواضيع.

يتعلق الأمر بتجاوز الاستقطاب المقيد الذي تتسم به المواد الإعلامية المقاربة للصراع، في أفق البحث عن أصوات بديلة، وتأسيس حوار بين المجتمعات، وبناء جسور عبر خطوط المواجهة، وتحديد جوانب الاتفاق، وإظهار التطورات الإيجابية. لا يتعلق الأمر بدعاية أو مساندة طرف على آخر، بل بإضاءة مناطق أخرى تسمح بإبداع آفاق أخرى للصراع.

إنه اتجاه مغاير للتيار السائد في التغطية الإعلامية للحروب التي تفيد بأن "الحرب مثيرة والسلام ممل"، أو كما قال مراسل "نيويورك تايمز" كريس هيدجز بأن "الحرب هي القوة التي تعطينا معنى"، وهي مقولة ارتضاها عنوانا لأحد كتبه.

ويوصي كتيب المجموعة البحثية الكندية بضرورة تجنب اللهجة الانفعالية التي تشمل حديث الكراهية والحط من قيمة البشر والتحريض على العنف. وتظهر مثل هذه اللغة في تغطية الصراعات عندما يشعر صحفي أن المجتمع الذي ينتمي إليه يقع تحت تهديد (10). كما يُدعى الصحفي إلى تجنب التهويل، ومن واجبه الإنصات للأصوات الهامشية التي تحمل هم السلام. فالواقع أن المتطرفين يحتلون واجهة الإعلام، بينما المعتدلون -وإن كانوا أغلبية على الأرض- يحظون بفرصة حديث أقل (11). 

 

صحافة السلام.. جدلية الالتزام والحياد

فظاعات الجيل الجديد من الحروب -ومعظمها أهلية تجري في مسرح عمليات بلا خطوط فصل واضحة بين المعسكرات المتناحرة، ولا بين المقاتلين والمدنيين- خلقت حلفاء لثقافة السلام في صفوف الصحفيين الذين يغطون مناطق النزاعات المسلحة. ففي العام 1997، نشر المراسل السابق "للبي.بي.سي" مارتن بيل مقالا يدحض فيه مفاهيم الحياد والموضوعية الإعلامية في إطار تغطية نزاع معين.

وتحت وقع المشاهد الفظيعة لتجربته في البوسنة حيث كان شاهدا على حملات التطهير العرقي، يرى بيل أن المراسل لا يمكنه أن يكون متفرجا، بل عليه أن يتحمل مسؤولياته تجاه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والفصل بين الضحية والجلاد.

من جهتها، تبنت المراسلة السابقة "للسي.أن.أن" كريستيان أمانبور خطا مماثلا في إطار "الصحافة الملتزمة". وبرأيها، فإن مجرد قيامك بتغطية متماثلة على جانبي النزاع في البوسنة مثلا، فأنت تساوي بين الضحية والمعتدي.

هذا التوجه أثار جدلا في أوساط المهنيين الذين عاب بعضهم على بيل وأمثاله خرق المبادئ المقدسة للمهنة. بل حذروا من أن السقوط في هذه الصحافة "الملتزمة" ينال من مصداقية الصحفي لدى الجمهور، واعتبروا أن الإعلام ينبغي أن يكون مستقلا عن أي إستراتيجيات ولو ذات أهداف نبيلة من قبيل بناء السلام ومساعدة الشعوب والنخب على تجاوز محن العنف المسلح.

يقول الصحفي البريطاني ديفد لوين إن منظّر صحافة السلام غالتونغ يجعل من مهام الصحفي تسليط الضوء على مبادرات السلام وتثمينها ولو كانت جنينية تتلمس طريقها، والحال أنه "ليس من مهام الصحفي خلق نخبة من رجال السياسة صناع السلام" (12). ويضيف أن تحويل وسائل الإعلام إلى مجرد أدوات ولو في خدمة السلام، يُنظر إليه كانتهاك خطير للمبادئ المهنية الأساسية. الدعاية للسلام هي بالنسبة إلى هذه الشريحة الواسعة من الصحفيين والقيادات المهنية.. دعاية.

 

خلاصات

لقد استقطبت أطروحة صحافة السلام عددا متناميا من المهنيين؛ من وقع التجارب المأساوية للإنسانية مع الحرب، لكن شريحة أوسع تعتبر وضع الصحافة في خدمة السلام يوتوبيَا بعيدة عن الواقع المعقد للنزاعات المسلحة وللممارسة المهنية على السواء. بل حتى اعتناق فكرة توظيف المهمة الإعلامية في خدمة بناء السلام لا يُنهي التضارب بين وجهات نظر مختلفة لطبيعة السلام المنشود ومداخل تحقيقه، ولأسئلة العدالة والذاكرة والمستقبل.

كل هذا لا ينفي أهمية الاستثمار في بناء جسور تعاون إيجابي بين الفاعل الإعلامي ومسارات بناء السلام في البلدان الناهضة من الحروب أو الساعية إلى ذلك. عمليات التدريب المهني، وتقوية الإطار التشريعي والمؤسساتي، ووضع مواثيق أخلاقية بانخراط الجمعيات والمؤسسات المهنية، كلها خطوات تؤسس لبيئة مواتية يتم من خلالها الترويج لثقافة السلام وتسليط الضوء على التعددية الثقافية والسياسية والاجتماعية كعامل غنًى للجماعة الوطنية.

إن تشعب التفاصيل الميدانية وتشابك الفاعلين في مسرح الاضطراب السياسي والأمني، يجعل الحديث عن دور الإعلام في بناء السلام أمرا بالغ النسبية والحساسية، ينبغي مقاربته وفقا لخصوصيات كل حالة. على أن الثابت أن السعي إلى تحويل الأهداف والانتظارات التي يسطرها تيار صحافة السلام إلى إملاءات فوقية مباشرة على الفاعل الإعلامي، سيكون مآله الفشل.

الطريقة الأنجع تكمن في تغذية بيئة مؤسساتية وتشريعية ملائمة، وضمان التفاف من القوى السياسية والمجتمعية حول تصور ديمقراطي لدور الصحافة يحرر الإعلام من سطوة الاستقطاب وحروب الوكالة، وتكريس تقاليد تدريب منتظم يغرس ثقافة السلام في المنظومة العقائدية للصحفي.

كما لا ينبغي إغفال الواقع الجديد لحركة المعلومات، الذي عرف انفجارا غير مسبوق قلب حقائق حقبة التسعينيات التي تطورت خلالها ومن وحي أزماتها فكرةُ صحافة السلام. فظهور وسائط التواصل الاجتماعي خلق قارة جديدة بتدفقات سيارة للأخبار والمعلومات والأفكار، وكسر احتكار الصحافة التقليدية لمصادر الخبر التي اتخذت طابعا غير ممركز يلعب فيه المواطن الحائز على الوسيط التكنولوجي المعلوماتي (هاتف جوال، حاسوب..) وعلى حيزه المعلوماتي الخاص (مدونات، صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي...)؛ دورَ الفاعل المساهم في صناعة الخبر والرأي. وهو واقع بقدر ما يعقد الرهان على وسائل الإعلام في القيام بأدوار نبيلة في غرس قيم السلام، يفتح المجالَ لمهام وفرص جديدة ترتسم أمام الفاعلين الدوليين والمحليين في دعم مسارات السلام وتوطيده.

 

هوامش:

1. Jean-Jacques BOGUI et Christian AGBOBLI : L’information en périodes de conflits ou de crises : des médias de masse aux médias sociaux numériques. COMMUNICATION, TECHNOLOGIE ET DÉVELOPPEMENT N°4 | SEPTEMBRE 2017 P 28.

2. Ibid p 29

3. Médias et conflits. Information et analyse sur le rôle des médias dans les conflits en Afrique centrale. Ouvrage collectif sous la direction de Marie-Soleil Frère., Editions GRIP, 2005. Presentation sur http://www.irenees.net/bdf_fiche-documentation-131_fr.html.

4. Bernard Delforce : « La responsabilité sociale des journalistes : donner du sens », in Les cahiers du journalisme, n°2, Le journaliste, acteur de société, Ecole Supérieure de Journalisme de Lille, décembre 1996, 16-33. P 18

5. Christoph Spurk : Media and Peacebuilding Concepts, Actors and Challenges. working paper 1-02. Swiss peace. Bern, November 2002. p 5.

6. Christiane Kayse : Journalisme en situation de crise, journalisme proactif et journalisme de paix : Quelques bases théoriques. In Médias et Journalisme dans le travail pour la Paix. Service civil pour la paix. Berlin 2015. P 17.

7. Christoph Spurk : Media and Peacebuilding Concepts, Actors and Challenges. Op cit. P 5.

8. Simon THIBAULT : La réforme du secteur médiatique …op cit. p 286.

9. Vladimir Bratic and Lisa Schirch : Why and When to Use the Media for Conflict Prevention and Peacebuilding, Issue Paper 6 December 2007. European Centre for Conflict Prevention. Amsterdam. p 11.

10.  معهد صحافة الحرب والسلام.. كتيب الصحفيين المحليين العاملين في مناطق الأزمات، 2004، 270 صفحة، ص 182.

11.  نفس المرجع، ص 189.

12. Christiane Kayse : Journalisme en situation de crise, journalisme proactif et journalisme de paix, p 24.

 

 

More Articles

Independent Syrian Journalism: From Revolution to Assad's Fall

Independent Syrian journalism played a pivotal role in exposing regime corruption and documenting war crimes during the 13-year revolution, despite immense risks to journalists, including imprisonment, assassination, and exile. Operating from abroad, these journalists pioneered investigative and open-source reporting, preserving evidence, and shaping narratives that challenged the Assad regime's propaganda.

Ahmad Haj Hamdo
Ahmad Haj Hamdo Published on: 17 Dec, 2024
Bolivia’s Mines and Radio: A Voice of the Global South Against Hegemony

Miners' radio stations in the heart of Bolivia's mining communities, played a crucial role in shaping communication within mining communities, contributing to social and political movements. These stations intersected with anarchist theatre, educational initiatives, and alternative media, addressing labour rights, minority groups, and imperialism.

Khaldoun Shami PhD
Khaldoun H. Shami Published on: 16 Dec, 2024
How Does Misinformation Undermine Public Trust in Journalism?

Reports reveal a growing loss of trust in the media, driven by the extent of misinformation that undermines professional journalism's ability to influence public discourse. The platforms of misinformation, now supported by states and private entities during conflicts and wars, threaten to strip the profession of its core roles of accountability and oversight.

Muhammad Khamaiseh 1
Muhammad Khamaiseh Published on: 13 Nov, 2024
Challenging the Narrative: Jeremy Scahill on the Need for Adversarial Journalism

Investigative journalist Jeremy Scahill calls for a revival of "adversarial journalism" to reinstate crucial professional and humanitarian values in mainstream Western media, especially regarding the coverage of the Gaza genocide.

Mohammad Zeidan
Mohammad Zeidan Published on: 10 Nov, 2024
Freedom of the Press in Jordan and Unconstitutional Interpretations

Since the approval of the Cybercrime Law in Jordan, freedom of opinion and expression has entered a troubling phase marked by the arrest of journalists and restrictions on media. Musab Shawabkeh offers a constitutional reading based on interpretations and rulings that uphold freedom of expression in a context where the country needs diverse opinions in the face of the Israeli ultra right wing politics.

Musab Shawabkeh
Musab Al Shawabkeh Published on: 8 Nov, 2024
Voting in a Time of Genocide

The upcoming U.S. presidential election occurs against the backdrop of the ongoing genocide in Gaza, with AJ Plus prioritising marginalised voices and critically analysing Western mainstream media narratives while highlighting the undemocratic aspects of the U.S. electoral system.

Tony Karon Published on: 22 Oct, 2024
Journalists Should Not Embrace the Artificial Intelligence Hype

What factors should journalists take into account while discussing the use of AI in the media?

Jorge Sagastume Muralles
Jorge Sagastume Published on: 16 Oct, 2024
A Year of Genocide and Bias: Western Media's Whitewashing of Israel's Ongoing War on Gaza

Major Western media outlets continue to prove that they are a party in the war of narratives, siding with the Israeli occupation. The article explains how these major Western media outlets are still refining their techniques of bias in favor of the occupation, even a year after the genocide in Palestine.

Mohammad Zeidan
Mohammad Zeidan Published on: 9 Oct, 2024
A Half-Truth is a Full Lie

Misinformation is rampant in modern conflicts, worsened by the internet and social media, where false news spreads easily. While news agencies aim to provide unbiased, fact-based reporting, their focus on brevity and hard facts often lacks the necessary context, leaving the public vulnerable to manipulation and unable to fully grasp the complexities of these issues.

Ilya
Ilya U Topper Published on: 30 Sep, 2024
Testimonies of the First Witness of the Sabra & Shatila Massacre

The Sabra and Shatila massacre in 1982 saw over 3,000 unarmed Palestinian refugees brutally killed by Phalangist militias under the facilitation of Israeli forces. As the first journalist to enter the camps, Japanese journalist Ryuichi Hirokawa provides a harrowing first-hand account of the atrocity amid a media blackout. His testimony highlights the power of bearing witness to a war crime and contrasts the past Israeli public outcry with today’s silence over the ongoing genocide in Gaza.

Mei Shigenobu مي شيغينوبو
Mei Shigenobu Published on: 18 Sep, 2024
Anonymous Sources in the New York Times... Covering the War with One Eye

The use of anonymous sources in journalism is considered, within professional and ethical standards, a “last option” for journalists. However, analysis of New York Times data reveals a persistent pattern in the use of “anonymity” to support specific narratives, especially Israeli narratives.

Mohammad Zeidan
Mohammad Zeidan Published on: 8 Sep, 2024
India and Pakistan; Journalists building Bridges for Understanding

Amid decades of tension, journalists from India and Pakistan are uniting to combat hostile narratives and highlight shared challenges. Through collaboration, they’re fostering understanding on pressing issues like climate change and healthcare, proving that empathy can transcend borders. Discover how initiatives like the Journalists' Exchange Programme are paving the way for peace journalism and a more nuanced narrative.

Safina
Safina Nabi Published on: 12 Aug, 2024
From TV Screens to YouTube: The Rise of Exiled Journalists in Pakistan

Pakistani journalists are leveraging YouTube to overcome censorship, connecting with global audiences, and redefining independent reporting in their homeland.

Anam Hussain
Anam Hussain Published on: 28 Jul, 2024
How AI Synthesised Media Shapes Voter Perception: India's Case in Point

The recent Indian elections witnessed the unprecedented use of generative AI, leading to a surge in misinformation and deepfakes. Political parties leveraged AI to create digital avatars of deceased leaders, Bollywood actors

Suvrat Arora
Suvrat Arora Published on: 12 Jun, 2024
The Rise of Podcasting: How Digital Audio Is Revolutionising Journalism

In this age of digital transformation and media convergence, podcasts stand out as a testament to the enduring power of journalism—a medium that transcends borders, sparks conversations, and brings the world closer together.

Anam Hussain
Anam Hussain Published on: 6 Jun, 2024
Under Fire: The Perilous Reality for Journalists in Gaza's War Zone

Journalists lack safety equipment and legal protection, highlighting the challenges faced by journalists in Gaza. While Israel denies responsibility for targeting journalists, the lack of international intervention leaves journalists in Gaza exposed to daily danger.

Linda Shalash
Linda Shalash Published on: 9 May, 2024
Your Words Are Your Weapon — You Are a Soldier in a Propaganda War

Narrative warfare and the role of journalists in it is immense; the context of the conflict, the battleground has shifted to the realm of narratives, where journalists play a decisive role in shaping the narrative.

Ilya
Ilya U Topper Published on: 21 Apr, 2024
The Privilege and Burden of Conflict Reporting in Nigeria: Navigating the Emotional Toll

The internal struggle and moral dilemmas faced by a conflict reporter, as they grapple with the overwhelming nature of the tragedies they witness and the sense of helplessness in the face of such immense suffering. It ultimately underscores the vital role of conflict journalism in preserving historical memory and giving a voice to the voiceless.

Hauwa Shaffii Nuhu
Hauwa Shaffii Nuhu Published on: 17 Apr, 2024
Journalism in chains in Cameroon

Investigative journalists in Cameroon sometimes use treacherous means to navigate the numerous challenges that hamper the practice of their profession: the absence of the Freedom of Information Act, the criminalisation of press offenses, and the scare of the overly-broad anti-terrorism law.

Nalova Akua
Nalova Akua Published on: 12 Apr, 2024
The Perils of Journalism and the Rise of Citizen Media in Southeast Asia

Southeast Asia's media landscape is grim, with low rankings for internet and press freedom across the region. While citizen journalism has risen to fill the gaps, journalists - both professional and citizen - face significant risks due to government crackdowns and the collusion between tech companies and authorities to enable censorship and surveillance.

AJR Contributor Published on: 6 Apr, 2024
Orientalism, Imperialism and The Western Coverage of Palestine

Western mainstream media biases and defence of the Israeli narrative are connected to orientalism, racism, and imperialism, serving the interests of Western ruling political and economic elites. However, it is being challenged by global movements aiming to shed light on the realities of the conflict and express solidarity with the Palestinian population.

Joseph Daher
Joseph Daher Published on: 1 Apr, 2024
Ethical Dilemmas of Photo Editing in Media: Lessons from Kate Middleton’s Photo Controversy

Photoshop—an intelligent digital tool celebrated for enhancing the visual appearance of photographs—is a double-edged sword. While it has the power to transform and refine images, it also skillfully blurs the line between reality and fiction, challenging the legitimacy of journalistic integrity and the credibility of news media.

Anam Hussain
Anam Hussain Published on: 26 Mar, 2024
Breaking Barriers: The Rise of Citizen Journalists in India's Fight for Media Inclusion

Grassroots journalists from marginalized communities in India, including Dalits and Muslims, are challenging mainstream media narratives and bringing attention to underreported issues through digital outlets like The Mooknayak.

Hanan Zaffa
Hanan Zaffar, Jyoti Thakur Published on: 3 Mar, 2024
Silenced Voices and Digital Resilience: The Case of Quds Network

Unrecognized journalists in conflict zones face serious risks to their safety and lack of support. The Quds Network, a Palestinian media outlet, has been targeted and censored, but they continue to report on the ground in Gaza. Recognition and support for independent journalists are crucial.

Yousef Abu Watfe يوسف أبو وطفة
Yousef Abu Watfeh Published on: 21 Feb, 2024